القائمة الرئيسية

الصفحات

أربعين الحسين (عليه السلام) تجلية الجوهر الإنساني

 

زيارة الأربعين تجلية الجوهر الإنساني الشيخ حيدر السندي

بقلم الشيخ حيدر السندي

في زحمة الحياة ، والبحث عن مكاسب الذات ، وتزاحم المصالح ؛ تنشأ المنافسة ، و تعترك السواعد لتحقيق ملذاتها وكمالاتها ، فطبيعة الإنسان المعجونة بحب الذات، والسعي من أجل سعادتها ، و الظفر بالقوة والمنعة ، والأمن وضمان بقاء العيش الكريم ؛ قد تحمله على أن يسبق غيره  أو يمنع ما يخشى جانبه من التفوق ، والغلبة  أو أن يبقي الآخر تحت سلطته ، لتدوم الغلبة ، وتستمر عملية التسخير ، والتوظيف في جلب المنافع ودفع المضار ، وتاريخ البشر في جميع مفاصله يعطينا الشواهد والعِبَر ، فمن تأمل في علاقات الإنسان بالإنسان منذ فجر التاريخ، وبداية تشكل الأسرة الصغيرة والكبيرة  ، وإلى عصر ظهور القبائل والقوميات والحضارات المختلفة، يجد أن ثمة طبيعة تحمل الإنسان على أن يستأثر و يتميز ، و يسيطر و يسخر ، و يزيل عن طريق مقاصده كل عائق ، ولو كان من جنسه .

و قراءة تاريخ الحروب ، و الاستعمار ، و النزاعات الدينية والعرقية ، والسياسية ، ومشاهدة حاضر توظيف القوة  لتطبيق معاير مزدوجة مغلفة بقوانين دولة وضعها المنتصر والمتفوق ؛ خير مخبر بصدقٍ عن تحوّل المجتمع البشري على مرّ العصور إلى غابة يفترس فيها القويّ الضعيف ، و يستأثر الآمن على نفسه في عملية النهب والسلب بكل ما يستطيع الظفر به ، ولو على حساب غيره ، سواء كان فرداً أو جماعة ، والفرق بين غابة الحيوان  وغابة البشر يكمن في إدارة الإنسان لغابته بالعقل المسخر للرغبة الجامحة ، فالحيوان لا يملك العقل ، ولا يتأمل في خيارات فعله ، وينتخب خياراً منها بطبيعة الحال ، فهو يندفع غريزياً ، دون أن يفكر في عواقب أفعاله ، فالتمساح ـ مثلاً ـ ينقض على كل ما يناله فكه ، ولا يدرك ألمه ، ولا يميز بين كونه صغيراً أو كبيراً  أو عنده صغار سوف يهلكون من بعده أم لا ، ولهذا هو لا يملك إلا سلوكاً واحداً ، وفي جميع الظروف تقريباً.

 و أما الغابة البشرية فإنّها محكومة بعقل يدرك  و يميز ، ويرى أمامه خيارات متعددة ، فهو يميز بين الفعل الحسن وغيره ، ويدرك آثار فعله ، ومعاناة الآخرين فيما إذا اتخذ موقفاً عدائيّاً منهم، كما يدرك أن غيره يماثله في حب الذات،  والبحث عن سعادتها ، والغضب من إضرارها ، والعمل على دفع السوء عنها ، والانتقام لها ، ولهذا لا يمكن أن تكون حركة المجتمع في نظره حركة عشوائية، بل لا بد من دراسة كل سلوك وموقف ، وملاحظة تبعاته ، وما يترتب عليه ، وهذا ما جعل المجتمعات المتكافئة من حيث القدرة والقوة تعمل على جعل قانون يضبط علاقة المجتمعات ، وأفراد المجتمع الواحد ، فقد جعل القانون ليحدث حالة التوازن ، في ظل طغيان الهوى ، والخروج عن الإحساس والشعور بمعاناة الآخر ، و ليمنع بعض  أفراد الإنسان من التعدي على البعض الآخر ، غير أنّ القانون لوحده لا ينفع في تحقيق هذه الغاية ، وذلك لعدة أسباب ذكرها علماء الاجتماع و الأنثروبولوجيا (Anthropology) ، ومنها:

 1ـ إذا كان الداعي إلى جعل القانون تساوي قدرات المجتمعات في الردع والانتقام فإن حالة التساوي لا تستمر ، وقد تتفوق بعض الحضارات على البعض الآخر ، فما يردعها حينئذ عن  أن ترفع اليد عن القانون و تضرب به عرض الجدار ،  وبالخصوص إذا كانت الحضارة الغالبة حضارة مادية ، تؤمن بمبدأ (البقاء للأقوى) و تنكر وجود مبدأ الإلزام في القيم الأخلاقية.

