بقلم: الشيخ عبد الغني عرفات
مباحث الحكمة المتعالية
رسالة للسيّد عبد الأعلى السبزواري من 43 ورقة، صدر عن منشورات مكتبة السيد السبزواري سنة 1443.
وعلى اختصار هذه الرسالة ووجازتها إلا أنها تنطوي على كثير من الآراء والنظريات لمؤلفها قدس سره.
[ تدريس السيد السبزواري لكتاب الأسفار ]
قال في مقدمتها: " جمعتها عندما كنت ألقيها على المحصلين لها أرجو أن ينفع الله بها الجميع إنه السميع المجيب" .وحدثني ولده الأعز جناب الأستاذ السيد علي السبزواري حفظه الله تعالى فقال: عندما حدث الحصار على الشهيد محمد باقر الصدر خلال سبعة أو ثمانية أشهر وعلى الحوزة وكان الطلبة يؤخذون للاعتقال أو الإعدام وكنا نخشى من الخروج خارج المنزل اقترحت على السيد الوالد أن يدرسنا الفلسفة فاستجاب فكان يلقي علينا مطالب كتاب الأسفار وكنا نمسك بالكتاب أنا وأخي السيد محمد بينما السيد الوالد كان يلقي من حافظته وكأنه قد حفظ كتاب الأسفار .
وقد كتبت هذه الدروس وسجّلتها في حينه ولكنها قليلة.
وأما هذه الرسالة الماثلة بين أيدينا فهي بقلم والده المقدس السيد عبد الأعلى.
رأيه في العرفان
قال : " العرفان هو كمال النفس في قوتي العلم والعمل، وانقطاعها عن الماديات بالكلية ، وتوجهها إلى حضرة الأحدية من كل جهة بحيث تصير النفس مرآة صافية في نهاية الصفاء وتستعد للواردات القلبية من الملكوت الأعلى .
وهو ممكن ثبوتًا ولا إشكال فيه وهو معقول على نحو التشكيك ولكن إثبات أن كل ما هو وارد قلبي مطابق للواقع الحقيقي مشكل جدا؛ لأن للملكات النفسانية وكمالاتها آثارا خاصة بالنسبة إلى الواردات القلبية كما هو معلوم، ولذا أجمع فقهاء المسلمين على أنه لا اعتبار بها في الاحكام مالم تكن مستندة إلى كيفية خاصة معروفة في الاستفادة من الكتاب والسنة فكيف بما إذا كانت الواردات في أصول المعرفة الحقه الإلهية التي تكون من أشد مزال الأقدام و أصعب الأشياء على عقول جميع الانام ".
[ رأيه في الكشف والشهود ]
وقال في الكشف والشهود :
" وهو ما اكتفى به جمع في الاعتماد على جملة من المطالب من دون بيان الاستدلال لها وإقامة البرهان عليها كابن عربي والفارض والشيخ الإشراقي ونحوهم وهو باطل للوجوه التالية :
أولًا: إنه أعم من الواقع إذ المكشوفات والمشاهدات القلبية على - فرض الصحة في غير النبي صلى الله عليه وآله والمعصومين من خلفائه عليهم السلام - تدور مدار الاعتقادات والملكات النفسانية ولا ريب في أن للجهاد دخل في المكاشفات كما أن للعوارض النفسانية من غلبة إحدى الأخلاط الأربعة على الآخر فيها دخل كما ثبت في علم النفس قديما وحديثا فتختلف باختلاف الحالات والحال أن الواقع لا اختلاف فيه .
ثانيا : إنّ نسبة الكشف والشهود لجميع افراد البشر من هبوط آدم عليه السلام إلى انقراض العالم نسبته إلى الواقع ليست إلا كنسبة رأس إبرة تدخل في البحر المحيط في الدنيا وتخرج فيما تأخذه من النداوة من البحر ، ومع هذا الإهمال والإجمال لا وجه لأن يعتمد عليه نفس الكاشف والشاهد فضلا عن غيره . نعم الأنبياء والمرسلين وكذا الائمة المعصومين عليهم السلام يفيض الله عليهم بما يشاء ويقدر ما يشاء لاحتياج الناس إلى فقههم، ولا يكون هذا من الكشف والشهود في شيء ، وما ظفرت على إطلاق الكشف والشهود بالنسبة إليهم بالمعنى الذي يدعيه هؤلاء .
ثالثا : أجمع المسلمون على أنه لا أثر للكشف والشهود في الفروع العقلية فضلا عن أصول المعارف الإلهية" ص 49.
رأيه في الأسفار الأربعة
وقال في الأسفار الأربعة : " وقد رتب صدر المتألهين كتابه على هذا الترتيب . ولا ريب في صحة ثبوت تصوير هذه الأسفار الروحانية ولكل سفر واحد من هذه الأسفار مراحل ومراتب كثيرة ، ولكن مسافرين هذه الأسفار يختص بالأنبياء والمرسلين وأوصيائهم الذين صارت الدنيا لديهم كعفطة عنز أو قلامة ظفر خصوصا سيدهم صلى الله عليه وآله الذي قال تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
وقال بالنسبة إلى خليله عليه السلام
(وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ).
