بقلم الشيخ خالد السويعدي
( الرد على هرطقات المهرطقين ) :
شبهة بعضهم حول قارورة أمّ سلمة ( رضوان الله عليها ) :
كتب أحدهم ممّن لا يعرف أيّ طرفيه أطول أن موضوع قارورة السيدة الجليلة أم سلمة ( رضوان الله عليها ) لا واقع لها ؛ لأنّها توفيت قبل واقعة الطف ، ودعوى أنّها ماتت بعد ذلك رواية شامية كوفيه لم يعبأ بها كبار المتقدّمين ، ويحاول أن يجعل القصة من مخترعات مذهب الشيعة فقط ، ويوسمها بالمذهبية .
وفي الجواب على هذه الهرطقة نقول :
المؤرخين القائلين بوفاة أمّ سلَمَة بعد واقعة الطف
1- من القائلين بوفاة السيدة أمّ سلمة ( رضوان الله عليها ) بعد واقعة الطف ( التي جرت سنة 61 هـ ) هم جملة كبيرة من كبار علماء أهل السنّة أيضاً ، وبالذات من أهل الاختصاص والتتبع الدقيق في تواريخ الصحابة عندهم .
فها هو الذهبي يقول في " سير أعلام النبلاء " : (( وفي " صحيح مسلم " : أنّ عبد الله بن صفوان دخل على أم سلمة في خلافة يزيد .
وبعضهم أرّخ موتها في سنة تسع وخمسين ، فَوَهَم أيضا ، والظاهر وفاتها في سنة إحدى وستين ، رضي الله عنها )).( سر أعلام النبلاء 2: 210)
فهذا المحقّق الكبير والمعتمد عند أهل السنّة شمس الدين الذهبي يستظهر مدّعاه بوفاتها سنة 61 للهجرة ( وهي السنة التي جرت في أوائلها واقعة الطف ) بما ورد في صحيح مسلم ( وهو من الكتب المعتمدة جدّا عند أهل السنّة ) من دخول عبد الله بن صفوان عليها في خلافة يزيد ، وإذا عرفنا أنّ واقعة الطف حدثت في محرّم سنة 61 للهجرة ، أي في أوائل خلافة يزيد - لأنّ شهر محرّم هو أوّل شهر من السنة الهجرية - يكون لاستظهار الذهبي محلّه من القبول جدّاً .
بل وجدنا الذهبي ينصّ - في موضع آخر من كتابه - على وفاتها ( رضوان الله عليها ) بالتحديد بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام وأنّها حزنت عليه كثيراً ، قال في " سير أعلام النبلاء " : (( كانت آخر من مات من أمهات المؤمنين . عمرت حتّى بلغها مقتل الحسين ، الشهيد ، فوجمت لذلك ، وغشي عليها ، وحزنت عليه كثيراً . لم تلبث بعده إلّا يسيراً ، وانتقلت إلى الله )). ( سير أعلام النبلاء 2: 202)
2- وجاء عن ابن حجر العسقلاني في " تهذيب التهذيب " : (( قال الواقدي توفيت في شوال سنة تسع وخمسين وصلى عليها أبو هريرة ، وقال أحمد بن أبي خيثمة توفيت في ولاية يزيد بن معاوية وقال غيره توفيت سنة اثنتين وستين... وأمّا قول الواقدي أنّها توفيت سنة تسع وخمسين فمردود عليه بما ثبت في صحيح مسلم أنّ الحارث بن عبد الله بن ربيعة وعبد الله ابن صفوان دخل على أم سلمة في ولاية يزيد بن معاوية فسألاها عن الجيش الذي يخسف بهم وكانت ولاية يزيد في أواخر سنة ستين .
وحكى ابن عبد البر أنّها أوصت أن يصلي عليها سعيد بن يزيد وهو مشكل لأنّ سعيدا مات قبلها بمدة . والجواب عنه سهل إن صح وهو احتمال أن تكون مرضت فأوصت بذلك ثمَّ عوفيت مدّة بعد ذلك فمثل هذا يقع كثيرا .
قال ابن حبان ماتت في آخر سنة إحدى وستين بعد ما جاءها نعي حسين بن علي رضي الله عنهما )). ( تهذيب التهذيب 12: 405)
فهنا نجد ابن حجر العسقلاني - وهو من كبار علماء الرجال والتراجم عند أهل السنّة أيضا - يردّ دعوى من قال بوفاتها قبل خلافة يزيد ويستدلّ بما ورد في صحيح مسلم كما تقدّم عن الذهبي ، بل وينقل ما ورد عن ابن حبان - وهو عالم كبير آخر من علماء أهل السنّة - أنَّ وفاتها ( رضوان الله عليها ) كانت بعد مقتل الحسين عليه السلام بالذات .