 2ـ إن القانون الوضعي تختلف في بنوده و حدوده الآراء البشرية ، كما إن القانون يشكل حكماً عاماً مجرداً ، ولا يكون مثمراً إلا بعد تطبيقه ، وعملية التطبيق عملية معقدة جدّاً، و أسباب الخلاف فيها كثيرة يصعب ضبطها، وهذا ما يوجب الاختلاف الكبير ، وتوقف البت في كثير من النزاعات، وهذا ما أحوج البشر إلى فقهاء في القانون يُحتكم إليهم عند عدم وضوح تنزل مادة الدستور أو التشريعات المتفرعة منه  في حادثة ما .

وفي فرض عدم الإيمان بالقيم إيماناً حقيقيّاً  يسهل التلاعب  في تحديد مفهوم القانون و تطبيقه، فلا تتحقق الغاية المرجوة ، و يكون المسيطر في العلاقات البشرية قوانين ذات تفسيرات مزدوجة ، نتيجتها خدمة فريق خاص ، فيكون القانون نفسه أداة في يد الظالمين و المتجبرين.

و التاريخ المعاصر يقدم لنا نماذج كثيرة جعلت الإنسان غائباً عن إنسانيته، وليس إلا مجرد غلاف أجوف يرفع شعارات الحرية والمساوة ، والقرية العالمية الواحدة ، بهدف تحقيق مصالح ثقافية ، و اجتماعية، واقتصادية ، و استعمارية لفريق واحد لا يشكل ربع عدد سكان المعمورة، فهو يخدعنا بالمساواة ، ولكنه يحتكر العلم ، و يبشرنا بالحرية ، ولكنه يمنع الأفكار ، ويحتكر السلع ، و يقيد الابداع و حركة التبادل،  إلا ضمن معاير خاصة يحددها ، وها هو اليوم يمارس التظليل الإعلامي لصور ديننا ومبادئنا وقيمنا على أنها كومة من الفكر الهزيل المتخلف والمتطرف ، ليكون ذلك مقدمة لإنشاء دين جيد لا يبقى من الإسلام فيه إلا اسمه، فهو يريدنا قرية واحدة بمعنى انسياب ما عندنا إليه ، و انصهار هويتنا فيه.

  ونحن لا نريد أن ننكر دور القانون ، ولا نريد أن نقلل من شأن أثره ، فإن القانون هو الصراط الذي يسلكه المجتمع البشري لتنظيم علاقاته ، غير أن ترتب النتيجة لا يمكن أن يكون في تصوري ، بدون أمرين أساسيين:

 الأمر الأول : انتماء القانون إلى الله (عز وجل) الخالق القادر، و جامع الناس في يوم لا ريب فيه ، يقول تعالى : { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } سورة البقرة آية 281.

الأمر الثاني : إيمان الإنسان بالقيم الأخلاقية العالية التي يدها راسخة في وجدانه .

 ولا أريد هنا الحديث في الأمر الأول ، فهو موكول إلى الأبحاث الكلامية و الأديانية ، وسوف أقصر الكلام على الأمر الثاني فقط، وهو ذو أثر بقطع النظر عن التدين بدين خاص.

 فلقد أضاع الإنسان المعاصر إنسانيته في زحام الصرعات واللهث وراء المصالح ، فما عاد يحمل نقاءه الذي ولد معه ، فغلبة الشهوة والرغبة في التملك والسيطرة أصبحا اللاعب الوحيد في سلوك البشر بشكل عام ، حتى أن شعار جملة الدول في رسم العلاقات قد أصبح ( بناء علاقات متبادلة مبنية على المصالح المتبادلة) ، ولو صدق أصحاب هذا الشعار لكان الواقع أقل سوء ، غير أنهم لم يصدقوا فيه ، فما أكثر الإجراءات المبنية على تغليب مصالح طرف على طرف آخر ، الأمر الذي يشي بكون هذا الشعار أحد الخدع السياسية التي يراد منها تخدير الأمم الضعيفة .