نعم حيث أن لهذه الأسفار مراتب كثيرة متفاوته في الكمال والنقص يمكن أن يكون بعض مراتبها لبعض العلماء العاملين الراسخين في العلم المخالفين للهوى والممثلين لحضرة العلي الأعلى". ص 101.
ذات الواجب تعالى غير حقيقة الوجود
هل أن حقيقة الواجب بذاته هو الوجود فإذا أمكنت معرفة الوجود أمكن معرفة الواجب بذاته تعالى أو أن ذات حقيقة الواجب بذاته غير الوجود ؟
قال :" ذات الواجب تعالى غير حقيقة الوجود كما تدل عليه الآثار المعصومية عليهم السلام من أنه ذات ليست كالذوات أو شيء لا كالأشياء فعدم إمكان اكتشاف حقيقة الوجود يحتاج إلى دليل . وغاية ما استدل به أن الوجود ذاته وكنهه في الأعيان ، فلو حصل في الذهن فيلزم الخلف وانقلاب الذات وهو محال مع أن الصور الذهنية إنما هي ظهور الماهية تارة في الذهن و أخرى في الخارج فلابد أن يكون ما يحصل في الذهن ذات ماهية، والوجود لا ماهية له . وهذا الدليل باطل لما يلي .
أولا : انه مبني على أصالة الوجود وهو محل النزاع .
وثانيا : أن الوجود له مراتب كثيرة متفاوته كما اثبتوه؛ فما هو في الخارج مرتبة منه ، وما هو في الذهن مرتبة ضعيفة منه تكون مرآة لما في الخارج فأين يحصل الانقلاب !! وعلى هذا لا يتم دليل صحيح على هذا المدّعى" ص 106.
كيفية إطلاق مفهوم الوجود على أقسامه
إطلاق مفهوم الوجود على الواجب بذاته وعلى الممكن من الجوهر والعرض ، فيه عدة احتمالات :
" 1- يحتمل أن يكون من المشترك المعنوي كإطلاق الماء على أنواعه.
2- أو من المشترك اللفظي كإطلاق العين على أقسامه.
3- أو من الحقيقة والمجاز بأن يكون الإطلاق حقيقيًا بالنسبة إلى الواجب بالذات ومجازيًا بالنسبة الى الممكن كإطلاق للابن والتامر بالنسبة إلى بائع اللبن والتمر . وبكلٍّ قال قائل من الحكماء .
4-وهناك قول رابع وهو كون الإطلاق بالنسبة إلى الواجب بالذات تعالى وتقدسه في المجاز والعناية وبالنسبة إلى الممكن بالحقيقة" ص 106.
قال " ولتحقيق المطلب لابد أن يعلم أولاً أن هذا البحث مبنيا على ثبوت أصالة الوجود لانه شي مستقل بنفسه ويتصور فيه الاشتراك المعنوي ، واما بناء على ان الوجود امر اعتباري ومنتزع من الماهيات المتباينة المختلفة فلا وجه للاشتراك المعنوي فيه حينئذٍ لأنه على هذا تابع للمنتزع منه . نعم قد يتصور فيه باقي الأقوال" ص 107.
الوجود ليس مشتركًا معنويًا
استدل بعض الفلاسفة لكون الوجود مشتركًا معنويًا بسبعة أدلة ولكنها غير ثابتة عند السيد السبزواري إذ عبّر عنها " والكل مخدوش" !!
وهذه الأدلة على وجه الاختصار - وهي معروفة لمن درس بداية الحكمة - :
1- انه مقسم لأقسامه الثلاثة والمقسم لابد أن يكون مشتركًا معنويا بين أقسامه.
2- انه نقيض العدم والعدم واحد فلابد أن يكون الوجود واحدا أيضا وإلا ارتفع النقيضان.
3- إذا اعتقدنا بأن شيئا ما جوهر - مثلا - فزال هذا الاعتقاد عنا وحصل الاعتقاد بأنه عرض فلا يتبدل اعتقاد أصل وجوده ، وإن تبدل اعتقاد الخصوصية . وكذا بالنسبة إلى أقسام الجوهر والعرض.
4- جميع الموجودات بجواهرها وأعراضها آية دالة على وجود الواجب بالذات وعلامته التي لا يباينه بل يشاركه ولو في الجملة.
5-لو قال أحد الشعراء وجعل قافيته لفظ الوجود لكان ذلك من الإيطاء القبيح في البديع بخلاف ما إذا كان مشتركًا لفظيًا فإنه يصير من الجناس الممدوح فيه ؛ كما إذا جعل لفظ القافية لفظ (العين)وأراد من كل واحد من القوافي معنى منه.
6-الفصل يحدُّ من المناسبة بين موجود وموجود آخر ما لا يحده بين الموجود والمعدوم.
