الانتفاع المَثَلي بالقرآن الكريم - السيد محمد باقر السيستاني (حفظه الله)
(ملاحظة: تم استلال هذا البحث من مجموعة محاضرات ألقاها آية الله السيد محمد باقر السيستاني (حفظه الله) في النجف الأشرف في تفسير القراآن الكريم / المحاضرة الثانية / القسم 1 / ليلة الأربعاء /2 شهر رمضان المبارك /1440هـ)
الأمر الخامس: هو النظر المَثَلي، والانتفاع المَثَلي بالقرآن الكريم ..
و معنى النظر المَثَلي : أن يكون الكلام ناظراً إلى إلفات السامع إلى ما هو من قبيل ما وُصِف فيه، كما أن المثل قد يتضمن حادثةً جزئيَّة لكنها تكون قنطرة ومَعبَراً إلى معنی عام.
وأما الانتفاع المثلي: فهو أن يتأمَّل المخاطَبُ الكلامَ تأمُّلاً مَثَلياً فيجعله مَعبَراً إلى ما هو من قبيله.
والنظر المَثَلي: ميزةٌ فكريَّة وبلاغيَّة في الكلام، وهو أمرٌ منظورٌ في الآيات القرآنية؛ فالقرآن الكريم يحثُّ الإنسان على النظَر المَثَلي إلى حوادث الحياة، کما إنَّه يحثُّ على النظر المَثَلي إلى مضمون الخطاب القرآني في كافة الخصوصيات التي يتضمنها.
[ النظر المَثَلي إلى الحوادث ]
أما النظر المَثَلي إلى الحوادث والأشياء: فهو يكون من خلال العقلانيات الإنسانية الثلاث: وهي:
۱- العقلانية المعرفية، وهي روح التفكير والمعرفة في الإنسان .
2- العقلانية الحِكَمية، وهي روح الحكمة في الإنسان، وتعني نزوع الإنسان إلى الخيار الأمْثَل والأصلح بين الخيارات المتعددة المتاحة .
٣- العقلانيّة القيميّة، وهي الضمير الأخلاقي للإنسان.
[ العقلانية المعرفيَّة ]
أما العقلانيّة المعرفيّة: فإنَّ النظر المَثَلي إلى الأشياء يُقوِّي في الإنسان روح التأمّل والتفكير العالي، حيث يتيح للإنسان تأمل الأشياء من منطلقٍ عالٍ، ويوجب انتباه الإنسان إلى انتماء المفردةِ التي يتأمَّلها والحالةِ الخاصَّة التي ينظرُ إليها إلى الظاهرة العامة التي يشملها؛ فهو يعلو بأُفق الإنسان في التفكير والتأمُّل، و يُوجِب تناسق تفكير الإنسان، وتقديره للأشياء المتشابهة تقديراً ملائماً و مناسباً.
فالتأمُّل المَثَلي يقوِّي روحَ التعقّل والمعرفة في الإنسان في ما يتعلّق باستكشاف الأشياء .
ولذلك كان الاستقراء والملاحظة والتجربة من أهم مصادر الفكر الإنسانيّ، فالاستقراء يرفد الفكر الإنساني على نحوين :
الأول: أن يساعد على إثبات الفكرة العامة على سبيل تجميع المؤشرات والقرائن(1)
والثاني: أن يكون الاستقراء مُنبِّها على فكرةٍ عامّة ومناسبة من قبيل بعض السنن التاريخية والاجتماعيّة والمبادئ العامّة للتفكير الإنسانيّ؛ حيث إنّ ملاحظة بعض الموارد تكون منبهّا على فكرةٍ عامّةٍ يمكن للإنسان أن ينتزعها من خلال تأمُّل المورد واستنطاقه.
إذن النظر المَثَلي يُساعد على العقلانيّة المعرفيّة
[ العقلانيَّة الحِكَميَّة ]
وأما العقلانية الحِكَميَّة: فهي أيضاً تقوى بالنظر المَثَليّ، لأنَّ الحكمة تعني الاعتبار والاتّعاظ بالأشياء والحوادث التي يطَّلِع الإنسان عليها وحصول الوقع الملائم في النفس لها، باعتبار أنّها أمثالٌ ونظائرٌ لغيرها ممكن أن يتّفق لاحقاً، فإذا اطّلع على شخصٍ وقع في مأزقٍ لسبب ما ينتبه - إذا كان حكيماً - إلى أن لا يقع في مثله، وقد جاء في الروايات: (إن المؤمن لا يلدغ من جِحرٍ مرتين)(۲)
إذن تبتني الحكمة على الاستلهام المَثَلي من الحوادث والأشياء، فكلّ حادثةٍ تقع أمامنا يمكن أن تُمثِّل مُنَبِّهاً حِكَمِيَّا للإنسان، كما تمثّل تجربةً ومؤشّراً معرفيا كما تقدَّم .
