بقلم جعفر هادي
يعاني العالم في هذا العصر أزمة أخلاقية حادة نبتت جذورها منذ زمن ، وأخذت تنمو وتتبرعم حتى وصلت في هذا العصر الى مستوى يُخشى بسببها أن يُحكَم على البشرية – في المستقبل القريب – بالهلاك والذي يُلقي نظرة ولو عابرة على مسير الانسان المعاصر يراه يسير سيرا حثيثا نحو الكارثة التي تنتظره .
وقد أحسّ الفلاسفة والمفكرون بتفاقم هذه الأزمة واشتدادها ، فرأوا أنّ الواجب الإنساني يحتّم عليهم أن يوجّهوا النداء الى البشرية بأن لا تمضي قُدُماً في هذه الطريق لأنّ فيها انهيارها ودمارها .
فهذا : برجسون الفيلسوف الفرنسي يلفت الأنظار الى هذه الأزمة في محاضرة ألقاها عام 1915م يقول فيها : " إنّ جسم الانسان ازداد في ضخامته بينما اضمحلَّت روحه وتضاءلت ، إنّ الانسان لا يمكن أن يستشعر طعم الهدوء والراحة إلّا بتضييق نطاق الهوّة التي خلقت هذا التفاوت بين ضخامة الجسم وضآلة الروح وتساءل في مرارة عن عدد العلماء الذين يبحثون عن الكمال الخُلُقي والروحي ، ثمّ قال : فيجب علينا تهيئة الوسائل التي تُمَكِّن القيَم الخلقية والروحيّة من تسيير دفة الأمور بدلاً من تركنا الماديات تجر العالم نحو الدمار الذي نراه ماثلاً أمام أعيننا " (1) .
ويقول الفيلسوف اليبرت شفيتسر : " إنّ مستقبل الحضارة يتوقف على تغلّبنا على فقدان المعنى واليأس الذَين يميزان أفكار الناس ومعتقداتهم في هذه الأيام وعلى بلوغ حالة من الأمل النضر والعزم الفتيّ ولن يكون في وسعنا ذلك إلّا إذا اكتشف غالبية الناس لأنفسهم موقفاً أخلاقياً عميقاً راسخاً يؤكّد الدنيا والحياة عن طريق نظرية في الكون مقنعة وقائمة على الفكر معاً " (2) .
ويقول ديهامل : " ومصدر ما يقض مضجعي باستمرار هو ذلك التناقض الذي يزداد كلّ يوم وضوحاً بين اكتشافات العقل وبين الحالة الأخلاقية وسير الحياة الاجتماعيّة " (3) .
وفي الواقع إنّ هذه الآراء التي قالها هؤلاء الفلاسفة ما هي إلّا نتيجة حياة عاشها هؤلاء الفلاسفة وسط المجموعة البشرية فخبروها خبرة المفكّر الذي ينظر نظرة فاحصة عميقة . ولا أجانب الحقّ إذا قلتُ أنّ سبب هذا الانحطاط الخُلقي هو الاندفاع القوي نحو المادية دون اعتبار لما هو روحي والذي لا يمكن للانسان أن يعيش بدونه .
وإننا نرى اليوم أنّ العالم بكلا معسكريه الشرقي والغربي يتخذ من المادية هدفا كما يتخذ منها مساراً والماديّة بطبيعتها لا تقبل المُثُل والقِيَم وتعتبر الالتزام بها قيدا وعبوديّة والتخلي عنها انطلاقاً وتحرراً ، أمّا المعسكر الشرقي فمسيره في ضوء الفلسفة الماركسية – وهي ماديّة ديالكتيكيّة – لا يحتاج الى أيّ دليل وأمّا الانسان الغربي فهو وإن لم ينطلق انطلاقة مادية ولم يضع له أسس فلسفة ماديّة معيّنة كما هو الحال عند الانسان في المعسكر الشرقي إلّا إنّه من الواضح يسير في طريقٍ ماديّة وإن طلى هذا الطريق بطلاء المسيحيّة ذلك لأنّ الغربي في الأعمّ الأغلب قد انفصل عن مسيحيته منذ مطلع عصر النهضة الحديثة وتبنّى العلم وفصل بينه وبين الضمير .
يقول مالك بن نبي في أحد كتبه عن الغرب : " .... وصارت حياته أرقاماً واستنامت لتلك الآلات تقوده بعقلٍ آليٍ ، وأصبحت السعادة مقيسة بعدد ما لديها من وحدات حرارية ، وأصبح الضمير يخضع فيه للنزعة الكميّة كما صار العصر عصر النسبيّة الأخلاقيّة حيث استهلّ قرنه بالمبدأ القائل كلّ شيء في الحياة نسبيّ ولم يعُد أحد يُدرك معنى الفضيلة المطلقة من الوجه الذي مات منه مفهوم العدالة في قول أحد الاوربيين أنّ تسوية جائرة خير من قضيّة عادلة " .