 ولكن بعيداً عن تقييم مرحلة تطبيق هذا الشعار  فإنّ رفعه  يعني غياب الطبيعة البشرية النقية؛ لأن الإنسان هو ذلك الموجود الفريد الذي يحب نفسه ، ويسعى من أجل تحقيق مصالحها ودفع مضارّها ، وفي نفس الوقت يحب الآخر ، و يتألم لأجله ، ويحسن إليه ، بل و يؤثر على نفسه بتقديم غيره عليها ، وليس شاهد على هذا أفضل من الوجدان ، فكل واحد منا يرى أن الإحسان و الإيثار من القيم السامية ، و يدرك أن المحسنين و المؤثرين يتميزون بالسمو والكمال، وقد ندب ديننا الحنيف إلى  أن تكون علاقة الإنسان مع الآخر أسمى من علاقة المصالح المتبادلة ، و المعاملة بالمثل و إن كانت جائزة في نفسها في بعض الموارد ،  ولهذا دعا الدين إلى العفو والصفح ، والإحسان والجود والكرم ، و حب الخير للآخر كحبه للنفس ، يقول تعالى : {لَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} سورة  فصلت آية :34، ويقول : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} سورة الحشر  آية 9.

 وعن رسول الله (صلى الله عليه و آله  ) : " أحسن إلى من أساء إليك "، وعن أمير المؤمنين  (عليه السلام): "احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره"، و " إن إحسانك إلى من كادك من الأضداد والحساد، لأغيظ عليهم من مواقع إساءتك منهم، وهو داع إلى صلاحهم"، و " أحسن إلى المسئ تملكه" ، و " أصلح المسيء بحسن فعالك، ودُلَّ على الخير بجميل مقالك" ميزان الحكمة ج 1 ص 641.

 إنّ كمال الإنسان في أن يعيش الإنسانية برحابةٍ قيَمية ، فيطلب الخير لغيره ، ومن هذا الدعوة إلى الحق والرشاد ، فإن هذه الدعوة جزء من شعور الإنسان بحب الخير لغيره الضال عن الحق ، والمحروم من نعيمه، ومنه ـ أيضاً ـ في ديننا الحنيف رفع الإنسان عن الخضوع للهوى ، والشهوة ، وعبادة المادة والأنا ، والتسامي عن جعل النفس محور الوجود مع كونها أثر لمحوره الحقيقي ، وهو الله (تبارك وتعالى) ، ومن كمال النفس الإنسانية عدم الحقد والحسد ، و إعطاء من لا يعطي ، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): "صل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، وقل الحق ولو على نفسك" ميزان الحكمة ج2 ص 1056.

 ولا يمكن أن الإنسان يعيش رحابة القيم في مجتمعه البشري العام  ما دام يعيش في بيئتنا العامة التي تسير عليها ثقافة الإنسان المسيطر ، والذي يوظف كل إمكانياته الإعلامية والسياسية  لزرع قيم الأنانية و التمييز المبني على أساسات مختلفة تراعى فيها مصالح خاصة ، لهذا لا بدّ من وجود جو قيمي خاص، يعيش فيه الإنسان التجربة الإنسانية  الحقيقية ، فيشاهد بعينيه ، و يلمس بيده تجسد القيم ، ومثولها كنظام ملزم ، يأخذ إلزامه من داخل الإنسان ، من وجدانه و إيمانه الراسخ بالقيمة الإنسانية ، وهذا ما صنع النبي (صلى الله عليه و آله) في واقعة المؤاخاة بين المسلمين في المدينة بعد هجرته المباركة ، فقد بين أن المسلم أخ المسلم ، وحث الأنصار على معاملة المهاجرين كأنفسهم، وقام الأنصار ببذل أموالهم ودورهم و أراضيهم إحساناً حتى قال المهاجرون   "يَا رَسُولَ اللهِ، مَا رَأَيْنَا قَوْمًا أَحْسَنَ مُوَاسَاةً فِي قَلِيلٍ، وَلَا أَحْسَنَ بَذْلًا مِنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، لَقَدْ كَفَوْنَا الْمُؤْنَةَ -أي: مؤنة النخل- وَأَشْرَكُونَا فِي الْمَهْنَا -الثمرة والنتيجة- لَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالْأَجْرِ كُلِّهِ، قال (صلى الله عليه و آله): أَمَّا مَا دَعَوْتُمْ لَهُمْ، وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ مُكَافَأَةٌ، أَوْ شِبْهُ الْمُكَافَأَةِ "رواه البيهقي في شعب الإيمان: 8685.