7-الرابط بين القضايا المختلفة في الموضوع والمحمول ضرب من الوجود وهي واحدة مع اختلاف فيها موضوعا ومحمولا.
ثم أخذ بالرد عليها ونحن نذكر ردوده على نحو الاختصار ونترك التأمل فيها للمختصين :
قال ص 108:
" اما الأول فهو يكفي فيه مجرد الاشتراك في اللفظ والتسمية كما في تقسيم العين إلى الجارية والباصرة ويكفي فيه مجرد وجود الجامع بأي وجه أمكن في المحاورات .
و اما الثاني فلأن العدم المحض لا يتصف بالوحده لأنها من صفات الموجود بل مساوق للوجود كما يأتي .
نعم باعتبار ملكاته يتصف بالوحدة والكثرة ولا ريب في أنها متعددة . فهذا الدليل أدل على خلاف المطلوب كما لا يخفى .
واما الثالث فلأن ما لا يرتفع اعتقاده إنما هو الشيئية المبهمة في غاية الإبهام والإجمال وهي اعم من الوجود لشمولها للماهيات أيضا مع قطع النظر عن الوجود مع أن هذا أعم من الاشتراك اللفظي والمعنوي .
واما الرابع فلا ريب في أنها علامات قدرته كما لا ريب في وحدة القادر تعالى بذاته ، ولكن لم يدل دليل على أن علامة القادر المطلق والدليل عليه لابد أن تكون واحدة بل له تعالى تعالى لكل شأن من شؤونه وطور من أطوار ظهوره وبروزه علامات و دلائل كما يدل عليه العقل والنقل .
وأما الخامس فمن العجيب ابتناء المطالب العقلية على المحسنات والمقبحات البديعية.
واما السادس فهذه المناسبة توجد في الجملة في المشترك اللفظي أيضا . نعم للمناسبات مراتب متفاوته يكفي أدناها في صدق المناسبة .
وأما السابع ففيه أن في إطلاق الوجود على الرابط تسامح واضح لأنه لو كان له وجود لم يكن رابطًا، والموجود في القضايا المختلفة إنما هو وجود المحمول للموضوع واتصاف الموضوع بالمحمول، و الرابط عبارة عن الوحدة المحصلة بينهما في القضية لا بنحو اللحاظ مستقلا حتى يخرج عن حيثية الرابط بل بنحو الفناء المحض".
ثم يبدي تعجبه من صدر المتألهين قائلا:
" والعجب من صدر المتألهين حيث عقد فصلا مستقلا للاشتراك المعنوي للوجود ثم يصر في جميع كتبه خصوصا كتابه الكبير أن الوجود الحقيقي منحصر بالواجب بذاته، والباقي شؤون وظلال وفيء محض وألف رسالة أسماها (طرح الكونين) و كلماته فيها تدل على أن إطلاق الوجود على غيره تعالى بالمجاز والعناية ).
أقول : إنّا وإن ناقشنا في أدلة الاشتراك المعنوي ولكن بناء على كون حقيقة الواجب حقيقة الوجود فالاشتراك المعنوي أقرب إلى الوجدان السليم والذهن المستقيم وأما بناء على كونه تعالى حقيقة غير معلومة لأحد فالاشتراك المعنوي بين أقسام وجود الممكن وجداني أيضا . واما الاشتراك اللفظي فهو ثبوتًا صحيح ولكن لا طريق لنا لإثبات تعدد الوضع إثباتًا مع انه خلاف الأصل كما أثبتناه في محله .
وأما القول بأن إطلاقه حقيقي بالنسبة إلى الواجب الأقدس ومجازي بالنسبة إلى غيره فهو مناسب لمذهب ذوق المتألهين والعرفاء الشامخين ولكنه مبني على كون الذات الأقدس الربوبي حقيقة الوجود ولا دليل عليه من عقل او شرع لكونه فوق حقيقة الوجود . وعدم تعقلنا لشيء فوق حقيقة الوجود لا يدل على عدم تحققه واقعا كما هو معلوم وغاية ما للعقول في تلك الحقيقة المحيطة بكل الحقائق أنها منفي عنها العدم وأما أن حقيقتها حقيقة الوجود فشيء تقصر العقول عند دركه .
وأما القول الرابع فهو حقيق بالقبول بناء على انه حقيقته تعالي فوق حقيقة الوجود (وذات لا كالذوات وشيء لا كالأشياء) وفوق ما نتعقله من المدركات فيصير إطلاق الوجود عليه تعالى مجازا بلا إشكال .
وهذا صحيح حتى بناء على المستفاد من الكتاب والسنة وما ذهب إليه شيخ اليونانيين المنسوب إليه هذا المذهب" ص 111. والمقصود بشيخ اليونانيين هو أفلوطين في كتاب اثولوجيا الذي يعنى بالإلهيات .
نترك القارئ الكريم ليتفحص هذه الرسالة وليقف على معترك الآراء فيها وليتبين مذاق كاتبها .
قرره عبد الغني العرفات
10 جمادى الثاني 1444.