بقلم الشيخ حيدر السندي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
السؤال : هل لو وجد الشيخ الطوسي في زماننا هذا يجوز تقليده أم بسبب تطور الفقه لا يعد فقيهاً يجوز أن يرجع إليه العوام؟
الجواب : وعليكم السلام ورحمه الله وبركاته.
[ تطور الفقه ]
يمكن أن يطرح هذا السؤال بطريقة أخرى تلامس التشريع الفقهي ، و لا ترتبط بشخص الشيخ الطوسي (رحمه الله) ، وهي : إن علم الفقه قد تطور كثيراً ، فوجدت فيه قواعد جديدة ، و تنوعت الأدلة ، و اختلفت النظرة إليها من جهات متعددة ، و تضخمت الفروع الفقهية ، وصارت أضعافاً مضاعفة.
ولو قارنَّا بين كتاب المبسوط ـ الذي يقول الشيخ الطوسي (رحمه الله) في مقدمته «أما بعد، فإني لا أزال أسمع معاشر مخالفينا [من أهل السنّة] من المتفقّهة والمنتسبين إلى علم الفروع يستحقرون فقه أصحابنا الإمامية، ويستنزرونه، وينسبونهم إلى قلّة الفروع وقلّة المسائل… إلى أن قال: وهذا الكتاب إذا سهّل الله تعالى إتمامه يكون كتاباً لا نظير له، لا في كتب أصحابنا ولا في كتب المخالفين؛ لأنّي إلى الآن ما عرفتُ لأحدٍ من الفقهاء كتاباً واحداً يشتمل على الأصول والفروع، مستوفياً…» (1) ـ و بين جواهر الكلام للفقيه النجفي (رحمه الله) ـ فضلاً عن المستمسك للسيد الحكيم (رحمه الله) أو المستند للسيد الخوئي(رحمه الله) أو بحوث في شرح العروة للشهيد الصدر (رحمه الله) ـ لوجدنا الفارق كبيراً ، كما إننا لو قارنّا بين كتاب العدة في أصول الفقه للشيخ الطوسي (رحمه الله) و بين كتب الأصول المعاصرة كمصباح الأصول ، وبحوث في أصول الفقه ، و منتقى الأصول ؛ فإننا سوف نجد الفرق كبيراً كذلك ، وكأن علم الأصول تحول إلى علم آخر مختلف ، فهل مع هذا يكون من المقبول أن دليل جواز الرجوع للفقيه يشمل المتقدمين ، ثم لا يكون شاملاً لهم في زماننا لعدم صدق التخصص الفقهي ، والقدرة على الاستنباط بسب الفارق الكبير ، ولهذا لا يكون اليوم فقيهاً من درس المعالم و الروضة البهية بجد واتقان ، مع أنهما بحوث استدلالية متطورة بالنسبة إلى زمانهما؟!
[ تأثير تطور الفقه على فقاهة القدماء واجتهادهم ]
ولكن أليس القول بالشمول فيه اغفال لتطور وسائل الاستنباط ، والقول بعدم الشمول فيه تهافت في الحكم الشرعي الذي هو ثابت وباق ؟!
كما يمكن أن يطرح السؤال بكيفية ثالثة ترتبط بمفهوم الاجتهاد نفسه ، فهل كان بمعنى في الأزمنة المتقدمة، ثم تطور و تحول إلى معنى آخر في زماننا؟
والجواب : هو إن أدلة جواز التقليد صدرت قبل زمان الشيخ الطوسي (رحمه الله) ، وفيها ارجاع إلى الفقهاء ورواة الأحاديث ، بل وبعض الأفراد بعنوانهم الخاص تطبيقاً لكبرى جواز تقليد العالم ، وهذا خير دليل على أن العناوين المذكورة منطبقة على رجال ذلك الزمان ؛ إذ لم تصدر هذه الروايات لبيان وظيفتنا نحن في هذا الزمان فقط ، بل هي بحسب التحقيق مرشدة إلى ما عليه السيرة العقلائيّة من رجوع الجاهل إلى العالم في كل فن وعلم ، ومن ذلك القوانين والتشريعات، و الفقيه هو القادر بحسب الطرق العقلائيّة والشرعيّة على تحصيل الحجة على الحكم أو الوظيفة العملية الشرعية والعقلية حال فقد العلم ، وهذا منطبق على الشيخ الطوسي (رحمه الله) بلا شك ، بل إن قربه من زمن المعصومين (عليهم السلام) ، و وقوفه على أصول الشيعة في الفقه والحديث والرجال ، و التي كانت أكثر وفرة في زمانه ؛ يعطيه تفوقاً من هذه الجهة، كما إن من أدوات الاجتهاد معرفة تاريخ التشريع و الأجواء التي قدرت فيها النصوص ، كأسباب النزول ، و زمانه ، و ما عليه الوضع الفقهي في زمن صدور الروايات ، و المتقدمون أقرب إلى ذلك منا.
نعم ، بسبب البعد الزمني وتتالي الأحداث ، وضياع جملة من الأصول ؛ صار العلماء بحاجة إلى قواعد لم تكن الحاجة إليها موجودة في ذلك الزمان أو كانت الحاجة أقل ، فرب حكم كان محل وفاق ، ولكن وقع الاختلاف فيه بسبب ضياع مداركه ، فاحتاج المتأخرون إلى تنقيح قواعد لتحقيقه كالسيرة العقلائية ، و المتشرعيّة ، وقاعدة لو كان لبان ، وجملة وافرة من مباحث علم الرجال و الطبقات والنسخ ، و زيادة أبحاث المتأخرين لا تجعلهم أقرب إلى الحكم من الشيخ (رحمه الله) و أمثاله في هذا الفرض.