 إن فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان سبباً لإيجاد روح المحبة والأخوة ، والمساواة ، و الإحسان والفضل كتجسد اجتماعي، يراه الناس قيمة مطلوبة ، يمدح فاعليها ، و يتنافس الناس على بلوغها ، وبهذا تضعف روح الأنانية و  طلب الغلبة و الاستئثار بحق أو بباطل ، و إن المجتمع البشري بحاجة في كل زمان إلى وجود هذه الروح القيمية المتجسدة ، وكل فرد من أفراد البشر لكي يرتقي عن تأثير النزاعات والصرعات ، و يتخلص من فقد إنسانيته ، و لكي ترجع فطرته إليه و يجد نفسه الضائعة عنه ؛ بحاجة ماسة إلى دورة روحية وسلوكية تعيد برمجته الأخلاقية والقيمية ، فهو بحاجة إلى أن يخرج من الدنيا ، وما فيها من دنو الطباع ، و تصارع السباع على جيفتها ، ليرقى إلى جنة تجسد الكمال الإنساني ، و وجدان صفاء الفطرة ، والتصالح مع النفس من الداخل ، و هذه الدورة كفيلة بإعادة ضبط بوصلة القيم ، والنظرة فيها و في تطبيقها  مع الإنسان الآخر مهما أختلف في الدين، و العرق ،و الانتماء ، وهنا نأتي عند مناسبة أربعين الإمام الحسين (عليه السلام) كمحطة فريدة تحقق للإنسان الدورة الروحية والقيمية ، و تسمو به عن حياته المعتادة على التنافس و الصراع ، و سلب الحقوق ، و تعطيل النظم والقوانين.

   فصاحب المناسبة هو الإمام القائد الذي بذل كل شيء في سبيل قيمه ، وتحقيق الإصلاح والعدل ، وكرامة الإنسان ورفعته  ، فهو القائل : ( إنما خرجت لطلب الإصلاح)  ، و القائل : (لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل)، و ( هيهات منا الذلة ) ، وعلى خطى هذا القائد العظيم يسير الملايين في أيام لتنصهر مشاعرهم في مشاعر قائدهم ، و تندك أفكارهم في رؤاه ، و تمتزج أهدافهم بأهدافه، وفي مسيرتهم العظيمة تزول كل الفوارق ، فلا الغني يمتاز عن الفقير ، و لا  العربي عن الأعجمي، ولا المسلم عن غيره ، وترى جميع معاني التضحية والإحسان والجود والكرم ، فلم يعد التنافس من أجل مصلحة الذات ، ولا المصالح المتبادلة ، و  إنما من أجل مصلحة الآخر ، فترى الأرملة العجوزة الفقيرة قد فرحت بما أنقصته من نفقتها السنوية  وقترت به على نفسها وأولادها  وها هي تقدمه للسالكين في طريق الفضيلة زاداً يتمثل في التمر والماء ، وحولها أبناؤها وبناتها غيرت ألوانهم الشمس يخدمون معها الزائرين  ، وترى الشباب الحدث بكل ما يحمل من قوة ورغبة في اللهو و التنعم في ملذات الدنيا قد ترك كل رغباته  ليرجو أحد الزائرين  حتى يغسل قدميه أو يصلح حذاءه ، مشاهد استثنائية لا تراها في عالمنا ، ولا تتفق في حياتنا الاعتيادية ، و الغريب جدّاً أن كل من حولك من جنوب العراق إلى شماله على هذه الشاكلة ، وكل واحد منهم يبدع في رسم صورته الإنسانية الخاصة التي لا تكاد تتكرر من غيره . نعم ، هو عالم فريد مفعم بالصور الإنسانية التي تأسر كل إنسان ، وتخرجه من عالم الظلمات إلى عوالم النور ، فتجعله يعيش إنسانيته ، ويبصر ذاته ، و يقف على وجدانه لحب القيم والمبادئ السامية التي لا بد أن يحكم بها سلوكه ، وعلاقته مع الآخر ،وكل من عاش زيارة الأربعين عاد ليفصح عن التأثير العظيم لتجربته الفريدة ، و  قد  شاهدت ما ذكرته إيميلي غارثويت في معرض قمة الإمام الحسين (عليه السلام) بعد تجربتها في تصوير فلم وثائقي عن زيارة الأربعين ، فوجدتها قد  تحدثت عن عدة أمور تكشف عن الثروة الإنسانية في هذا الحدث الكبير ، و  منها:

