الدليل العلميّ الاستقرائي لإثبات وجود الله تعالى - السيد محمد باقر الصدر (قدس سره)
يُعرَّف الدليل العلميّ: على أنّه كلّ دليل يعتمد الحسّ والتجربة ويتّبع النهج الاستقرائيّ، القائم على حساب الاحتمالات.
ولكنْ قبل أنْ نستعرض هذا الدليل وتطبيقاته المنهجيّة في إثبات وجود الله تعالى، لا بُدّ أنْ نشرح هذا المنهج الاستقرائيّ، ونُحدِّد خطواته بصورة مبسَّطة وموجزة، وبعد ذلك نُقيّمه، لنتعرّف إلى مدى إمكان الوثوق به، والاعتماد عليه في اكتشاف الحقائق والتعرُّف إلى الأشياء.
أ- تحديد المنهج الاستقرائيّ وخطواته :
إنّ منهج الدليل الاستقرائيّ القائم على حساب الاحتمالات، يُمكن تلخيصه في الخطوات الخمس التّالية:
أوّلاً: نواجه في مجال الحسّ والتجربة ظواهر عديدة.
ثانياً: ننتقل بعد ملاحظتها وتجميعها إلى مرحلة تفسيرها، والمطلوب في هذه المرحلة أنْ نجد فرضيّة صالحة وواقعيّة، لتفسير تلك الظواهر، وتبريرها جميعاً.
ثالثاً: نُلاحظ أنّ هذه الفرضيّة، إذا لم تكن صحيحة وثابتة في الواقع، ففرصة وجود تلك الظواهر كلّها مجتمعة ضئيلة جدّاً, بمعنى أنّه على افتراض عدم صحّة الفرضيّة، تكون نسبة احتمال وجودها ـ أي الظواهر ـ جميعاً إلى احتمال عدمها، أو عدم واحد منها على الأقلّ، ضئيلة جدّاً، كواحد في المائة أو واحد في الألف وهكذا.
رابعاً: نستخلص من ذلك أنّ الفرضيّة صادقة ويكون دليلنا على صدقها، وجود تلك الظواهر الّتي أحسسنا بوجودها في الخطوة الأولى.
خامساً: إنّ درجة إثبات تلك الظواهر، للفرضيّة المطروحة في الخطوة الثانية، تتناسب عكسيّاً مع نسبة احتمال وجود تلك الظواهر جميعاً إلى احتمال عدمها على افتراض كذب الفرضيّة، فكلّما كانت هذه النسبة أقلّ كانت درجة الإثبات أكبر، حتّى تبلغ في حالات اعتياديّة كثيرة درجة اليقين الكامل بصحّة الفرضيّة (1).
هذه هي الخطوات الّتي نتّبعها عادة في كلّ استدلال استقرائيّ يقوم على أساس حساب الاحتمال، سواء في مجال الحياة الاعتياديّة، أو على صعيد البحث العلميّ، أو في مجال الاستدلال على الصانع الحكيم سبحانه وتعالى. وما سيأتي من تطبيق هذه الخطوات سيوضّح لنا ذلك بدرجة كافية.
ب - تقييم المنهج الاستقرائيّ:
تقييم هذا المنهج وتحديد مدى إمكان الوثوق به، لا يكون عن طريق تحليله منطقيّاً، واكتشاف الأسس المنطقيّة والرياضيّة الّتي يقوم عليها, لأنّ هذا يضطّرنا إلى الدخول في أشياء معقّدة.
بل نُقيّم المنهج الّذي سنتّبعه في الاستدلال على الصانع الحكيم، في ضوء تطبيقاته الأخرى العمليّة، المعترف بها عموماً لكلّ إنسان سويّ، وسنرى حينها أنّ هذا المنهج هو نفس المنهج الّذي نعتمده في استدلالاتنا الّتي نثق بها كلّ الثقة في حياتنا اليوميّة الاعتياديّة، والّتي نذكر منها المثال التّالي:
أنت في حياتك الاعتياديّة، حين تتسلّم رسالة بالبريد، تعرف بمجرّد قراءتها أنّها من أخيك، لا من شخص آخر ممّن يرغب في مواصلتك ومراسلتك, لأنّك بذلك أنت تُمارس استدلالاً استقرائيّاً قائماً على حساب الاحتمال، ومهما كانت هذه القضيّة (وهي أنّ الرسالة من قبل أخيك) واضحة في نظرك، فهي في الحقيقة قضيّة استنتجتها
بدليل استقرائيّ وفقاً للمنهج المتقدّم. وهذا ما سيتبّين لنا من تطبيق الخطوات الخمس التّالية للمنهج الاستقرائيّ:
الخطوة الأولى: تواجه فيها ظواهر عديدة، من قبيل أنّ الرسالة تحمل اسماً يتطابق مع اسم أخيك تماماً، وقد كُتبت فيها الحروف جميعاً، بنفس الطريقة الّتي يكتب بها أخوك، وبنفس أسلوب التعبير، والرسالة تتضمّن معلومات يعرفها أخوك عادة، وتتوافق مع حاجاته وآرائه.
