بقلم: الشيخ عبد الغني العرفات
لماذا لم تكن هذه الدراسة مقارنة مع الإنجيل ؟
لأن الإنجيل الموجود بين أيدينا الآن ما هو إلا قصة النبي عيسى عليه السلام مع بعض النصائح والبشارات التي يحيلها أحيانا على التوراة، ومع بعض الاختلافات والزيادات الواردة في الأناجيل الخمسة في قصة المسيح ، فقد يزيد إنجيل على آخر ببعض التفاصيل ، ولكن ليس فيه ما في التوراة الحالية من تفاصيل كالأحكام المتعلقة بالأطعمة والزواج والمعاملات وغيرها .
وأما الإنجيل النازل من الله تعالى ففي بعض رواياتنا أنه سيخرجه الإمام المنتظر عليه السلام من بعض الأماكن كأنطاكية على ما في بعض الروايات، ولعل ذلك للاحتجاج به.
فدراسة التوراة التي هي أوسع من حيث المواضيع والأحكام، ومقارنتها مع القرآن الكريم أجدى وأولى.
[ القرآن مصدّق للتوراة ]
وقد وصف القرآن الكريم نفسه أنه مصدِّق للتوراة، ففيه من الحقائق التي لا تختلف عن ما في التوراة غير المحرفة، فهو يؤكد ويصدق ما جاء في التوراة الصحيحة :
( نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ).
(وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّـهِ وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ).
(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).
[ التوراة السامرية ]
واخترت من بين نسخ التوراة نسخة التوراة السامرية؛ لما يقال عنها أنها الأقرب إلى التوحيد الذي عرضه القرآن الكريم، وأنَّها تؤمن بالمعاد الجسماني والروحاني، فهي مظنة التقارب بين الكتابين الإلهيين، وهي بترجمة الكاهن السامري أبو الحسن الصوري (آف حسدة = أبو الحسن ) واسمه إسحق بن فرج بن ماروث . وهو أبو الطبيب والنحوي المعروف شمس الحكماء وكان طبيبا لصلاح الدين.
والنسخة بخط أبو البركات السامري ( ت٧٨٤) ونشرها الكاهن عبد المعين صدقة ( ١٩٢١- ٢٠١٠م).
وتوراة السامريين لا تعترف بالأنبياء بعد موسى فتقتصر توراتهم على أسفار موسى الخمسة ( سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر اللاويين، وسفر العدد، وسفر التثنية أو الاشتراع).
[ وقوع التحريف في التوراة ]
ولا شك في وقوع التحريف في نسخ التوراة في التاريخ والجغرافية فضلا عن العقيدة والأحكام، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم:
(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّـهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ).
(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اصْفَحْ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
(مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اسْمَعْ وَ انْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّـهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً).
وما يؤكد هذا التحريف مقارنة نسخ التوراة بلغاتها المختلفة، لكن المتبقي من الحقائق الإلهية يمكن الكشف عنه بسبر التوراة والتأمل في ما بين السطور.
[ النظام الأخلاقي في القرآن والتوراة ]
وسنتتبع الأفكار الأخلاقية إن وجدت في التوراة في النسخة السامرية ونعرضها على الأفكار الأخلاقية في القرآن الكريم في محاولة لتلمس هذا النور الإلهي في كتابه الكريم واستكشاف مدى التحريف الذي وقع على كتب أنبيائه الطاهرين ليحيى من حي عن بينة.
[ الحكمة من خلق الخلق في القرآن والتوراة ]
الحكمة من خلق الخلق في القرآن الكريم واضحة وجلية ، فلم تكن لحاجة في الخالق تعالى، ونقص وهو الباطل الذي لا حق فيه (أَ وَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّـهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) الروم : ٨.
ولم تكن عن لهو ولعب (وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ)الأنبياء:١٧.
فالطفل يبني ويهدم ما يصنع من المجسمات لغاية في نفسه وهو تلبية خياله واستكمالاً بما يلعب به وهو شيء خارج عن ذاته ، ثم يهدم ما بناه، والله تعالى لا يبني ويهدم عبثًا، فيخلق ويميت لحكمة، و وفق تفسير بعض المفسرين يقول تعالى إن هذا اللعب لو أردنا أن نفعله -ولن نفعله - سنفعله من دون الحاجة إلى غيرنا فلا نحتاج إلى أحد ( لاتخذناه من لدنا) من ذاتنا وبدون الاستعانة بأحد .
كما أن غاية الخلق هي العبادة التي توصل الإنسان إلى كماله كما يرسم القرآن الكريم (وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)الذاريات : ٥٦.
