أسئلة زوار المدونة | السؤال 14
الاسم : رويدة
الدولة : العراق / كربلاء المقدسة
السؤال : ماهي آليات المفسر الفقيه خاصة في تفسير آيات الاحكام ؟ وهل يجب ان يكون المفسر في التفسير الفقهي مجتهدا أم يمكن لأي عالمٍ أن يفسّر بالتفسير الفقهي ؟
الجواب :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لمّا كان التفسير الفقهي أحد شُعَب التفسير الاجتهادي (1) فإنّ مسالك المفسّر وأدواته فيه تتنوَّع وتختلف باختلاف مباني المدارس والفقهاء الاجتهاديَّة في آليات فهم النص الشرعيّ والتي يتمّ تحريرها غالباً في علم أصول الفقه، ومن ثمّ تختلف براعة كلّ مفسّر عن غيره كلّما كانت قدرته العلميّة أبرع وأمتَن ومن هنا لا يُقاس تفسير من حاز ملكة الاجتهاد بمن هو دونه، ولمّا كان يحرم على من لم يحز هذه الملكة (الاجتهاد) التصدي للافتاء لأنّه سيكون من القول بغير علمٍ فيلزم من ذلك حرمة تصدّيه لاستنباط حكمٍ شرعيٍ من آيات الأحكام والافتاء به ، نعم يجوز له فهمها وشرحها ولكن من دون استنباط حكمٍ وافتاءٍ .. هذا جواب سؤالكم مجملاً وتفصيله كما يلي:
أوّلاً: أدوات التفسير الفقهي
لمّا كان التفسير الفقهي ضربٌ من ضروب التفسير الاجتهادي (الاستنباط) فهو بطبيعة الحال يبتني على جميع مقدّمات استنباط الاحكام الشرعية المذكورة في الفقه والأصول وغيرها لذا قيل في تعريف التفسير الاجتهادي أنّه : " الاستفادة من قوّة الفكر في تجميع الآيات (مع الاستعانة بالروايات ، اللغة، و...) والاستنباط منها لتوضيح مفاهيم ومقاصد الآيات. وفي هذه الصورة يكون العقل دليلاً وكاشفاً " (2).
ويجدر هنا التنبيه على عدم كفاية النظر في الآية فقط في استنباط الحكم في موضوع ما والافتاء على ضوئها بل لابدّ من الجمع بين الآيات والروايات المتعلقة بالموضوع نفسه ومن ثمّ استنباط الحكم من المجموع، بملاحظة أنّ هذه النصوص تتكامل فيما بينها لبيان حيثيات الحكم وأمّا مع وجود التعارض فيُصار إلى قواعد حلّ التعارض المذكورة في علم الأصول.
ومن هنا أمكن القول أنّ " التفسير الفقهي [ يتنوَّع ] تَبَعاً للمباني التي يختارها المفسِّر في الفقه والأصول فإذا ما ذهب المفسّر الفقيه إلى حجيّة الكتاب، أو الخبر الواحد، أو الإجماع، أو ... فإنّ نتائج التفسير سوف تختلف عن المفسّر الذي لا يعتقد بحجيّتها" (3) .
وكيف كان يمكن إجمال الأدوات التي يستند المفسر عموما والفقيه على وجه الخصوص عليها في تفكيك النص ومعرفة دلالته ومقاصده بما يلي:
1- علوم اللغة العربية
وهي تشمل علوم: الصرف والنحو والبلاغة وغيرها من العلوم المتكفلة بالنص العربي، فلا غنى للمفسّر عنها من جهة أنّ النصّ القرآني نص عربي في منتهى الفصاحة والبلاغة، فلا مناص عن اعتماد هذه العلوم في فهمه والتعرف على مقاصده.
2- علم أصول الفقه
إذ يتكفل علم الأصول ببيان القواعد العقلائية في فهم الخطاب أو النص كالبناء على أصالة الحقيقة مثلاً كما أنه يتكفّل بتحرير كثير من قواعد دلالة الألفاظ التي لم يتمّ تنقيحها في العلوم الأخرى بما يليق بها كمبحث المشتق وغيره كما أنه يتكفل بتمييز الحجة من اللاحجة في عملية الاستنباط الفقهي كالبحث في حجية ظواهر القرآن الكريم وغيرها، ويندرج في ذلك أيضا تقعيد الاستفادة من العقل البرهاني القطعي الذي ثبتت حجيته في علم الأصول، ومن كلّ هذا يتضح مدى أهمية هذا العلم للمفسر من أجل فهم النص.
3- الروايات المأثورة عن المعصوم (عليه السلام)
حيث لا مندوحة للمفسر في تجاوزها فيجب عليه النظر في النصوص التي تخص موضوع الحكم الشرعي الذي يريد استنباطه، إذ يمكن القول أنّ هذه الروايات تعدّ بمثابة قرائن منفصلة يمكن من خلالها الوقوف على حيثيات النص وفهمه .
4- مناهج التفسير
حيث يعتمد المفسّر في التفسير الفقهي على المناهج التي ثبتت عنده حجيتها وفاعليتها في رتبة سابقة كأن يعتمد على منهج تفسير القرآن بالقرآن أو غيره ومن أمثلة ذلك ما روي من استدلال الإمام علي (عليه السلام) على أنّ أقلّ الحمل ستة أشهر بما استنبطه من الجمع بين آيتين من آيات الأحكام حيث ورَد أنّ امرأة قد رفعت أمرها إلى عمر بن الخطاب وكانت قد وَلَدَت لستّة أشهر، فَهَمّ عمر أن يرجمها لولا أن تداركها الإمام أمير المؤمنين (ع) وقال: "إنّ لها عذراً في كتاب الله"، يقول تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾. وقال: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ فإذا كان الفصال وهي مدّة الرضاع عامين، فالباقي للحمل ستّة أشهر، فاقتنع عمر بذلك وخلّى سبيلها. ثمّ قال: "اللّهم لا تبقني لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب" (4).
