بقلم السيّد بلال وهبي
حَتمِيَّة اليَوم " مَنْ يَكنْ حكيماً يَنَلْ خَيراً كثيراً "
جاءَت هذه الحَتْمِيَّة في قوله تعالى: "وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ" ﴿269/البقرة﴾
تتحدَّثُ الآية الكريمة عن حتمية مهمة للغاية، يرتكز عليها نجاح الفرد في عموم حياته وفي مختلف مجالاتها، وفي دنياه وفي آخرته، فإن الإنسان يعيش الحياة بمجموعة عديدة من الأحوال والقناعات والمواقف والقرارات، وكلها تتطلب منه أن يكون دقيقاً في فهمها، ودقيقاً في الاعتقاد بها وتَبَنِّيها، ودقيقاً في اتخاذ ما يجب من قرارات وخيارات، وجميع ذلك يحتاج معه إلى أن يكون خبيراً عليماً بصيراً واعياً، مُدركِا عِلَلَ الأمور وأسبابها وغاياتها وآثارها وعواقبها، قادراً على تقدير الأمور بمقاديرها وأوقاتها المناسبة، وبكلمة أخرى: إن الحياة تتطلب من الإنسان أن يكون حكيماً، وكل تكامل مادي ومعنوي يرغب به لا يمكن أن يتحقق له إلا بذلك.
ما هي الحكمة ؟
الحكمة هي : قدرة في العقل والنفس على امتلاك المعارف الحقة والقضايا المطابقة للواقع، والسَّداد والصَّواب في الرأي ، وَوَضع الشيء في موضعه قولا وعملا.
كما أنها تمنع الإنسان من ارتكاب الأعمال المُنكَرة الفاحشة عقلا وشرعاً، والحكيم هو الذي يُحْكِمُ القولَ والفعلَ ويأتي بهما على ما يقتضيه العقل والواقع متجنِّباً ميولَه ورغابته، ولا يستعجلهما قبل أوانهما، أو يتركهما حين يكون الزمان مناسباً، أو ينحرف بهما عن حدودهما وقيودهما، ولهذا يُطلَق على الطبيب المُداوي (حكيم) باعتبار أنه يصف الدواء المناسب للدّاء ويُحدد له الزمان والمُدَّة المناسبَين، وعلى هذا فالحكمة لا تختص بطبقة من الناس دون غيرهم، فكل من اتَّصف بما سَبَق ذِكرُه فهو حكيم، وكُلُّ مَن أَتقَنَ عملاً وأَحْكَمَه فهو حكيم فيه. وكان حليفا للخير الكثير، كما قال تعالى: "وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا".
ولَمّا كانت الحكمة تَسوقُ الإنسان إلى الكمال في أقواله وأفعاله وأحواله، فإن معرفة القرآن الكريم ومعرفة سُّنَّة المعصومين (عليهم السلام)، ومعرفة الدِّين الحَقِّ عقيدةً وشريعةً، وكل ما يهتدي به الإنسان إلى الحقّ ويدعوه إلى الخير، أمرٌ ضروري جدّاً، إذ كل ذلك من الحكمة، وفهمه ومعرفته يساعد الإنسان على أن يكون حكيماً، وقد رُوِيَ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " إِنَّ اللهَ آتاني مِنَ الحِكْمَةِ مِثْلَ القُرْآنِ، وَما مِنْ بَيْتٍ لَيْسَ فيهِ شَيءٌ مِنَ الحِكْمَةِ إِلّا كانَ خَراباً، أَلا فَتَعَلَّموا وَتَفَقَّهوا، وَلا تَموتوا جُهّالاً ".
كيف يصير الإنسان حكيماً ؟
الجواب: ممّا تقدَّم يظهر أنَّ الحِكمة لا تكون إلا في الشخص الذي يُقَوّي عقلَه ويُرَوِّضُ نفسه ويمسك بشهواته وغرائزه، ويُكثر من التَّفكّر، ولا يفعل أمراً إلا إذا تَدَبَّرَ في عاقبته فإن كانت خيراً فعله وإن كانت شراً اجتنبه، بهذا تُكتَسَبُ الحكمة، وتكون حكمة اكتسابية، رُوِيَ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعينَ صَباحاً جَرَتْ يَنابيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ على لِسانِهِ، وَأُنْطِقَ بِها لِسانُهُ". وعنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "إِذا رَأَيْتُمْ المُؤْمِنَ سَكوتاً فَادْنوا مِنْهُ فَإِنَّهُ يُلْقي الحِكْمَةَ".
ومن الحِكمة ما تكون مُفاضَةً من الله على العبد، وهذا معنى قوله تعالى: " يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ " فالله سبحانه يمنحها لمن يستحقها من عباده ممَّن لديه الاستعدادات العقلية والفكرية، ومن طَهُرَت نفسه وزَكَتْ أخلاقه، واجتنب الذنوب والمعاصي والموبقات والعيوب.
ورغم أن الله تعالى هو الذي يُؤْتي الحكمة من يشاء، لكن الآية الكريمة قالت: " وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا " حيث أَبْهَمَ تعالى الفاعل مع أنه هو الله تعالى، لبيان أن الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالحكمة والخير الكثير قرينان لا يفترقان، من يَكُن حكيما يَكُنْ في خير كثير.
وتجدر الإشارة أخيراً إلى أن هناك فَرْقاً بين العلم وبين الحكمة، فبالعلم يتعرَّف الإنسان على الأشياء وقوانينها، وكيفيية الاستفادة منها، والآثار المترتبة عليها، أما الحكمة فإنها تدعو الإنسان إلى استعمال الأشياء فيما خُلِقَت له، وتوجِّهه إلى أن يبتغي بها الخير والصلاح والهدى.
نصيحة:
تزوَّد بالعلم والمعرفة، احرص على فهم موقعك ودورك في الحياة، وواظب على تزكية نفسك وتنمية فضائلها، وتدبَّر في عاقبة كل قول قبل النطق به أو فعل قبل فعله.
السيد بلال وهبي
فجر يوم الأربعاء الواقع في: 17/11/2021 الساعة (04:30)