والإنسان الذي خلقه الله تعالى وجعل في طبيعته الخوف جعل لهذا الخوف دواء يحقق الأمن والاطمئنان، وهو العبادة التي تتمثل في الصلاة :
(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاَّ الْمُصَلِّينَ) المعارج ٢٠-٢٢.
إذا تمثل الإنسان هذه الغاية وعرف عدم حاجة الخالق إليه تصالح مع نفسه ومع ربه تعالى. فلم يخلقه إلا بحكمة ولحكمة ولفائدة تعود على الإنسان لا أنه خلقه ثم ندم على خلقه.
ولكن التوراة ترسم صورة لندم الخالق على خلقه للإنسان فتجعله ينظر إلى ربه تعالى بشك وريبة متصارعًا معه.
جاء في سفر التكوين الإصحاح السادس" ونظر الله أن كثرت سيئات الإنسان في الأرض، وكل ضمير حسبانات قلبه سوء كل الأيام (٦) وتواجد الله لما صنع الناس في الأرض واشتد على خصيصه (٧) وقال الله أمحي الناس الذين خلقت من على وجه الأرض من إنسان إلى بهيمة إلى دبيب إلى طير السماء ، إذ تواجدت لما صنعتهم ".
وخصيصه أي ذاته ، وتواجدت أي غضبت.
وترسم التوراة صورة عن الخالق أنه غير مرتاح لاجتماع البشر عندما بنوا برجًا عاليًا يمنعهم من التشتت كأن يكون علامة لهم .
جاء في الإصحاح الحادي عشر " فانحدر ملاك الله لنظر المدينة والبرج الذي بنى بنو آدم (٦) وقال الله أن شعبًا واحدًا ولغة واحدة لكلهم وهذا ابتداؤهم للفعل ، والآن لا يصعب عليهم كل ما يعزمون للفعل (٧) هات ننحدر ونغير هناك لغاتٍ حتى لا يفهم رجل لغة صاحبه (٨) فشتتهم الله من هناك على وجه كل الأرض ، فانقطعوا من بناء المدينة والبرج (٩) بسبب ذلك دعى اسمها بابل ، إذ هناك غير الله لغات كل أهل الأرض ومن هناك شتتهم الله على وجه كل الأرض".
وكأن هناك صراعًا بين الخالق والمخلوق فلا رغبة للخالق باجتماع البشر وتشكيل نجاح يحقق لهم الاجتماع.
بينما يدعو القرآن الكريم لتعارف البشر واجتماعهم على التقوى:
(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّـهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)الحجرات ١٣.
[ النيّة والقربة إلى الله تعالى في القرآن والتوراة ]
النية والقربة إلى الله تعالى من أهم المعايير الأخلاقية التي تميز الأعمال إذا لم نقل إنها المائز الأساس في تقييم أي عمل كما يراها النظام الأخلاقي القرآني (وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّـهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)المائدة ٢٧.
وقال تعالى:(أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّـهِ وَ اللَّـهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)التوبة ١٩.
فسقاية الحاج وعمارة المسجد أمور جيدة ولكنها بدون الإيمان ونية التقرب إلى الله تعالى ليست شيئًا مقبولاً.
كما أن نية التقرب إلى الله تعالى لا تنسجم مع التقرب بالموبقات التي تخالف العقل وتضر بالإنسان وتهوي به في وادي الشيطان فلا يعبد الله من حيث يعصى، فهل يعقل التقرب إلى الله تعالى بالخمر (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّـهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) المائدة ٩١.
وربما أمكن القول إن الترجمة قد تتصرف في المعنى حينًا ، وتستبدل كلمة مكان كلمة في موضع آخر ،أو تؤول كلمة لغير معناها لكن لكثرة ما ورد لفظ الخمر وسكبه في هذه التوراة عجزت الأقلام عن تبريرها وتأويلها فهي ترى أن التقرب لله تعالى يكون بالخمر.
فيعقوب حتى ينال البركة من أبيه إسحاق يقدم له خمرًا.
جاء في سفر التكوين الإصحاح ٢٧" فقال قدم لي لآكل من صيد ابني حتى تباركك نفسي ، فقدم له فأكل ، فأحضر له خمرًا فشرب (٢٦) فقال له إسحاق أبوه: تقدم الآن وقبلني يا بني (٢٧) فتقدم واشتم رائحة ثيابه وباركه وقال انظروا رائحة ابني كرائحة الصحراء كحقل لما باركه الله ( ٢٨) يعطيك الله من طل السماء ومن كلأ الأرض وكثيرًا من الداجن والعصير" وفي نسخة التوراة اليهودية " دسم الأرض وكثرة حنطة وخمر" !!