وهكذا يمكن للمفسر أن ينتفع في التفسير الفقهي من سائر المناهج المعتبرة كالتفسير بالمأثور والتفسير اللغوي، والتفسير الاجتهادي (العقلي) ضمن ضوابطه المقررة وغيرها من المناهج.
5- قواعد التفسير
كردّ المتشابه من آيات الأحكام إلى المحكَم منها والوقوف على أسباب التنزيل، ومراعاة قاعدة الجري والانطباق، وغيرها من قواعد التفسير التي سبق أن تكلّمنا عنها بشكلٍ موجز في المقال الذي على هذا الرابط .( قواعد التفسير ).
النتيجة:
من خلال ملاحظة هذه النقاط الخمس يمكننا القول أنّ التفسير الفقهي لا يمتاز كثيراً عن غيره من اتجاهات التفسير من حيث الأدوات وإن امتاز عنها من حيث الغرض وبعض الضوابط ومنهج التأليف، نعم في العادة يركّز الفقيه المفسّر على أدوات الاستنباط الفقهي في تحليل النص فتجده يُكثِر من الرجوع إلى مدارك الأحكام الأربعة المقررة في علم الأصول لفهم النص الذي هو في صدد تفسيره وهذه نقطة امتياز له في قبال كثير من الاتجاهات والمناهج الأخرى كالتفسير الإشاري وغيره.
ثانياً: هل يُشترط الاجتهاد فيمن يتصدى لتفسير آيات الأحكام ؟
لابدّ من مراعاة شروط المفسِّر العامة المسطورة في محله من علوم القرآن في التصدي لتفسير آيات الأحكام ولكن السؤال في المقام هل يكفي توفر هذا المقدار من الأهلية في التصدي لتفسير آيات الأحكام أم لابدّ من إضافة شرط التوفُّر على ملكة الاجتهاد (أي القدرة على استنباط الأحكام الشرعية من مداركها المقررة) أيضاً ؟
والجواب نعم يُشترط الاجتهاد فيمن يتصدى لوضع تفسير لآيات الأحكام واستنباط الحكم الشرعي منها وأمّا إذا كان مجرّد محاولة لفهم النصّ والتأمل فيه من دون بناء حكم شرعي عليه فليس في البين من يشترط الاجتهاد في هذا المقدار من الفهم.
وينبغي الالتفات إلى أنّ مفردة الاجتهاد تُذكر في مصنفّات علوم القرآن ومناهج التفسير على معنيين:
الأوّل: الاجتهاد في التفسير بمعنى الاحاطة بما يتطلبه من مقدّماتٍ وشروطٍ وضوابط بالإضافة إلى القدرة على حل التعارض في حدود هذا الميدان ومثاله ما ورد في عبارات بعض الباحثين في معايير (ضوابط) التفسير العقلي والاجتهادي حيث عدّ منها : " قدرة المفسِّر على الاجتهاد في التفسير مع أخذ العلوم التي اكتسبها والاستعداد الموجود لديه بنظر الاعتبار " (5).
الثاني: الاجتهاد الفقهي بمعنى القدرة على استنباط الأحكام الشرعيّة من مداركها المعتبرة والاجتهاد بهذا المعنى إنمّا نشترطه المفسِّر في حالة أراد بناء حكم شرعي على ضوء ما استنبطه من الآية ومثاله ما ورد في عبارات بعضهم من قوله: " عادة ما يكون المفسّر لآيات الأحكام مجتهداً في الفقه، حيث يقوم ببيان رأيه في نهاية المطاف " (6).
فالخلاصة أنّه إذا أراد المفسّر استنباط حكمٍ شرعيٍ من الآية فهذا المقدار نشترط فيه الاجتهاد لأنّ نسبة الحكم إلى الله تعالى وأنّه من الشريعة المقدّسة لابدّ أن يكون عن علمٍ وإلا حرُم، وأما مجرد التأمّل في الآية الكريمة واستظهار معناها فلا يُشترط فيه الاجتهاد، وإنّما يكفي فيه التوفُّر على الضوابط العامة للمفسّر.
وأدلّة اشتراط الاجتهاد في الفرض الأوّل هي أدلّة اشتراط الاجتهاد في مرجع التقليد المذكورة في الفقه نفسها لأنّ الموضوع واحد وهو استنباط الحكم الشرعي فلتُطلب من هناك.
هذا ما تيسّر والله وليّ التوفيق .
____
الهوامش:
(1) يُنظَر: التمهيد في علوم القرآن ، الشيخ محمّد هادي معرفة : ج10/ ص287 بحث تنوّع التفسير الاجتهادي .
(2) دروس في المناهج والاتجاهات التفسيرية للقرآن ، محمّد علي الرضائي الاصفهاني: ص122.
(3) المصدر نفسه : ص266 .
(4) يُنظَر: التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص 808.
(5) دروس في المناهج والاتجاهات التفسيرية للقرآن ، محمد علي الرضائي: ص138
(6) المصدر نفسه : ص266.
لإرسال سؤالك اضغط هنا