وجاء عن ابن عساكر - وهو عالم كبير آخر من علماء أهل السنّة - في " تاريخ مدينة دمشق " : (( ماتت أم سلمة زوج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سنة إحدى وستين حين جاء نعي الحسين وهذا هو الصحيح )). ( تاريخ مدينة دمشق 3: 211)
وعن ابن كثير - وهو عالم كبير آخر من علماء أهل السنّة - في " البداية والنهاية " : (( قال الواقدي : توفيت سنة تسع وخمسين وصلى عليها أبو هريرة . وقال ابن أبي خيثمة : توفيت في أيام يزيد بن معاوية .
قلت : والأحاديث المتقدّمة في مقتل الحسين تدلّ على أنّها عاشت إلى ما بعد مقتله والله أعلم )). ( البداية والنهاية 8: 234)
فهنا نجد ابن كثير يقرّ بالأحاديث المروية عنها بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام ويثبت أنّها توفيت بعد مقتله .
بل تقدّم عن ابن حجر بأنّ هناك من يقول بوفاتها سنة 62 للهجرة ، وهو ما رواه الطبراني بسند رجاله ثقات ( كما ينصّ على ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 245).
الروايات الدالّة على وجود أمّ سلمة بعد واقعة الطف
هناك جملة من الروايات الصحيحة تثبت وجودها بعد واقعة الطف وقد أقرّ ابن كثير هذه الروايات واستفاد منها أنّها ( رضوان الله عليها ) عاشت إلى ما بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام .
وحديث شهر بن حوشب الذي جاء فيه عن الهيثمي في مجمع الزوائد : (( وعن شهر بن حوشب قال سمعت أم سلمة حين جاء نعى الحسين بن علي لعنت أهل العراق وقالت قتلوه قتلهم الله عز وجل غرّوه وذلوه لعنهم الله . رواه الطبراني ورجاله موثقون )). ( مجمع الزوائد 9: 194)
وكذلك حديث عبيد الله بن القبطية وهو فيما يرويه من دخول الحرث بن أبي ربيعة وعبد الله بن صفوان أيام ابن الزبير على أم سلمة حين سألاها عن الجيش الذي يخسف به فقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقول : يعوذ عائذ بالحرم فيبعث إليه بجيش فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بهم. ( صحيح مسلم 8: 166، مسند أحمد 6: 290)
فهذه الرواية كما نشاهد هي من مرويات صحيح مسلم ، وهو من الكتب المعتمدة جدّاً عند أهل السنّة ، كما صحّح الرواية الحاكم في مستدركه ووافقه على ذلك الذهبي ( انظر : المستدرك على الصحيحين 4: 475) ، ولعلّ محاولة الطعن في هذه الرواية لما ذكره ابن حزم في " المحلّى " : (( أسقطنا من هذا الخبر كلاماً لبعض رواته ليس من الحديث في شيء وهو غلط وهو أنه ذكر أن ذلك كان أيام ابن الزبير وهو خطأ لأنّ أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها ماتت أيام معاوية )). ( المحلّى 11: 407) ، وهذا الكلام من ابن حزم مردود عليه ؛ لأنَّ دعوى وفاة أم سلمة أيام معاوية لم تثبت بشكل متواتر حتّى نضطر إلى التصرف بالمظنون لحساب المتواتر ، بل كان المناسب له أن يصنع كما صنع بقية العلماء من الذهبي وابن كثير وابن عساكر من النصّ على وفاتها ( رضوان الله عليها ) بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام استناداً لما ثبت بالسند الصحيح لهذه الرواية ، خاصّة وأنّ رواتها من كبار الأئمة والعلماء عند أهل السنّة ممّن عاشوا في القرنين الثاني والثالث الهجري كأحمد بن حنبل ( المتوفى سنة 241هـ ) ومسلم بن الحجاج النيسابوري ( المتوفى سنة 261 هـ) .
ويؤيد هذه الرواية المروية في مسلم التي استفاد منها علماء أهل السنّة وفاة السيدة أم سلمة بعد مقتل الحسين عليه السلام ، ما رواه الطبراني عنها ( رضوان الله عليها ) أنّها سمعت الجنّ تنوح على الحسين ابن علي ( قال الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 199: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ) .