وفي الإصحاح ١٥ من سفر العدد " خاطب الله موسى قولا: خاطب بني إسرائيل وقل لهم إذ تدخلون أرض مساكنكم التي أنا معطيكم (٣) وتصنعون ناريا لله صعيدة أو ذبيحا في تمييز نذر أو تبرع أو في مواقيتكم في فعل رائحة رضى لله من البقر أو من الغنم (٤) فليقرب المقرب قربانه لله هدية أو سميذا عشرا ملتوتا بربع القسط زيتا (٥) وخمرا للسكب ربع القسط تصنع مع الصعيدة"
والصعيدة الأضحية وهي القربان الذي يصعده المكلف اليهودي على المذبح ويحرقه وفق مراسم طويلة وهنا يقول النص أن ربع القسط من الملتوت خمرا !!
فكيف يتم التقرب بالخمر وكيف ينسجم ذلك مع التزكية الإلهية التي أرادها للبشر .
فالنظام الأخلاقي في هذه التوراة واقع في التناقض.
التوراة وإبراهيم عليه السلام
يرتبط بنو إسرائيل بإبراهيم عليه السلام جدهم الأعلى، ولا تجد في التوراة غير وعد لإبراهيم ويعقوب بوراثة الأرض والتنعم بها، ولا تجد تركيزًا على ذكر الآخرة والتخويف من عذابها ، كما أنها لا تذكر قصة الأصنام التي حطمها إبراهيم عليه السلام وجهاده في تثبيت التوحيد والمعاد.
ولا تبين جهاد نوح والأنبياء السابقين على إبراهيم عليه السلام وسبب هلاك أقوامهم والذنوب والموبقات التي حاول أولئك الأنبياء تطهير الأرض منها ، وكذلك محاولات هؤلاء الأنبياء في تثبيت التوحيد والمعاد.
جاء في الإصحاح ١٢ من سفر التكوين " وقال الله لأبرم امض من أرضك ومن مولدك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أرشدك(٢) لأجعلك شعبًا عظيمًا وأباركك وأعظم اسمك وتكون بركة (٣) وأبارك مباركيك ولاعنيك ألعن ويتبارك بك كل قبائل الأرض" و " وتجلى ملاك الله (الرب) لأبرم وقال له : لنسلك أعطي هذه الأرض هذه فتبني هناك مذبحا لله المتجلي إليه(٨)".
أبرم هو إبراهيم عليه السلام.
بينما تجد القرآن الكريم يؤكد على مضمون الرسالة الإبراهيمية وهو التوحيد والمعاد: (وَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّـهَ وَ اتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تعلمون * إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّـهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّـهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّـهِ الرِّزْقَ وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ* أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّـهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّـهِ يَسِيرٌ* قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّـهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّـهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ)العنكبوت ٦١- ٢٠.
فهنا الآيات تربط الرحمة بالإيمان بالآخرة فالله رحيم لمن آمن بالمعاد والآخرة، وبعكس التوراة التي تصف الله تعالى بالرحمة والرأفة ولكنها لا تربط ذلك بالمعاد والآخرة.
قصة الطيور والنظر إلى الكواكب
القرآن الكريم يذكر قصة الطيور أنها مثال على إحياء الله تعالى للموتى( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) البقرة ٢٦٠.
والنظر إلى الكواكب فهو تعبير عن أفولها وعدم بقائها وأن الباقي هو الله تعالى( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)الأنعام ٧٤-٧٨.
ولكن التوراة توظف هاتين القصتين لوراثة نسل إبراهيم عليه السلام الأرض، فليس هناك غير السيطرة والتنعم بخيرات الأرض ( أرض عسل ولبن) .
جاء في الاصحاح ١٥ من سفر التكوين " أنا الله الذي أخرجتك من أور الكشدانيين لإعطائك الأرض هذه وراثة فقال يا مولاي الله بم أعلم أن سأرثها؟ (٩) فقال له خذ عجلة مثلثة وعنزا مثلثة وثنيا مثلثا وشفنتنا وجوزل (١٠) فأخذ له وبضعها تبضيعا وجعل الشخص تبضيعه بلقاء صاحبه والطيور لم يبضع(١١) وانحدر الجارح على الجثث فأعادها أبرم".
