بقلم: السيد محمد باقر السيستاني (حفظه الله)
[ سبب منح الصالحين المقامات العالية ]
إنّ المقامات التي منحها الله سبحانه للصالحين والصالحات من عباده كانت -وفق نصوص القرآن الكريم- متفرّعة على خصالهم وفضائلهم من إيمانهم ويقينهم وإعراضهم عن الدنيا وعدم طلب العلوّ فيها وصبرهم على الحقّ وتجرّعهم المرارة لأجل الحق، وعنايتهم بالفقراء، قال تعالى { واذ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا }، ولن يجعل الله سبحانه وتعالى عبداً صالحاً مثلاً للناس وقائداً إلى الخير والبركة إلّا بالنظر إلى الامتحانات التي امتحنه الله سبحانه وتعالى بها وبالابتلاءات التي ابتلاه بها ونجاحه في تلك الاختبارات، فتلك سنة الله تعالى في الحياة.
[ مكانة فاطمة الزهراء عليها السلام في الدين ]
وعلى هذا الأساس كانت مكانة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في الدين، حيث أنها من المصطفين في هذه الأمة، فهي أحد أهل البيت الأربعة (عليهم السلام) مع النبيّ الذين طهرهم الله سبحانه تطهيراً، وهي من عترة النبيّ (صلى الله عليه وآله) الذين هم أحد الثقلين الذين يكون التمسّك بهما عصمة من الضلالة، وهي سيّدة نساء العالمين، وهي إحدى فضليات النساء مع أمها خديجة، ومريم بنت عمران، وآسية زوجة فرعون.
وهي التي يغضب لغضبها الله سبحانه ويرضى لرضاها ولقد كانت (عليها السلام) محدَّثة، حدَّثها جبرائيل (عليه السلام) بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيث عزّاها وذكر لها أنباء أملتها على الإمام (عليه السلام) فكتبها وورّثها أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وعُرف بمصحف فاطمة.
[ خصال فاطمة الزهراء عليها السلام ]
وقد عُلم من سيرة الزهراء (عليها السلام) أنّها (عليها السلام) كانت مجمعاً للخصال الفاضلة والحميدة كلها.
منها: إيمانها وعبادتها لله سبحانه.
ومنها: أنها كانت تعيش الكفاف والاقتصاد والزهد في حياتها بل دونه من جهة قناعتها وإنفاقها وإيثارها، فهي (عليها السلام) لم تكن عديمة المال، اذ كان لها نصيب في الخمس والفيء والعطاء، وقد وهب لها النبي (صلى الله عليه وآله) فدكاً، وكان من غنائم المسلمين بعد غزوة خيبر في السنة السادسة من الهجرة، كما أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان كذلك، فهو أيضا كان له نصيب في الغنائم لكونه أحد المقاتلين، فله حقّ في أربعة أخماس الغنيمة، كما كان له حقّ في الخمس والفيء، لكنّه كان لا يُبقي شيئاً في يده، بل يُنفقه وكان أكثر الصحابة إنفاقا ممّا يملك، فلم يكن يُبقي لنفسه شيئاً، وكانت الزهراء قانعة بوضع أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا رغم المشقّة والصعوبة فيه، وهي ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي ترجع إليه مقاليد السلطة على امتداد الحكومة الإسلامية في أواخر حياته (صلى الله عليه وآله).
ومنها: ما ذُكِر في أحوالها (صلوات الله عليها) من اهتمامها بالدعاء لجيرانها، و هو لم يكن دعاء من جهة استحباب الدعاء فقط كما قد يفعل أحدنا، بل كان ناشئاً من الشفقة عليهم عندما تشعر بفقر جيرانها وقد لا تستطيع أن تقدّم إليهم شيئاً من الحوائج الضروريّة؛ من باب عدم ذات اليد أو محذور آخر فيؤلمها معاناتهم فتلجأ للدعاء لهم. فدعاء الزهراء (عليها الصلوات والسلام) كان حُبّاً للخير لهم وشعوراً بمرارة حياتهم وأوضاعهم.
فما كان أهل البيت (عليهم السلام) يحبّون أن يتميّزوا في مجتمعٍ عن أفراد ذلك المجتمع، ولا يهنئون بذلك، بل كانوا يشعرون بأنّ المواساة فرضٌ عليهم؛ لأنّ الإنسان إذا اطلع على أصحاب المعاناة فإنّ الله سبحانه وتعالى يُحب منه أن يتفاعل مع معاناتهم، وبنسبة تفاعله مع معاناة الناس تكون عنايته سبحانه به عند معاناته في الدنيا والاخرة.
وعليه فإنّ علينا أن نجعلها أسوة في حياتنا، لأنّ أهل البيت (عليهم السلام) أعلام طريق، فهم منارات منصوبة في هذه الحياة، ليهتدي بها السائرون، فهم المثل الأبرز من العباد الصالحين الذين أنعم الله عليهم والذين أمر الله سبحانه بالاهتداء بهديهم والتأسّي بهم، والسير في طريقهم، كما في قوله تعالى: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }، فهم المثل الأبرز لمن أنعم الله عليهم، وكما قال الله سبحانه وتعالى في آية أخرى: { الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ }.
وعليه فلا يصحّ أن نكتفي بارتباطنا بالأئمّة بالرابط العقديّ ونقتصر على إذعاننا بما نعلمه من مقاماتهم، بل ينبغي لنا أن نستحضر بهم المَثَل والقدوة في الحياة ومسيرها، حتّى ينير ذكرهم ومناسباتهم عقولنا ويحيي قلوبنا ويحفّز دوافعنا ويهذّب خصالنا، ويبعث فينا دواعي الجدّ والاجتهاد، وقد قال سبحانه: {اولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده}، نسأل الله سبحانه التوفيق لذلك.
____
ملاحظة: العناوين المحصورة بين المزدوجين [ ..] ليست في الأصل وإنّما أضفناها لاعتبارات فنيّة.