ولا ننكر تطور الفقه والأصول في زماننا ، فقاعدة (لا تعاد) أو (لا ضرر) أو (الفراغ والتجاوز) ، و تفريعاتها الدقيقة لا وجود لها بالنحو المعاصر اليوم في كتب المتقدمين، كما إنه تم جمع جملة من الكتب و أمكن ملاحظة التراث بطريقة أكثر شمولية ، وأيضاً تم تنقيح مباحث لم تكن معنونة سابقاً مثل الحكومة والورود ، و مناسبة الحكم للموضوع ، و إمكان انشاء حكمين في خطاب واحد ، وأسباب اختلاف الحديث ، و تنقيح المرتكزات العقلائية في الاعتبار و التشريع و جملة من مسائل الأصول العملية ، و القواعد الفقهية ، إلا أن هذا أولاً : لا يسلب الفقاهة بالنحو الوارد في أدلة التقليد عن المتقدمين ؛ إذ ملكة الاستنباط موجودة عندهم في حدود ما كانوا فيه خبراء ، لو وجد الواحد منهم في زماننا لأمكنه بملاحظة آخر النتاج الفكري استيعاب الأبحاث المعاصرة و الاستنباط على ضوئها، لما لديه من عمق ، ودقة ذهنية ، وخبرة علمية، وعليه، فملكة الاجتهاد القريبة موجودة. وثانياً : هو مختص ببعض المسائل ، فلو سلم بحاجة المتقدمين إلى دراستها لتحصيل الملكة فإن هذا يوجب عدم جواز تقليدهم فيها فحسب ، ويجوز في غيرها لشمول دليل جواز التقليد، وليس في هذا تناف في الحكم الشرعي، فإنه قائم على جواز تقليد الفقيه في كل مسألة هو فيها فقيه وخبير ، فلو اتفق أن شخصاً كان قادراً على الاستنباط في مسألة ، وليس قادراً في أخرى فإنه يجوز تقليده في الأولى دون الثانية ، وكذلك الحال في الفقهاء المتقدمين ، فإنه جاز تقليدهم فيما هم فيه قادرون على الاستنباط، وحيث استجدت مسائل و أبحاث لم يطلعوا عليها فإنهم لم يبلغوا الاجتهاد فيها فقط ، ولا يجوز تقليدهم فيها ؛ لعدم كونهم مصداق دليل جواز التقليد ، وما المشكلة في هذا؟!
ومن يقول بعدم صدق عنوان الفقاهة على المتقدمين بسبب تطور علمي الفقه و أصوله يقول كلاماً مضحكاً عند خبراء الفقه ، إذ كيف تسلب الفقاهة عن مثل الشيخ الصدوق(رحمه الله) والمفيد (رحمه الله) والطوسي (رحمه الله)، و فيوضات علمهم تروي المحققين إلى يوم الناس هذا؟!
نعم ، ما يمكن أن يقبل هو إن الفقيه المعاصر أعلم بحسب ما تقتضيه طبيعة تطور العلوم بسبب تراكب الخبرات وجهود الباحثين ، فنيوتن متخصص في الفيزياء ، غير أن آينشتاين أعلم منه فيها بسبب تطور علم الفيزياء في زمانه ، ولا مانع أن يقال : بأن الفقيه المتقدم كان في زمانه جائز التقليد ، ولكن لو وجد في زماننا فلا يجوز تقليده بسبب وجود الأعلم ، والقول بوجوب تقليد الأعلم ، ولا تناف في ذلك ، فهو من كون الشخص فقيهاً أعلم في زمان، وليس كذلك في زمان آخر ، فهذا من تبدل الموضوع و تبدل الحكم بتبعه ، لا من تبديل الحكم مع ثبوت موضوعه.
ولكن ينبغي التنبيه على أمر ، وهو : إن تضخم المسائل ومعرفة المتأخر بها لا يعني بالضرورة كون المتأخر أعلم من حيث الجهة المطلوبة في التقليد ، وهي أقربية الفتوى إلى الواقع ، فقد يكون التضخم ـ كما أشرنا ـ بسبب ضياع المدارك ، فلو كان الشخص عربياً صميماً ، وقد سمع الحكم مباشرة من المعصوم (عليه السلام) ، وكان محيطاً بالمرتكز المتشرعي المعاصر ، وسائر القرائن اللبيّة الحافة بالخطاب ؛ فإنه في عملية الاستنباط سوف يكون مستغنياً عن كثير من القواعد التي يحتاج إليها المتأخرون.
والحاصل : هو إن مفهوم الاجتهاد أو الفقاهة واحد ، وهو القدرة على استنباط الحكم الشرعي الفرعي أو تعيين الوظائف العملية من المصادر، وهذا المعنى متحقق عند أئمة الفقه من المتقدمين والمتأخرين ، وإن كان بنحو متفاوت كيفاً وكماً .
_____
الهوامش
(1) الطوسي، المبسوط في فقه الإمامية 1: 14 .