هذه إذاً مجموعة الظواهر والمعطيات.
الخطوة الثانية: نطرح السؤال التّالي: هل الرسالة قد أرسلها أخي إليّ حقّاً، أو أنّها من شخص آخر يحمل نفس الاسم؟
وهنا نجد أنّ لديك فرضيّة صالحة وواقعيّة لتفسير وتبرير كلّ تلك الظواهر.
والفرضيّة هي: أنْ تكون هذه الرسالة من أخيك حقّاً، فإذا كانت من أخيك، فمن الطبيعيّ أنْ تتوافر كلّ تلك المعطيات الّتي لاحظتها في المرحلة الأولى.
الخطوة الثالثة: نطرح السؤال التّالي: إذا لم تكن هذه الرسالة من أخي، بل كانت من شخص آخر، فما هي فرصة أنْ توجد فيها كلّ تلك المعطيات والخصائص الّتي لاحظتها في الخطوة الأولى؟
إنّ هذه الفرضيّة بحاجة إلى مجموعة كبيرة من الافتراضات, لأنّنا لكي نحصل على كلّ تلك المعطيات والخصائص، في هذه الحالة يجب أنْ نفترض أنّ شخصاً آخر يحمل نفس الاسم، ويُشابه أخاك تماماً في أسلوب الكتابة، والتعبير، والمعلومات، والحاجات. وهذه مجموعة من الصدف يُعتبر احتمال وجودها جميعاً ضئيلاً جدّاً، وكلّما ازداد عدد هذه الصدف الّتي لا بُدّ من افتراضها تضاءل الاحتمال أكثر فأكثر.
الخطوة الرابعة: تقول ما دام وجود كلّ هذه الظواهر في الرسالة أمراً غير محتمل، إلاّ بدرجة ضئيلة جدّاً، على افتراض أنّ الرسالة ليست من أخيك، فمن المرجّح بدرجة كبيرة، بحكم وجود هذه الظواهر فعلاً، أنْ تكون الرسالة من أخيك.
الخطوة الخامسة: هنا نربط بين الترجيح الّذي قرّرته في الخطوة الرابعة، (ومؤدّاه أنّ الرسالة قد أُرسلت من أخيك)، وبين ضآلة الاحتمال الّتي قرّرتها في الخطوة الثالثة، وهي ضآلة احتمال أنْ توجد كلّ تلك الظواهر في الرسالة، بدون أنْ تكون من أخيك.
ويعني الربط بين هاتين الخطوتين: أنّ درجة ذلك الترجيح تتناسب عكسيّاً مع ضآلة هذا الاحتمال، فكلّما كان هذا الاحتمال أقلّ درجة، كان ذلك الترجيح أكبر قيمة وأقوى إقناعاً، وإذا لم تكن هناك قرائن عكسيّة تنفي أنْ تكون الرسالة من أخيك، فسوف تنتهي من هذه الخطوات الخمس إلى القناعة الكاملة بأنّ الرسالة من أخيك.
إذاً إضافة إلى هذا المثال الّذي تقدّم، فإنّه يوجد العديد من الأمثلة الأخرى في مجال حياتنا اليوميّة أو في مجال البحث العلميّ، إلّا أنّ السؤال الّذي يطرح نفسه هنا هو التّالي:
كيف نُطبّق هذا المنهج العلميّ في إثبات الصانع؟
الخطوة الأولى: نُلاحظ توافقاً مطّرداً بين عدد كبير وهائل من الظواهر المنتظمة، وبين حاجة الإنسان ككائن حيّ، وتيسير الحياة له، على نحو نجد فيه أنّ أيّ بديل لظاهرة من تلك الظواهر، يعني انطفاء حياة الإنسان على الأرض أو شلّها، ومن تلك الظواهر نذكر - على سبيل المثال - نموذجين، هما:
أ- تتلقّى الأرض من الشمس كمّيّة من الحرارة، تمدّها بالدفء الكافي لنشوء الحياة، وإشباع حاجة الكائن الحيّ إلى الحرارة، لا أكثر ولا أقلّ. وقد لوحظ علميّاً أنّ المسافة الّتي تفصل بين الأرض والشمس تتوافق توافقاً كاملاً مع كمّيّة الحرارة المطلوبة من أجل الحياة على هذه الأرض، فلو كانت ضعف ما عليها الآن، لما وجدت حرارة بالشكل الّذي يُتيح الحياة، ولو كانت نصف ما عليها الآن، تضاعفت الحرارة إلى الدرجة الّتي لا تُطيقها الحياة.