أي أن إبراهيم منع الطيور الجارحة من أن تأكل من الجثث ( العجلة المثلثة بنت ثلاث سنوات .. الخ ) وهذه علامة على أن نسله سيسيطرون على أرض كنعان، بينما القرآن الكريم رسم لنا الصورة أنها دليل على المعاد والبعث فالتربية الأخلاقية واضحة المعالم في القرآن الكريم؛ لأن الإيمان بالآخرة يضبط حركة الإنسان في الدنيا ويحول بينه وبين طغيانه.
وأما النظر في النجوم فترسمها التوراة على أن نسل إبراهيم سوف يستعبدون ٤٠٠ سنة.
في نفس الإصحاح " فصارت الشمس غائبة وسبات سقط على أبرم وهو ذا هيبة ظلام عظيمة سقطت عليه ( ١٣) وقيل لأبرم : علما تعلم أن حائرًا يكون نسلك في أرض ليست لهم ويستخدمونهم ويشقونهم أربع مئة سنة (١٤)"
" في ذلك اليوم قطع له مع أبرم عهدًا قائلا : لنسلك أعطي الأرض هذه من أرض مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات( ١٩)" .
فأين تثبيت التوحيد والمعاد في كلتا القصتين ؟!
كيف ينظر القرآن الكريم إلى الذنوب والموبقات الأخلاقية؟
الجواب :إنها عوائق تمنع الإنسان من التكامل وتؤدي به إلى خسران الدنيا والآخرة.
فإذا ما تاب عنها سامحه الله وتجاوز عنه وغفرها له وأبدله بدل السيئة الحسنة في الآخرة وأصبح محبوبًا لله تعالى: (إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) البقرة ٢٢٢.
والغفران أبلغ من التجاوز والصفح ،بل هو تغطية هذا العيب وستره وهو بمثابة الإحسان إلى المسيء .
فقد تسامح شخصًا ولكنك لا تحسن إليه، فأما الله تعالى فإنه يتجاوز عن العبد ويغفر ذنوبه وهو بمثابة عملية تجميل للجرح الذي يصيب المجروح فبعد التئام الجرح تجرى له العملية التجميلية.
(إِلاَّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّـهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللَّـهُ غَفُوراً رَحِيماً) الفرقان ٧٠.
ويتحمل الإنسان نتيجة عمله ووزره ولا يتحمل وزر غيره (وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) الأنعام ١٦٤.
بينما تجعل هذه التوراة سبب استعباد الإسرائيليين للكنعانيين هو خطيئة جدهم (حام) !!
جاء في سفر التكوين الإصحاح ١٠ : " وابتدأ نوح فلاحًا في الأرض وغرس كرمًا (٢١) وشرب من الخمر وسكر وانكشف في وسط مضربه(٢٢) فنظر حام أبو كنعان سوءة أبيه وأخبر لإخوته في البر (٢٣) فأخذ سام ويافث ملحفة وجعلا على كتفيهما ومشيا قهقرًا وغطيا سوءة أبيهما و وجهاهما قهقرا وسوءة أبيهما لم ينظرا (٢٤) فصحا نوح من سكره وعلم ما صنع به ابنه الصغير (٢٥) فقال ملعون كنعان ، عبد عبيد يكون لإخوته (٢٦) ثم قال تبارك الله إله سام ويكون كنعان عبدا لهما (٢٧) يحسن الله إلى يافث ويسكن في مضارب سام ويكون كنعان عبدا له " .
أترى هذا التهافت والتناقض فنوح يشرب الخمر ولا مشكلة في ذلك والعياذ بالله ، ولكن عندما رأى ولده الصغير كنعان سوءته عاقبه الله بأن أصبح أولاده الكنعانيون عبيدًا لأبناء أخويه سام ويافث !!
وسام ويافث من الورع بحيث إنهما حرصا على أن لا ينظرا إلى سوءة أبيهما فرجعا القهقرى ولكن لم يستنكرا على أبيهما شرب الخمر!!.
وبسبب أن حواء أكلت من الشجرة في الجنة وأعطت أيضا لآدم فأكل منها عاقبها الله تعالى بالولادة وشقاء الحمل !!
جاء في سفر التكوين الإصحاح ٣ أن الله قال للمرأة " كثرة أكثر مشقاتك وحبلك ، بشقىً تلدين أولادًا وإلى رجلك عودتك وهو المستولي عليك" فإذن سبب الحمل والولادة وتعبهما يعود لمخالفة حواء والأكل من الشجرة وليس لأن الله تعالى بحكمته اقتضى أن يكون هناك ذكر وأنثى يتناسل منهما البشر ولكل دوره في خلافة الأرض !!
فالقرآن يعبر عن قصة الأكل من الشجرة بضمير التثنية والجمع (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) الأعراف ٢٣. ولم يقل آدم عليه السلام هي من أكلت فهي التي تتحمل العواقب!!
