القائمة الرئيسية

الصفحات

ضرورة التوازن في قراءة الدين

 التوازن في الدين

بقلم: الشيخ محمّد آل حيدر

يتنوع الخطاب الديني فيأخذ مجالات من التعابير والأساليب، وهذا أمر مطلوب لأن أمزجة المتلقين مختلفة والقدرات الفكرية متباينة، ولكن هذا الحسن المطلوب في تنوع الخطاب الديني لا بد أن يخضع لنقطة التوازن، وأن لا يتم التركيز على شكل من الخطاب وفكرة من التوضيح بحيث نسوق كل الدين والدنيا لهذه الخصوصية.

ضرورة التوازن في قراءة الدين

فمثلا يحاول السياسي غير المتزن أن يفسر جميع حركات أهل البيت (عليهم السلام) لتحقيق هدف استلام السلطة، ويفسر خروج الحسين (عليه السلام) بأنه مسيرة نحو تحقيق هذا الهدف، بل يصل الى حد الإعلان عن أن حلم الأنبياء الأعظم هو استلام السلطة السياسية !!.

ويحاول الثوري أن يفسر كل حركة مهما بدت ساكنة وهادئة بأنها ثورة ودعوة للنهوض والعمل الثوري، وألطف ما سمعت بهذا ماذكره شخص يدعي لنفسه الثقافة والمعرفة، وهو إمامي جعفري إثنى عشري، يقول بأن من دمر الجعفرية وتركنا في اضطهاد القرون المتعاقبة هو جعفر الصادق (عليه السلام) لأنه لم يتبع زيدا وينصره !!.

ويحاول الأخلاقي أن يتمسكن بالخطاب، ويعرض من على المنابر كيف يلوي رقبته تمسكنا وخضوعا، ويرى أن قمة ما وصل له الدين هو ما عرفه [الصوفي] ابن عربي والغنوصيين.

ويحاول من يعتبر التواصل مع الناس قمة الإسلام أن يظهر للناس، ولو من خلال نشر مقاطع مخزية مع شباب وشابات، تارة يستهزئ بالخالق سبحانه، وتارة بمأساة الحسين (عليه السلام)، وتارة بشعر غزلي مع متبرجة فاسقة، وهو يلبس عمامة رسول الله السوداء ولا أحد يصده، ولا عشيرته تتبرأ منه.

ويحاول من يرى شمولية الدين - ولا ريب في شموليته لكل مناحي الحياة - أن يجعل من مراجع الدين متخلفين ومتقوقعين، ويرى أن الظهور الإعلامي معيارا للعلم والدين.. 

وهكذا كلٌ يبكي على ليلاه وقد فقد نقطة التوازن.. ولكن ماهي نقطة التوازن؟؟؟

[ ما هي نقطة التوازن في قراءة الدين ]

نقطة التوازن هي النقطة المحورية التي يدور مدارها الإيمان والعمل الصالح، وتتمثل بأمرين نظري وتطبيقي:

أولهما يتمثل بالفكرة وكيف تُؤخذ (من حيث مصدرها، ومن حيث فهمها ومن حيث ترابطاتها)، ثلاث حيثيات تتكامل لتضعك على صواب الطريق.

فمثلا لو أردتُ أن أفهم موضوعا كالرجعة وماهي عقيدتنا بها، فتكون مصادري الروايات الشريفة في أمهات كتب الشيعة (ككتب الشيخ الصدوق والشيخ المفيد والشيخ الطوسي)، وأفهمها بشرح أكابر العلماء كالشيخ المجلسي، وأنظر ترابط الأفكار بحيث لا تتصادم ولا تتعارض، فإنه إن تصادمت لكانت من غير الله تعالى.

وهذا الترابط أفهمه من كلمات العلماء الكبار والفقهاء العظام للطائفة، وأما من كان اسمه كبير وكتابه معروف ولكن عليه شبهة من هنا وتصريح من هناك وتلميح من هنا وهناك وغير معروف بالفقه ومذهبه مذهب الفلاسفة وطريقته طريقة تحكيم الرأي فأتوقف عنه.

وهنا تأتي حوزاتنا بفضلائها وعلمائها لتبين حقيقة ما استبينوه فبان واستوضحوه فاتضح، وإلا فهل يُحتمل مثلا أن اسمًا عظيما كبيرا يُنكر البداء عند الشيعة، وذلك لأنه اشتغل بالفلسفة والفلك والسياسة وغيرها عن الروايات وتدقيقها ؟!، وهل يُحتمل في اسم كبير أن يرى أن الأئمة علماء عاديون لا ميزة لهم من العصمة وعدم الخطأ ولكن أمرنا الله بإتباعهم ولو أخطأ أحدهم ؟!، ولهذا ينبغي لمن أراد العقيدة ان يلتجئ إلى كتب أعاظم الرواة وإلى شروح كبار المراجع والفقهاء.

ولو أردتُ أن أعرف حكما عمليا فالرجوع الى فتاوى كبار الفقهاء وممن عُرف بالتقوى والعلم والاشتغال المتطاول لسنين عمره، وليس لأنه يقول بالرأي الفلاني، أو أن طريقته بالعمل الاجتماعي جيدة، او لأنه مشتغل بالسياسة، أو لأنه معتزل عن المجتمع، أو لأنه يتابع شؤون المجتمع، أو لأنه الأشجع، أو لأنه ناطق، أو لأنه صامت …الخ، بل هو الفقيه العامل بتكليفه.

وعليه فنقطة التوازن هي المعرفة النابعة من أهل بيت الرحمة (عليهم السلام) بفهم أكابر الفقهاء، فالمعرفة الفقهية الأس المتين للبناء الفكري والعملي لحياة المؤمن الذي يرجو نجاة من سخط الله تعالى وغضبه.

فمن كسل عن التثقف واعتمد على الفيس والواتس لمعرفة أحكام نفسه وأحكام الناس فقد فاته الكثير من المنجيات، فالمعرفة الفقهية تحتاج الى معرفة الفقهاء والرجوع الى ذوي الاختصاص للتعريف بهم، وأن يخصص كل مؤمن من يومه سويعة لمعرفة أحكام دينه فيما يعنيه فقط، فإن زاد فهو مسؤولية يتحملها الإنسان كباقي المسؤوليات إن قام بحقوقها استحق مزيد أجر وإن قصر استحق مزيد وزر، مع أنه كان له الخيار في عدم الخوض.

ولعل من أفضل مصادر الفكر لمن أراد اليوم توسعا ثقافيا هي كتب الروايات والأحاديث الشريفة بتبويباتها الحديثة (ككتاب الواعظ، وكميزان الحكمة وغيرها)، وأما من شرح ونقّح فعليكم بأكابر مراجع العصر (كالشيخ الجواد التبريزي، والسيد محمد سعيد الحكيم، والشيخ الوحيد الخراساني وغيرهم)، فتبني ثقافتك على الإتزان الفقهي.

فنقطة التوازن المفقودة هي (المعرفة الفقهية)، فالفقهاء هم من حفظ التوازن وأقاموا الحقائق، وكل ما عَداهم من صغير أو كبير فضلال وزخرف، وقد كان يتمنى إمامنا الصادق (عليه السلام) في أيامه أن تُضرب رؤوس أصحابه بالسياط ليتفقهوا، فكيف بأيامنا؟!. 

والخلاصة أن نقطة التوازن التي ننطلق منها هي الفقه، بلا تكاسل عن تعلمه،  ولا تكبر عن اتباع اهله. 

والله المستعان على اصلاح ذواتنا ومجتمعنا.