ب - ونُلاحظ ظاهرة طبيعيّة أخرى تتكرّر باستمرار ملايين المرّات على مرّ الزمن، لتنتج قدراً معيّناً من الأوكسجين المتوازن باستمرار، وهي أنّ الإنسان - والحيوان عموماً - حينما يتنفّس الهواء، ويستنشق الأوكسجين، يتلقّاه الدم، ويوزَّع في جميع أرجاء الجسم، ويُباشر هذا الأوكسجين حرق الطعام، وبهذا يتولّد ثاني أوكسيد الكربون، الّذي يتسلّل إلى الرئتين، ثُمّ يلفظه الإنسان، وبهذا ينتج الإنسان وغيره من الحيوانات هذا الغاز باستمرار. وهذا الغاز نفسه شرط ضروريّ لحياة كلّ نبات، والنبات بدوره حين يستمدّ ثاني أوكسيد الكربون، يفصل الأوكسجين منه، ويلفظه ليعود نقيّاً صالحاً للاستنشاق من جديد، وبهذا التبادل بين الحيوان والنبات، أمكن الاحتفاظ بكمّيّة من الأوكسجين، ولولا ذلك لتعذّر هذا العنصر، وتعذّرت الحياة على الإنسان نهائيّاً.
لذا قال تعالى: "وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ " (2) .
الخطوة الثانية: بناء على ما سبق من حالة التوافق المستمرّ بين الظواهر الطبيعيّة ومهمّة ضمان الحياة، يُمكن أنْ نُفسِّر ذلك عبر طرح الفرضيّة التّالية:
أنْ نفترض صانعاً حكيماً لهذا الكون، قد استهدف أنْ يوفّر في هذه الأرض عناصر الحياة وسير مهمّتها، وذلك من خلال إيجاد توافق وتكامل بين الظواهر الطبيعيّة في هذا الكون الواسع.
الخطوة الثالثة: نتساءل إذا لم تكن فرضيّة الصانع الحكيم ثابتة في الواقع، فما هو مدى احتمال أنْ توجد كلّ تلك التوافقات، بين الظواهر الطبيعيّة ومهمّة تيسير الحياة دون أنْ يكون هناك هدف مقصود؟
من الواضح أنّ احتمال ذلك يعني افتراض مجموعة هائلة من الصدف، وإذا كان احتمال أنْ تكون الرسالة المقدّمة إليك - في المثال السابق - من شخص آخر غير أخيك، ولكنّه يُشابهه في كلّ الصفات بعيداً جدّاً, لأنّ افتراض المشابهة في ألف صفة ضئيل، بدرجة كبيرة في حساب الاحتمالات، فما ظنّك باحتمال أنْ تكون هذه الأرض الّتي نعيش عليها، بكلِّ ما تتضمّنه، من صنع مادّة غير هادفة ولكنّها تُشابه الفاعل الهادف الحكيم في ملايين ملايين الصفات؟
الخطوة الرابعة: ترجّح بدرجة لا يشوبها الشكّ أنْ تكون الفرضيّة الّتي طرحتها في الخطوة الثانيّة صحيحة, أيّ أنّ هناك صانعاً حكيماً.
الخطوة الخامسة: نربط بين هذا الترجيح وبين ضآلة الاحتمال الّتي قرّرناها في الخطوة الثالثة. ولمّا كان الاحتمال في الخطوة الثالثة يزداد ضآلة كلّما ازداد عدد الصدف الّتي لا بُدّ من افتراضها فيه - كما عرفنا سابقاً - فمن الطبيعيّ أنْ يكون هذا الاحتمال ضئيلاً، بدرجة لا تُماثلها احتمالات الخطوة الثالثة في الاستدلال على أيّ قانون علميّ, لأنّ عدد الصدف الّتي لا بُدّ من افتراضها في احتمال الخطوة الثالثة هنا أكثر من عددها في أيّ احتمال مناظر، وكلّ احتمال من هذا القبيل فمن الضروريّ أنْ يزول.
وهكذا نصل إلى النتيجة القاطعة، وهي أنّ للكون صانعاً حكيماً، بدلالة كلّ ما في هذا الكون من آيات الاتّساق والتدبير:
"سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" (3) .
"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" (4) .
* المصدر : كتاب المرسِل والرسول والرسالة للسيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) المطبوع في آخر رسالته العملية (الفتاوى الواضحة)
____
الهوامش
(1) للمزيد من التفاصيل، يراجع كتاب: الأسس المنطقيّة للاستقراء لمؤلفه الشّهيد السّعيد محمّد باقر الصّدر قدس سره
(2) سورة النحل، الآية 18
(3) سورة فصلت، الآية 53
(4) سورة البقرة، الآية 164
قناتنا على التيليجرام