ومن ذلك: أن بعض أساتیذنا كان إذا نظر إلى الزهرة في يوم وهي رائعة وجميلة، ورآها في يوم ثانٍ شاحبة وجافَّة وقد ذَبُلَت ينتقل من ذلك إلى أن مصير الأشياء كلها إلى الزوال و الفناء وكذلك مصيره هو، وأنه إذا كان اليوم يعيش في ريعان الشباب و الصحَّة فتلك كلّها ودائعٌ، وعلى الإنسان الاستثمار المناسب لهذه الحياة . فهذه رؤيّة حكيمة وثاقبة للحياة وحوادثها.
إننا نستطيع أن نعتبر كل حَدَثٍ نشهده أمامنا وننظر إليه بعين أنه رسالة إلينا، فالأشياء والحوادث كلها رسائل الله سبحانه وتعالى إلينا بلغة الخَلق.. فإذا رأينا أمامنا شیخاً كبيراً فينبغي لنا۔ من المنطلق الحكيم - أن نستذكر أن ما نتمتع به من صحة وجمال ومقدرة، ونِعَمٍ أخرى كلها ودائع لدينا، وأن مصيرنا مصير هذا الشيخ الذي نشهد أنه يمشي بعناء ويتكئ على العصا، وقد تغيَّرت ملامحه عن شبابه .. فهذا مثال للرؤية الحكيمة .
فكل ما حولنا كما هي رسائل معرفيَّة لنا فهي رسائل حِکَمِيّة يمكن لنا أن نعتبر بها.
[ العقلانيَّة القِيميَّة ]
وأما العقلانيّة القِيميَّة: - وهي الضمير الأخلاقيّ للإنسان - فإنّها أيضا تقوى من خلال النظر المَثَلي إلى الأشياء؛ حيث إنه يساعد على استحضار القِيَم؛ بمعنى أن ينتبه الإنسان من استقباح حادثة إلى قبح أمثالها، ومن استحسان سلوك إلى حسن أمثاله.. فإذا استقبح مثلا سلوكاً صدر من أحدٍ انتقل إلى قبح مثله ولو صدر منه، وإذا استحسن شيئا انتقل إلى حسن مثله ولو صدر منه أيضا، كما ورد في الحديث الشريف (أحِبَّ لغيرك ما تحب لنفسك واكرَه له ما تكره لنفسك)(۳).
مثلا إذا صدر تّجاهي موقفٌ من الغير أدَّى إلى شدّة في الكلام أو جفاء في المعاملة وتأذَّيتُ فعليَّ أن أتأمَّل حال الغير إذا صدرت منِّي شدة تجاهه بأيّ سبب، فأنتقل من ذلك أن الآخرين يتأذون من تعاملي معهم كذلك، كما أجدني أتأذَّى من تعامل الآخرين معي بجفاء.. فهذا نوع من النظر المَثَلي إلى الحوادث.
وبذلك يتّضح: أن النظر المَثَلي للأشياء نظرٌ یوسِّع المعرفة، ويجعل من كل حادثة تتمثَّل أمام الإنسان مؤشِّرا معرفيَّا بدرجةٍ أو أخرى يختزنه الذهن الثاقب، وحَدَثاً حِكَمياً بمداليله الحِكَميَّة، وحدثاً قيميَّاً أيضا بدلالاته على السلوك الفاضل والجميل .
فكل شيءٍ من الحوادث التي تقع أمامنا تتضمن رسائل معرفيَّة أو حِكَمِيَّة أو قِيميَّة مختلفة. والناظرون إلى الحياة بالنظرة الثاقبة - من الحكماء والصالحين وأولياء الله سبحانه وتعالى - يصدرون إلى الأشياء والحوادث كلها بهذه الصبغات الثلاثة المعرفية والحِكَمِيَّة والقيمية. هذا بالنسبة إلى النظر المَثَلي إلى الحوادث.
[ النظر المَثَلي إلى الكلام ]
وأما النظر المَثَلي إلى الكلام: فهو يؤدي إلى سعة مداليل الكلام وسعة الانتفاع به، ويساعد على التفطّن و التفقّه لملاحن الكلام وإيماءآته الذكيَّة.