{ الثروة الإنسانيّة في زيارة الأربعين }

الأمر الأول : أنها كانت مقتنعة بأن تغطية الحروب في الشرق الأوسط هي الطريق الأفضل ، لأنه الأسرع نحو الشهرة ، ولكنها بعد أن خاضت التجربة الأكثر نجاحاً ـ  وهي تجربة الأربعين ـ  غيرت مشروعها من الاستثمار في الحرب ومسايرة الإعلام المشوه للإسلام و المسلمين ، إلى الاستثمار في القيم الإنسانية التي يتصف فيها الشعب المسلم الشيعي بالثراء.  

الأمر الثاني: كانت تقف أمام سؤال كبير وهو:  كيف يكون قتل شخص قبل 1400 سنة تقريباً محركاً لما يقرب من 25 مليون انسان في هذه المسيرة العظيمة ، و هم يبكون عليه كأنه قتل الساعة؟ وكيف لرجل واحد أن يجمع كل هؤلاء في مكان واحد؟

 لقد غمرتها المشاعر و تملكتها الحيرة. 

الأمر الثالث : ولماذا يتجاهل الاعلام العالمي هذا الحدث الإنساني الفريد من نوعه والمميّز، حيث إنه أكبر تجمع بشري يتم بهذا النحو؟ 

الأمر الرابع : كل الناس لطفاء يعاملون بأخلاق عالية ، ويقدمون الخدمة للجميع ، وهي أخذت حظاً وافراً من خدمة المسلمين الشيعة مع أنها مسيحية.

الأمر الخامس : هناك تناقض بين تجربتها مع زيارة الأربعين ، وما يقدمه الاعلام البريطاني.

الأمر السادس: لقد عادت إلى الزيارة مرة أخرى لتعيش التجربة ومشاركة الناس في السير و الطعام و الجلوس ، و لتعيش رغم الحزن أوقاتاً من البهجة ، وأرق المشاعر والعواطف ، وهذا ما يحصل بالتحديد في أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام) .

الأمر السابع: أدركت على خلاف الاعلام الغربي كم الإسلام دين مسالم ، و تعرفت على المسلمين الشيعة عن قريب ، وأدركت أنهم طيبون ومسالمون و   أصحاب أخلاق عالية، و قد قامت بنشر ما رأت ليرى  العالم صورة عن الإسلام والمسلمين مختلفة عن صور الإرهاب ،والقتل،  والتفجير.

  الأمر الثامن : منذ مشاركتها في الأربعين تعلمت جيدّاً كيف تستخدم صوتها.

 إن ما حدث لغارثويت هو إنها ببساطة خاضت تجربة الإنسانية المتجسدة ، و مرت بدورة روحية تلمست فيها القيم التي تسمع بها ، ولا تتوقع  وجود إنسان يلتزم بها، و إذا بها تعيش في مجتمع كامل يجسد تلك القيم ، فهو ينكر ذاته و يتحرك بروح غيريّة ، و يتفانى من أجل الآخر ، و يقدم التكافل الاجتماعي ، و البذل والعطاء حباً للبذل والعطاء على خطى القائد الشهيد المحبوب (عليه السلام)، لقد كانت هذه التجربة مؤثرة جدّاً ، لأن كل من خاضها يجد نفسه بفطرتها ووجدانها ، و بهذا يعرف موطن قيمته كإنسان  متميز عن الحيوان الذي لا يعرف إلا نزعته الذاتية ، وقد يألف من أحسن إليه ، فإن الإنسان هو ذلك الكائن الفريد في كونه محسناً ومؤثراً على نفسه ، ويرفض الإساءة إلى غيره كما يرفض الإساءة إلى نفسه، ولا ينتظر إحسان الآخر و عدله لكي يكون محسناً وعادلاً.   

