الشيخ مازن المطوري
يحلو لأنصاف المطّلعين وأصحاب العقول المنخورة بسوس الجهل، وأصحاب العَوَر في الرؤية الذين يقتطعون آية من سياقها، أو ينبشون رواية من مجاهل التاريخ ويحاكموها بعقلانية أنجلوسكسونية، أن يقرّروا أن الإساءات المتكرّرة التي يمارسها الإعلام الغربي تجاه الإسلام ونبيّه (صلى الله عليه وآله)، ناتجة من تراث المسلمين، وأن المسلمين أنفسهم هم السبب في هذا الهراء الإعلامي الغربي!
وهؤلاء في الواقع يمارسون التزييف للحقائق إن كانوا مطّلعين، أو هم جاهلون كل الجهل ويفتقرون للقراءة وتنقصهم المتابعة؛ لأنّ صورة الإسلام وصورة نبيّه في المخيال الأوربي لم تتشكّل عبر آية مقتطعة من سياقها أو عبر رواية نبشها أحدهم، وإنما تشكّلت منذ الأيام الأولى لبعثة النبي قبل أن يُدوّن القرآن الكريم، وقبل أن يرفع الحظر السلطوي عن تدوين الحديث، فقد تربّصت (وفق دراسات مهمة) دوائر الثقافة ومراكز الفكر اللاهوتي الأوربي لنبي الإسلام منذ أيامه الأولى، وشكّلت صورة مخيالية عنه.
[ روافد المخيال الغربي عن الإسلام والنبي محمد (ص)]
وقد كان لهذا المخيال رافدان أساسيّان:
الأول: ما كان يبني عليه الشرّاح اللاهوتيّون في القرنين الأولين للإسلام، أي في حقبة مبكرة، في اعتبارهم النبي (ص) هو المسيح الدجّال، الذي كانوا يعتقدون أنه الأمارة الرئيسة لمجيء اليوم الآخر. وقد كان لانتشار الإسلام وتوسّع رقعة سلطان المسلمين في تلك القرون المُغذّي الأساس لهذا التصور الذي جعل غير المعقول معقولاً.
الثاني: رأي اللاهوتيين المبكّر جداً الذين كانوا يعتبرون النبي محمداً (صلى الله عليه وآله)، (مطران) أو (بطريق) تشاجر مع بطريق القسطنطينية، فشكّل هرطقة انفصلت تدريجياً عن المسيحية الكاثوليكية الصحيحة! وقد كان هذا التصور بيزنطينياً في الأصل.
وإضافة لهذين الرافدين، كان هناك تصوّر شعبي غارق في الخيال عن الإسلام والنبي (صلى الله عليه وآله)، وقد استند إلى عوام الكهنة المتجولين، ويقرّر هذا التصوّر وثنية إسلامية فظيعة قوامها ثلاثون إلهاً! وآلهتها الأساسية فرّاكوتوس وأبولو ومحمد!
وكانت هذه الرؤية وبعض تفاصيلها الثابتة في المخيال الأوربي تستند إلى العهد القديم في حديث مجازي من سفر دانيال عن الحيوانات الأسطورية الأربعة، حيث رأى بعض اللاهوتيين أن الحيوان الرابع هو الإسلام ودولته، وبفناء الحيوان الرابع تكون نهاية الأشياء وينتهي العالم.
وظلّت هذه المصادر للمخيال الأوربي عن الإسلام ونبيه حتى مطلع القرن الثالث عشر الميلادي.
[ المخيال الأوربي عن الإسلام بعد القرن الثالث عشر ]
ورغم ازدياد المعلومات عند الأوربيين عن الإسلام ونبيه في القرون اللاحقة، إلا أن هذه المعرفة والزيادة في المعلومات، لم تغيّر (كلياً) الصورة الخاطئة والخيالية باتجاه صورة أكثر حقيقة، ولم تصحح الصورة السائدة. وحتى في عصر مارتن لوثر "المصلح" البروتستانتي، لم يبذل جهداً في هذا السبيل، بل غاية ما فعله أن طلب ترك المسلمين ونبيهم لينزل بهم غضب الله: (دعوا المسلمين ومحمدهم يفعلون ما يشاؤون حتى ينزل بهم غضب الله في النهاية كما قال القديس بولس عن اليهود. ولننصرف إلى الاهتمام بأنفسنا وطاعة ربنا حتى لا ندخل في عداد المحمدين الملعونين)!
[ المخيال الأوربي عن الإسلام في عصور الاستعمار والعصور اللاحقة ]
وفي عصور الاستعمار والعصور اللاحقة له لم يكن اهتمام الأوربيين بالإسلام إلا سياسياً في غالبه من أجل احتوائه، ويعترف أمثال سوذرن، أن كل الجهود التي بذلت في هذا المجال سواء في العصور الوسطى الأوربية أو القرون اللاحقة لها، لم تحرز تقدماً تدريجياً في رؤية الإسلام، وبقيت المسألة الإسلامية في المخيال الأوربي دون حلٍّ مُرضٍ.
وصلافة الرئيس الفرنسي ماكرون، ليست شيئاً جديداً، فلو قمنا بمراجعة سريعة لآباء الثورة الفرنسية والمؤثّرين فيها كأمثال مونتسكيو وروسو وفولتير، ممن يوصفون بـ"التنوير" و"العقلانية"، وطالعنا مواقفهم من الإسلام ونبيّه الكريم فسوف نجد ذات الصورة المستندة والمتأثرة بالمخيال اللاهوتي والأوربي العام.
نعم فآباء العقلانية التي يتشدّق بها ماكرون يحملون التخريف ذاته عن الإسلام وعن النبي الكريم، التخريف الذي لم تكوّنه آية مستقطعة من سياقها ولا رواية حفروها بمسامير، ولم يقرأوهما بمعايير العقلانية الأنجلوسكسونية ولا هيرمونتيك العرق الأبيض التي يتشدّق بها بعض نازلي لندن والذين ينسجون على منواهم في الهراء! من خلال تبرّعهم بتبريرات ومستندات لم تخطر ببال أعمدة المخيال الأوربي!