بيان ذلك: أن المتعارَف في كلمات الناس إلقاء الكلام وتلقّيه بخصوصيّاته التي جاء فيها إلا ما سيق سوقاً مَثَلياً خاصاً، كما في مورد الاستشهاد بالأمثال، كقول القائل: (نفسُ عصامٍ سوَّدت عصاما وعلَّمته الكرَّ والإقداما) يُضرب مثلاً لمن يؤسس المجدَ بنفسه ولا يعتمد على سلفه، ولذا يقال هذا عصامي وذاك عظامي. أو يقال لمن يُخبئُ خبراً مشهوراً: (ما يوم حليمة بسِرِّ)
ولكن كلما كان الكلام مسوقاً سوقا حِكَمياً وكان المتكلم أكثر حكمةً وأوسع نظراً، وكان نظره في التفهيم أعلى وأوسع فيمكن أن يُنظَر إلى كثيرٍ من الخصوصيات التي يلقيها بنظرةٍ مَثَلية.
ولذا إذا ركَّز الشخص المخاطَب على الخصوصية و حصر مدلول الكلام بها نبَّهه المتكلّم على أنه إنما ينظر إليها على سبيل المثال..
فإذا قال الأب لابنه: (يا بنيّ لا تُصاحب فلاناً فإنِّي أخشى عليك من مصاحبته)، ثم وجده بعد ذلك يلقى آخرين من أمثاله اعترض عليه بأنه نهاه عن مثل ذلك، ولو استند الابن إلى أنه إنما نهاه الأب عن شخص خاصٍّ أجاب الأب: (إنمها نهيتُك عن ذاك على سبيل المثال)
فكلما كان المتكلم أوسع نظراً وأكثر إحاطةً فهو إنَّما ينظر إلى الخصوصيات التي يقتضيها المقام بنظرة مَثَليَّة، ولا تكون تلك الخصوصيات حدَّاً لما هو مقصوده بالتفهيم بالكلام؛ بل يكون للكلام مراتب ومستويات:
فيكون المستوى الأدنى هو بخصوصیات محدَّدة، ويكون هناك مستويات أعلى تكون هذه الخصوصيات فيها مَعبَراً إلى أفق أعلى ليفيد الكلام معنى مَثَليِّا.
وبما أنَّ الله سبحانه وتعالى المتكلم بالقرآن الكريم مُهيمن على جميع الأشياء، وقد ساق القرآن الكريم لهداية الإنسان معرفيَّاً وحِكَميَّاً وقيميَّاً فإنَّه بطبيعة الحال يكون ناظراً إلى خصوصيات الكلام بنظرةٍ مَثَليّة؛ لينتقل الإنسان منها إلى مستوى أعلى ينطبق في طيفٍ واسعٍ من الحوادث والأشياء .
ولهذه القاعدة شواهدها من الآيات القرآنية كما تجري عليها سيرة المتَّقين في كيفية تلاوة القرآن الكريم(4) .
فهذه جهة ينبغي الالتفات إليها.
ومِن ثَمَّ ينبغي لمُفسِّر القرآن الكريم - لأجل أن يفسِّره بنحو ملائم مع المنظور بالكلام بمراتبه : أن يلتفت إلى النَظَر المَثَلي منه بعد الانتهاء من النظر النصّي إلى الكلام.. وهو نظرٌ يوسّع من انتفاعات الكلام، ويجعل الكلام ذا مدلول وذا فاعلية أكثر.
والحديث في ذلك كثير ولطيف، لكنّنا في هذا المدخل بصدد إرساء منهجٍ سيّالٍ وعامٍّ للتفسير فحسب حتى نجري عليه، ويتم التعويل على ما وصفناه هنا على سبيل الإيجاز والإرجاع إلى هذه المقدمات، ولا يسعنا تفصيل ذلك .
_____
الهوامش:
(1) وهو ما يعرف بنظرية حساب الاحتمالات.
(۲) لاحظ مسند أحمد: ۲/ ۱۱۰، ولاحظ الكافي: ۲/ 241، لكن فيه (لا يلسع) .
(۳) ينظر: الكافي: 2 / ۱۹۹
(4) كما يشير إليها ما ورد في خطبة المتقين لأمير المؤمنين (عليه السلام)، حيث جاء فيها: "أمَّا اللَّيل فصافُّونَ أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلاً، يُحزِّنون به أنفسهم ويستثيرون به دواء دائهم" (نهج البلاغة الخطية: ۱۹۳ ص 304؛ فإن فيه إشارة إلى أنهم ينظرون إلى المضامين القرآنية بالنظر المَثَلي؛ ومن ثَمّ يستشيرون به الفكر الماحي للجهل.
اشترك في قناتنا على التيليجرام