 إن تجربة الأربعين تجربة غنية بالدروس والعبر ، وهي ضرورة ملحة لكل إنسان  لكي  يجد إنسانه الغائب عنه ، مع أنه كامن في داخله  ، يقول فرنسوا تويال مستشار رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي و المتخصص في الدراسات الإستراتيجية "إن أهمية مذبحة كربلاء لا تُقاس بمجرى الحدث: معركة صغيرة بين فريقين دامت يوماً واحداً، وأسفرت عن بضع عشرات القتلى، لكن موت الحسين حفيد النبي سيُتخذ رمزاً، ويصبح شعاراً في الإسلام، قوامه الصراع من أجل الخير والحق، و الاستشهاد الضروري لكل مقاتل من أجل العدالة، وهكذا وُلدت لدى الشيعة لمدى أجيال العلاقة بين الاستشهاد و الحقيقة، وبين الألم و العدالة"  كتاب الشيعة في العالم ص 36.

 و يقول ولي نصر أستاذ سياسات الشرق الأوسط و جنوب آسيا في دائرة الدراسات العليا التابعة للأكاديمية البحرية في أمريكا:  "لم يغدُ الحسين نبراساً للتشيع الرامز لحقه في المطالبة بقيادة العالم الإسلامي فحسب؛ بل صار كذلك مثالاً حياً للشهامة والشجاعة في النهوض بالقضية العادلة، قضية الوقوف في وجه الطغيان" كتاب صحوة الشيعة ص 38. ويقول ـ أيضاً ـ : " في ذلك الأربعين بالذات الذي جاء غداة اليوم المشهور الآخر، يوم اسقط رجال المارينز الأميركيون، والعراقيون مبتهجون، تمثال صدام حسين المجوف في ساحة الفردوس ببغداد، صادف أن كنت في ضواحي لاهور.. وكان جهاز التلفاز على محطة السي إن إن، حيث إن الجميع كانوا يتابعون الأخبار الآتية من العراق، فتحولت التغطية المتلفزة إلى نقل مشاهد لشبان شيعة يقفون مكتظين متراصين، في ظل القبة المذهبة لمقام الإمام الحسين( عليه السلام) في كربلاء كانوا جميعاً يرتدون قمصاناً سوداء، ويعصبون رؤوسهم بأوشحة خضراء اللون؛ كانوا ينشدون مرثاة بالعربية لإمامهم المحبوب، وهم يرفعون أكفهم عالياً نحو السماء، كما لو كانوا يصلّون ثم ينزلونها في تساوق وانسجام لتقرع صدورهم في حركة إيقاعية متواترة ملؤها التفجع و التضامن.. كانت للصورة جاذبية المغناطيس، لقد كان الشيعة يومها في الشوارع والطرقات، وكانوا يرفعون عقيدتهم وهويتهم عالياً كي يراهما الجميع، فجعلنا نبحلق في شاشات التلفاز ...". كتاب صحوة الشيعة ص 14.

  إن على المجتمع العالمي أن يدرك أهمية  الأربعين، كمحطة روحية  تنمي في الإنسان روح الإنسان، المحب للآخر غير المعادي له ، المحترم للقانون ، غير المستأثر بالخير، و المتمسك بالمبادئ والقيم ، والمضحي من أجلها لا لمصلحة ذاتية ، و أهداف فئوية ، وعلى المعنيين بالتربية ،  وتنشئة الأجيال على نبذ التطرف و الإرهاب  أن يكثفوا الاعلام في هذا الحدث العظيم ، و أن يرسلوا من يخوض تجربة الإنسان في طريق العشق الحسيني، فإن هذا كفيل بالتعريف بالإسلام والمسلمين ، و تربية الشعوب على احترام بعضها ومراعاة الحقوق بينها ، و تطبيق النظم والقوانين دون حقد أو بغيضة ، أو محاولة الاستئثار على حساب حرمان الآخر.   

 إن استثمار القيمة الإنسانية لمناسبة الأربعين يجعل المجتمع البشري أكثر احتراماً للقانون ، ومراعاة للآخر في مقام التطبيق ، و أبعد عن التمرد ، لأنه تبرمج داخلياً ليكون إنساناً تحركه القيم المبادئ ، ولا يعتدي ، فـ( أربعين الحسين ( عليه السلام) تجلية الجوهر الإنساني).