إن القرآن لم يجعل العلاقة بين الذكر والأنثى قائمة على العداوة بل على المودة والرحمة:
(وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)الروم ٢١.
(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْقانِتِينَ وَ الْقانِتاتِ وَ الصَّادِقِينَ وَ الصَّادِقاتِ وَ الصَّابِرِينَ وَ الصَّابِراتِ وَ الْخاشِعِينَ وَ الْخاشِعاتِ وَ الْمُتَصَدِّقِينَ وَ الْمُتَصَدِّقاتِ وَ الصَّائِمِينَ وَ الصَّائِماتِ وَ الْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ الْحافِظاتِ وَ الذَّاكِرِينَ اللَّـهَ كَثِيراً وَ الذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّـهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً) الأحزاب ٢٥.
الغاية لا تبرر الوسيلة
ينزه القرآن الكريم حركة الأنبياء وسيلة وأهدافًا، فالهدف هداية الناس إلى توحيده تعالى وسعادة البشر في دنياهم وآخرتهم ، والوسيلة التي يتبعها الأنبياء في تلك الدعوة ليس فيها من القبح شيئا بما يتعارض مع ذلك الهدف.
وبهذا يقدم القرآن الكريم الأنبياء مثالا للقدوة والتأسي.
فإبراهيم عليه السلام يقدمه القرآن الكريم محطم الأصنام البطل الشجاع الذي لا يخاف (وَ تَاللَّـهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ)..
(أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّـهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) الأنبياء ٦٧.
فها هو يحاجج الذي آتاه الله الملك بشجاعة وإقدام (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّـهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّـهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَ اللَّـهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) البقرة ٢٥٨.
فلم يكن جبانا ولا رعديدا ، وكان صاحب برهان ويقين.
أما أبرام (إبراهيم)التوراتي فيقدم زوجته ساراي لفرعون على أنها أخته خوفًا حتى لا يقتل، ويكتسب من فرعون أغنامًا كثيرة !! ويجعلها وسيلة للثراء وحاشا له عليه السلام .
جاء في سفر التكوين الإصحاح ١٢ " وكان جوع في الأرض فانحدر أبرم إلى مصر المجاورة هناك ، إذ عظم الجوع في الأرض (١٠) وكان لما قرب للدخول إلى مصر قال لساراي زوجته إني قد علمت أن امرأة حسنة المنظر أنت ( ١٢) ويكون إذ يرونك المصريون فيقولون زوجته هذه فيقتلوني وإياك يستبقون ( ١٣) قولي الآن إنك أختي لأجل أن يحسن إلي بسببك وتبقى نفسي لأجلك (١٤) "
" ولأبرم أحسن بسببها وصار له غنم وبقر مال عظيم جدا وعبيد وإماء وحمير وإتانات وجمال" !!
وقد حاولت التوراة بعد ذلك تبيين أن الله تعالى حمى ساراي من أن يصل إليها فرعون ولكنها محاولة بائسة وعاجزة وتبقي في المتلقي أثرًا نفسيًا وتربويًا لا يعلم مدى خطورته إلا الله تعالى.
وتتكرر القصة مع إسحاق عليه السلام في زوجته (ربقة) ففي سفر التكوين في الإصحاح ٢٦ " وسكن إسحاق في الخلوص(٧) وسألوه أهل الموضع عن زوجته فقال: أختي هي، إذ خاف من قول زوجتي هي كي لا يقتلوني أهل الموضع بسبب ربقة إذ حسنة المنظر هي " !!
وعندما يستدعيه ملك المحلة فيسأله " كيف قلت أختي هي؟ فقال له إسحاق: إذ قلت كي لا أقتل بسببها" كما في الإصحاح ٢٦.
بينما يقدم القرآن صورة ناصعة عن إسحاق عليه السلام (وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ)الأنبياء ٧٢. صالح في أهدافه وصالح في استعمال وسائله.
(وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَی الدَّارِ ) ص ٤٦.
فإسحاق عليه السلام صاحب البصيرة المخلص في غاية اللقاء مع الله تعالى لا يخاف القتل والتنكيل بينما ترسم له التوراة صورة يجل عنها المسلم فضلا عن النبي الذي يعيش هم الآخرة.
(وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ)الأنبياء ٧٣. فهم يفعلون الخيرات قبل أن يأمروا بها في كل وسائلهم.
فالنظام الأخلاقي القرآني سام في أهدافه و وسائله من خلال ما يعرضه من سيرة الأنبياء عليهم السلام.