هل يراعي التشريع الإسلاميّ العدالة ويواكب المعاصرة
السيّد محمّد باقر السيستانيّ (حفظه الله)
السؤال: هل التشريع الإسلاميّ يراعي العدالة على وجهٍ يواكب العصر الحاضر، بحيث يضمن التساوي بين الناس جميعاً بغضّ النظر عن البلد والقوم والجنس والدين وغيرها من الانتماءات المتعارفة، ويحترم الحريّة الشخصيّة للأفراد؟
الجواب: التشريع الإسلامي ينطلق من الرشد والعدل والحكمة والفضيلة كمبادئ أساسيّة في بناء هذا التشريع، كما يظهر من ملاحظة كثرة التركيز والتوصية بهذه المفردات وما يقاربها ويندرج فيها كما في قوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ].
ويعوّل هذا التشريع في ذلك على اقتضاءات ثابتة وأخرى متغيّرة بحسب الظروف والأحوال، كما أنّ هناك نقاطاً وحدوداً وتفاصيل خاضعة لاجتهادات الفقهاء التي ينبغي الأخذ بنضجها وتطوّرها وتكاملها وفق مبدأ تقليد المجتهد الحيّ الذي هو الاتّجاه السائد بين فقهاء الإماميّة.
لكن من الضروري الانتباه إلى مقتضيات هذه المبادئ الوجدانيّة بشكل حقيقيّ، بعيداً عن الرغبات العامّة التي قد تنشأ عن الغرائز والانفعالات أو الأجواء الحادثة تأثّراً بأعراف مجتمعات أخرى، أو الأمواج الثقافيّة التي تهيمن على الجوّ الاجتماعي لفترة ما في أثر عوامل غير مدروسة.
فالحريّة الشخصيّة للأشخاص مثلاً هي مبدأ يستوجب الاحترام، لكن ينبغي أن توازن مع حقّ المجتمع في سلامة البيئة الأسريّة والاجتماعيّة العامّة من الناحية التربويّة الملائمة مع عامّة الأصناف من الأطفال والمراهقين والرجال والنساء جميعاً، فلا تصحّ المغالاة في الحريّة على حساب الاستحقاقات الكامنة للمجتمع.
كما أنّ التسوية العادلة بين الناس هي حقّ للجميع، لكنّها لا تقتضي التماثل التامّ بين الناس في كلّ شيء، بل تقتضي التعامل الملائم مع كل إنسان وفق خصائصه، وإناطة الدور المناسب له في الحياة، كما إن تسوية الدولة بين الموظفين في الحقوق لا تعني مثلاً إعطائها راتباً واحداً لجميعهم من غير ملاحظة طبيعة المؤهلات والمواقع والأدوار، بل تعني تقدير كل امرئ بقدره من دون تفاوت يرجع إلى العصبية والقوة والأعراف الخاطئة.
فإذا وجب مثلاً على المرأة سترٌ أشمل من الرجل لم يكن في ذلك إخلال بالمساواة العادلة بينهما؛ لأنّ طبيعة تكوين الجنسين تملي مثل هذا الستر على المرأة؛ لكونها الأكثر إغراءً للرجل من الرجل لها، وهو بذلك يعود إلى منفعتها كزوجة تغار من سعي الأخريات في إغراء زوجها، وكأمّ تسعى إلى تربية أولادها من فتيان وفتيات على وجه ملائم، وكمعلمة تهتم بتلاميذها وهكذا.
وبذلك يظهر أنّ التسوية الملائمة التي تفرضها العدالة بين الناس تختلف عن التسوية بمعنى التعامل المماثل معهم تماماً.
فإذا كان لدى الدولة موظفون منهم أطباء ومهندسون وقضاة وجنود، فإنّ التسوية العادلة والملائمة بينهم تقتضي إناطة الدور الملائم لكل منهم به حسب اختصاصه ومؤهلاته وتقدير جهد كل منهم بما يلائم دوره، بعيداً عن الخصائص التي لا دخل لها مثل الانتماءات القومية والمكانية ونحوها.
ولكن التسويّة الأخرى بمعنى التعامل المماثل معهم يعني إناطة أدوار مماثلة بهم من غير أخذ اختلافهم في اختصاصاتهم بنظر الاعتبار، وهذا ما لا تفرضه العدالة طبعاً.
وعلى الإجمال فإن من الواضح أنّ العدالة إنما تفرض التسوية بمعنى التقدير الملائم لكل واحد، دون التسوية بمعنى التعامل المماثل بينهم من غير ملاحظة الاختلافات بينهم بنظر الاعتبار، بل هذه التسوية قد تكون ظالمة وضارة حتى بالطرف الذي يفترض مغبوناً في كثير من الأحوال، وذلك أمر بديهي عند التأمل الجاد.
ولذلك من الضروري التدقيق في مقتضيات القيم الوجدانية والتفطن للعناصر الدخيلة فيها دون التوسع والاسترسال في تطبيقها من دون النظر إلى المقتضيات الحكيمة على وجه جامع.
بقلم: السيّد محمّد باقر السيستانيّ (حفظه الله).