القائمة الرئيسية

الصفحات

صور من بلاغة القرآن الكريم

 

صور من بلاغة القرآن الكريم

من بلاغة القرآن الكريم | الشيخ عبد الغني العرفات

[ نتعرّف في هذا المقال على بعض الصوّر والتراكيب من بلاغة وفصاحة القرآن الكريم ]

[ أوّلًا: وضع الظاهر موضع الضمير في القرآن الكريم ]

فمثلًا قوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَ ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) آل عمران : ٣. 

لماذا لم تقل الآية: (لتحسبوه من الكتاب وما هو منه) اكتفاءً بضمير (منه)، فإنَّ إعادة الظاهر بمعناه أحسن من إعادته بلفظه كما يقول البلاغيون ؟ ولكن مع هذا نجد الآية أعادت نفس اللفظ؛ وذلك تعظيمًا لشأن الكتاب فهو أعظم شأنًا من أن يشتمل على المفتريات والأباطيل فذكر الكتاب وأعيد بلفظه .

مثال آخر قوله تعالى: (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى‏) البقرة :٢٨٢.

لماذا لم تقل الآية : (فتذكرها الأخرى )؟

بل أعادت نفس اللفظ ! 

والجواب : لاختلاف معنى (إحداهما) في الموضعين فإن معنى إحداهما الأولى: أي ضلال إحداهما من غير تعيين، أما معنى إحداهما الثانية أي المستذكرة وليست الضالة.

[ ثانيًا: الإيجاز في القرآن الكريم ]

الإيجاز هو التعبير بالألفاظ القليلة عن المعاني الكثيرة.

والإيجاز يكون بالحذف.

مثاله: حذف المبتدأ من قوله تعالى: (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) البقرة : ١٨٤.

فكلمة (عدّة) خبر لمبتدأ محذوف، فكأن الجملة كانت هكذا : فالواجب عليه صوم عدةُ أيام أخر.

مثال آخر: حذف المفعول من قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اللَّـهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فلم يذكر مفعول الفعل (يبيّن) فترك ذلك للسامع حتى يستخرجه بعقله السليم وفطرته المستقيمة وتقديره: يبيّن لكم أمور دينكم وما يصلح شأنكم .

[ ثالثًا: دلالة التقديم والتأخير في القرآن الكريم ]

فقد يؤخّر ما حقه أن يقدَّم وقد يقدّم ما حقه أن يؤخّر في الجملة العربية، وهو أحد أساليب البلاغة. 

وهناك جملة من الأغراض البلاغية للتقديم والتأخير منها: 

التفضيل

مثاله: قوله تعالى: (وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى‏ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) الأحزاب: ٧.

فتقديم (منك) التي تشير إلى الرسول صلى الله عليه وآله للدلالة على تفضيله على نوح وبقية الأنبياء مع أنهم سابقون عليه زمنًا. 

مثال آخر: قوله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)البقرة ٢٧٤.

فصدقة الليل والسر أفضل من صدقة النهار والعلانية ولذلك قدمتا في الآية الشريفة.

[ رابعًا: الجملة المعترضة في القرآن الكريم ]

الجملة المعترضة هي أن تدخل جملة داخل جملة أخرى بحيث لو رفعت هذه الجملة لبقيت الجملة الأخرى تؤدي فائدتها بدون اختلال.

مثاله: قوله تعالى: (فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى‏ وَاللَّـهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى‏ وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) آل عمران : ٣٦.

فلو رفعنا جملة (والله أعلم بما وضعت) ثم قرأنا الجملة هكذا (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى) بدون جملة (والله أعلم بما وضعت) لما اختلت تلك الجملة.

والجملة المعترضة عندما تقحم داخل جملة أخرى يكون لغرض بلاغي كإبراز أهمية أمر مثلاً.

وهنا قوله تعالى (والله أعلم بما وضعت) جاءت هذه الجملة المعترضة لبيان عظمة هذا المولود بما يحمل من الأسرار التي ربما لا تكون في المولود الذكر.

مثال آخر: قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّـهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) المائدة : ٣.

الجملة المعترضة هنا قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ) فلو رفعنا هذا الجزء من الآية وقرأنا الآية ٣ من المائدة بدونه لما اختل معنى الآية فهي تبين أحكام الميتة في أوّل الآية في حالة عدم الاضطرار وتبين أحكام الميتة في آخر الآية عند الاضطرار.

وجاءت الجملة المعترضة في الوسط وذلك لبيان أمر عظيم له أهميّته هو إكمال الدين وإتمام النعمة ‏ويؤيد هذا ما ورد من الروايات أن الآية نزلت يوم غدير خم، وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة عشر من الهجرة في أمر ولاية الإمام علي عليه السلام.

[ خامسًا: الأغراض البلاغية في استعمال أسماء الإشارة في القرآن الكريم ]

أسماء الإشارة من أدوات التعريف ولكن يؤتى بها أيضًا لأغراض بلاغية.

مثاله : قوله تعالى: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الزخرف ٧٢.

فتلك اسم إشارة للبعيد وجيء به لتعظيم الجنة فلم يقل هذه الجنة.

مثال آخر: قوله تعالى: (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) يوسف: ١.

جيء باسم الإشارة تلك بلفظ البعيد للتفخيم والتعظيم.

وقد يؤتى باسم الإشارة للتنقيص والتحقير.

مثاله: قوله تعالى: (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ اللَّـهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) آل عمران :٦٦.

فهؤلاء جيء بها للتحقير فالآية بدونها تامّة معنىً، فلو قيل (ها أنتم حاججتم) لتمّ المعنى ولكن كلمة هؤلاء أضفت عليها معنًى جديدًا وهو تحقيرهم.

[ سادسا: الأغراض البلاغية في تكرار بعض الضمائر والأسماء في القرآن الكريم ]

تكرار بعض الضمائر والأسماء يأتي لأغراض..

وقد يتكرر الضمير بغرض التوكيد: مثل قوله تعالى: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى‏ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) لقمان ٤-٥. فتكرار الضمير (هم) تأكيد على أهمية هذه الفئة وعملها.

وقد يتكرر الاسم بغرض التعظيم كقوله تعالى : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) البقرة : ٥٩.

فتكرار كلمة (الذين ظلموا) التي كان بالإمكان أن يأتي الضمير حاكيًا عنها بمثل قوله (فأنزلنا عليهم) لكن الآية جاءت بتكرار اللفظ ( فأنزلنا على الذين ظلموا) تعظيمًا للأمر الذي فعلوه.

[ سابعاً: الفصل والوصل في القرآن الكريم ]

الوصل هو عطف بعض الجمل على بعض، والفصل ترك هذا العطف.

مثاله قوله تعالى: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَ قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ) آل عمران: ١٦٧.

فهنا ترك حرف العطف بين قوله (تعالوا قاتلوا) فلم تقل الآية (تعالوا وقاتلوا) لأن المقصود بهما واحد وبينهما تلازم إذ دعاهم النبي صلى الله عليه وآله للقتال فلا داعي لوجود حرف العطف.

مثال آخر : الفصل قد يكون لغرض الاهتمام والتعظيم 

كما في قوله تعالى: (وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) البقرة : ١٢٤.

ولم تقل الآية (وإني جاعلك للناس) فترك حرف العطف فكانت الجملة مستقلة عن الجملة السابقة لبيان فضل الله ولطفه بإبراهيم عليه السلام وأن الإمامة منسوبة لله تعالى ومنه.