إنّ الانسان الذي يعيش على هذا اللون من الفهم والتفكير والسلوك لابدّ وأن يتخبط في فوضى لا أخلاقيّة في مختلف شؤونه الحياتيّة .
وهكذا يبدو لنا بكلّ وضوح أنّ التقدم الصناعي الضخم الذي أحرزه الانسان المعاصر عاجزٌ كلّ العجز عن أن يحلّ مشكلة الانسان ، وإذا كانت هذه الأزمة قد انتشرت على نطاق عالمي واسع لا يختلف فيها بلد عن آخر إلا بمقدار المناعة التي يتمتع بها ذلك البلد ، فما هو نصيبنا من هذه المشكلة أو هذه الأزمة .
أعتقد أنّ أحداً لا يُنكر الفائدة التي حصبنا عليها من الغرب عند اتصالنا به ، ولكن الى جانب هذه الفوائد أخذنا نستورد أيضاً مساوئ كثيرة منه وذلك نتيجة شدّة اعجابنا بتقدّمه ومدنيته . فكانت طريقتنا في الاقتباس منه هي أن عمَدنا الى كلّ ما عند الغرب من محاسن ومساوئ دون تفكير وانتقاء ودون أن نعير أيّة أهميّة لعقيدةٍ أصليّة أو أخلاقٍ فاضلة – هي بمثابة تراث عظيم كان من الجدير بنا أن نعتزَّ به غاية الاعتزاز – ونحن لا يجدينا أن نرفض كلّ ما جاء به الغرب ولا يجدينا أن نتخذ اتجاهاً ايجابياً كاملاً من الغرب ، وليس لنا في ذات الوقت أن نتخلّى عن تراثنا جملة وتفصيلاً ، إذن فعلينا أن نأخذ من الغرب ما ينفعنا وننبذ ونرفض كل ما يمسّ قيمنا وتراثنا . إنّ الاستعمار كان ولا يزال يرمي الى إضعاف نفوس الشعوب بإضعاف أخلاقها فعندما كان الاستعمار الاستعمار يدخل بلداً من البلدان كان يحاول بكلّ الوسائل وشتّى الطرق لتحطيم القيم والمُثُل الخيّرة في تلك البلاد وبتحطيمها فإنّه يتمكن من تكييف الشعب المستعمر وفق إراداته ومصلحته والأمثلة على ذلك كثيرة ....
ولمّا كنّا من الشعوب التي رسفت بقيد الاستعمار سنين طوالاً فقد أصابنا ما أصاب بقيّة الشعوب المستعمرة الأخرى واتضحت عندنا معالم هذه الأزمة منذ زمن مع أنّ مجتمعنا يحمل كثيراً من القيم الأصيلة ، ولكن جانب اللاأخلاق أخذ في الانسياب الى داخل المجتمع وأخذت تلك القيم الأصيلة تتهرأ وتتفسخ شيئا فشيئاً .
وهكذا لم يعد الجانب الإيجابي عندنا راجحاً بل أصبح الرجحان للجانب السلبي وهو جانب اللاأخلاق ذلك لأنّ القيم الأخلاقية كلّما كانت آخذة في التردي والانحطاط فإنّ الجانب السلبي يأخذ في البروز والتغلّب على الجانب الأخلاقي ، وناقوس الخطر عندما كان يقرع بين آونة وأخرى من قبل دعاة الإصلاح فهو وان كان له تأثير إلا أنّه ليس تأثيرا قوياً لأنّ الصوت الواحد بين الضجيج والصخب المتعالي لا يكاد يُسمَع .
وما أن خرج الاستعمار من بلادنا إلّا وكانت تلك الأيدي الخفيّة التي استأجرها الاستعمار تزيد من تعقيد الأزمة وتجعل مسارها حسب ما يريد الاستعمار ويرضاه ، والإنسان الذي ينظر نظرة الفاحص الدقيق يتمكن بكلّ سهولة ويُسرٍ من أن يعرف تلك الوجوه الخفيّ’ التي تعبث بما شاء لها والعبث ، وقد اتخذت هذه الفئة شعار الحفاظ على تقدّم الشعب وغيره من الشعارات الأخرى التي لا يقصدون منها غير التمويه على المجتمع .
ونحن نقرأ اليوم لكتّاب وشعراء يعيشون على أرضنا وبين ظهرانينا فلا إلّا نثراً وشعراً سليباً متطرفاً يتسم بالرفض للدين والأخلاق وكلّ عزيز ورثناه ، وليس عجيباً أنّه تظهر هذه الدعوة وغيرها من الدعوات المماثلة لأنَّها نتيجة حتمية أخرى من نتائج الأزمة ، ولاشكّ أنّ الزمن سيطلع علينا بما هو أدهى وأمَرّ إن لم نعالج هذه الأزمة العلاج الجدّي المخلص .