وعن ابن كثير في " البداية والنهاية " : (( روى حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمارة عن أم سلمة أنّها سمعت الجن تنوح على الحسين بن علي ، وهذا صحيح )). ( البداية والنهاية 6: 259)
تصحيح حديث القارورة عن أمّ سلمة
أمّا حديث القارورة الذي يحوم حوله هذا المتنطع لتضعيفه ، فنقول : هذا الحديث العظيم رواه كبار علماء أهل السنّة كابن حجر في تهذيب التهذيب (2:301) ، والمزي في تهذيب الكمال ( 6: 409) ، والطبراني في المعجم الكبير ( 3: 108) ، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق ( 14: 193) والسيوطي في الخصائص الكبرى ( 125) وغيرهم، هو حديث صحيح حسب مباني الجرح والتعديل عند أهل السنّة ، فقد رواه الطبراني بالسند التالي : حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني عباد بن زياد الأسدي ، نا عمرو بن ثابت عن الأعمش عن أبي وايل شقيق بن سلمة عن أم سلمة قالت : : كان الحسن والحسين ( رضي الله عنهما ) يلعبان بين يدي النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) في بيتي فنزل جبريل عليه السلام فقال : يا محمد إنَّ أمتك تقتل ابنك هذا من بعدك فأومأ بيده إلى الحسين ، فبكى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وضمّه إلى صدره ، ثمَّ قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : وديعة عندك هذه التربة ، فشمّها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ريح كرب وبلاء . قالت : وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : يا أم سلمة إذا تحولت هذه التربة دما فاعلمي أن ابني قد قتل قال : فجعلتها أم سلمة في قارورة . ثمّ جعلت تنظر إليها كل يوم وتقول : إنّ يوما تحولين دما ليوم عظيم .( المعجم الكبير 3: 108)
ورجال السند هنا كلهم ثقات ما عدا عمرو بن ثابت الذي صرّح الهيثمي في المجمع بأنّه متروك ( انظر : مجمع الزوائد 9: 189) ، وإذا راجعنا ترجمته في كتب الرجال عند أهل السنّة لم نجد من سبب لتركه سوى أنّه رافضي .
قال أبو داود عنه : عمرو بن ثابت رافضي رجل سوء ولكنه كان صدوقاً في الحديث .( سنن أبي داود 1: 72)
وعنه أيضاً : ليس يشبه حديثه أحاديث الشيعة ، يعني أنّ أحاديثه مستقيمة ، وليس في حديثه نكارة. ( سؤالات الآجري لأبي داود 1: 342، تهذيب التهذيب 8: 9)
وفي " ميزان الاعتدال " للذهبي : عن يحيى ، قال : عمرو بن ثابت لا يكذب في حديثه. ( ميزان الاعتدال 3: 249)
نقول : فإذا ثبت صدق هذا الرجل واستقامة أحاديثه وأنّه لا نكارة فيها - بشهادة علماء الجرح والتعديل عند أهل السنة أنفسهم - فما هو الموجب للغمز فيه من ناحية مذهبه ؟!
نترك الجواب للشيخ الألباني - وهو من كبار علماء الحديث والرجال في هذا العصر - للرد على أصحاب الغمز المذهبي للرواة ، فيقول في مناسبة ما : (( فإن قال قائل : راوي هذا الشاهد شيعي ، وكذلك في سند المشهود له شيعي آخر ، وهو جعفر بن سليمان ; أفلا يعتبر ذلك طعناً في الحديث ، وعلّة فيه ؟ !
فأقول : كلاّ ; لأنّ العبرة في رواية الحديث إنّما هو الصدق والحفظ ، وأمّا المذهب فهو بينه وبين ربِّه ، فهو حسيبه ، ولذلك نجد صاحبي " الصحيحين " وغيرهما قد أخرجوا لكثير من الثقات المخالفين ، كالخوارج والشيعة وغيرهم )). انتهى ( سلسلة الأحاديث الصحيحة 5: 262)
هذا ، على أنَّ إعطاء تربة كربلاء من قبل النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) لأم سلمة للإحتفاظ بها هو أمر ثابت حسب مرويات أهل السنّة أنفسهم ، إلا أنّ الاختلاف هل جرت هذه الحادثة مرتين ، مرّة بحضور جبرئيل ( عليه السلام ) كما تقدّم بيانه ، ومرّة أخرى بحضور ملك القطر الذي جاء يستأذن للسلام على النبيّ كما يروي ذلك أحمد في مسنده (3: 265) بسند صحيح ( قال الخطيب التبريزي في الإكمال : 172: الحديث صحيح وله شواهد كثيرة )، ورواه الطبراني في معجمه بسند حسن ( كما عن مجمع الزوائد 9: 190) ؟!
قد يستفاد أنّها حادثة واحدة كما هو المستظهر من كلام اليافعي في مرآة الجنان ( 1: 108 ) والصالحي الشامي في سبل الهدى والرشاد ( 10: 154) وابن حجر في الصواعق المحرقة ( 192).
هذا فيما يتعلّق برواية حديث القارورة في مصادر أهل السنة أمّا مصادرنا الشيعية فقد روت هذا الحديث العظيم عن إمامنا الباقر ( عليه السلام ) عن عمر بن ابي سلمة عن أمّه ، وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما سمع من صياح في بيت أم سلمة يوم مقتل الحسين عليه السلام ، كما في الأمالي للشيخ الطوسي (ص 315)، والثاقب في المناقب لابن حمزة الطوسي (ص330) ، وأيضاً يرويه الشيخ المفيد في إرشاده ( 2: 130) ، والطبرسي في أعلام الورى ( 1: 428 ) ، والأربلي في كشف الغمة ( 2: 217) ، والفتال النيسابوري في روضة الواعظين ( ص 193) وغيرهم .
في الختام أقول : على الباحث المنصف والموضوعي أن يجمع الأقوال والروايات ويحاكمها وفق ضوابط المنهج العلمي لا أن ينتقي شيئا ويترك شيئا فهذا غاية التطفل على العلم والمطالب العلمية .