ودخلت هذه الأزمة الى الحياة الأسرية , وأخذ الشكّ والقلق يأكل نفس كلٍ من الزوج والزوجة ، أليس كلّ هذا نتيجة من نتائج هذه الأزمة ففي كلّ يومٍ جريمة قتلٍ وقضية طلاق بسبب خيانة زوجية واتصالٍ غير مشروع ، وهكذا تفككت وتشردت كثير من الأسر .
وهكذا اتضحت لنا معالم هذه الأزمة – بل تضخمها – وأخذنا نحصد النتائج الواحدة تلو الأخرى ، ونحن وإن كنّا قد أزحنا الاستعمار السياسي عن بلادنا إلّا أنّ الاستعمار الفكري ما زال يعشش في رؤوس كثيرٍ من أفراد مجتمعنا وما زال كثير من شبابنا يعتقد أنّ الالتزام بالأخلاق إنْ هو إلّا إرجاع لعجلة الزمن الى الوراء وأنّ نبذ الأخلاق ما هو إلّا التقدم بذاته وما هذا التفكير إلّا جزء من ايحاءات متعددة يوجّهها الاستعمار بطريق مباشرة او غير مباشرة .
وليس لنا بأي حالٍ أن ندّعي أنّ هذه الأزمة هي جزء من ثمن التطور والمدنيّة الحديثة يجب أن ندفعه ولسنا بقادرين على أن نقف بوجهه ! ، ذلك لأنّ هذا الادعاء ما هو إلّا عجزٌ عن تحدي التيارات التي تريد أن تقذفنا الى الهاوية وما هو إلّا اتهامٌ لأمّتنا بأنّها عاجزة عن هضم الغذاء النافع وتمثيله وطرح القاتل والضار منه .
إننا نؤمن بوجود مناعة ذاتيّة لهذه الأمّة وبإمكانها أن تتحدى التيارات المهلكة بشرط أن نتحرى الأسباب والعوامل التي جعلت من أمتنا أمة تفقد الشيء الكثير من مناعتها فإذا عرفنا تلك الأسباب وأوجدنا نوعاً من الشعور بالأزمة وتفاقمها عند أبناء الأمّة ، أمكننا أن نضع العلاج الناجع للقضاء على كلّ أسباب الانحطاط والتردي .
ونحن إذا أردنا أن ننتشل مجتمعنا من هذه الأزمة فعلينا أن نتخذ التوعية الأخلاقية كطريقة قضاء على هذه الأزمة ، وإنّ لهذه التوعية جانبين أحدهما إيجابي والآخر سلبي . فالجانب الإيجابي يتمثل في :
1- تركيز الأخلاق ومبادئها في نفوس أفراد المجتمع كلٌ حسب قابليته وهناك وسائل كثيرة يمكن استخدامها لهذه الغاية فوسائل الإعلام وغيرها كلّها صالحة لهذه التوعية .
2- إضافة موضوع الأخلاق في السنوات كلّها من التعليم الابتدائي حتّى العالي لأنّنا ما زلنا نزوّد أبناءنا بالعلم والمعرفة ولكننا لا نزودهم بشيء من الأخلاق وماذا يستفيد المجتمع من إنسان متعلّم غير ذي مفاهيم أخلاقية يسير في ضوئها ، إذن فلابدّ من التأكيد على الجانبين الأخلاقي والمعرفي والتأكيد على جانب دون آخر ما هو إلّا نقصٌ في طريقة تعليمنا .
هذا من جهة الجانب الإيجابي ولا ينجح هذا الجانب إلّا إذا كان هناك جانب سلبي يعمل في طريق أخرى فمهمة الجانب السلبي هو أم يعمد إلى كلّ ما هو لا أخلاقي ليقوم بهدمه .
وعلينا في هذه العمليات الضخمة التي هي عبارة عن مسؤوليات كبرى أمام مجتمع وأمام أمّة علينا أن نحسن اختيار أولئك الذين سيقومون بأعباء هذه المسؤولية ليكونوا قدوة حسنة ومثالاً رائعاً يُحتذى حذوه ويُسلَك سلوكه وأعتقد أننا سنكون موفقين في هذه الخطى إن كنّا نريد البقاء والخير لمجتمعنا .
جعفر هادي .
نُشرت هذه المقالة في : مجلة الأضواء الإسلاميّة / السنة السادسة / العدد لأوّل / رجب 1385هـ / تشرين الثاني 1965م / وهي مجلة كانت تصدر في النجف الأشرف برعاية ثلة من العلماء رحمهم الله .
____
الهوامش
(1) زكي اسماعيل ، بين العلم والفلسفة ، الثقافة المصرية : عدد 73 .
(2) البيرت شفيتسر ، فلسفة الحضارة ، المقدمة .
(3) محمد عطا ، الحركة العاقلة ، ص50 .