الشيخ الطوسي وجهوده في علم الأصول |
ملاحظة: هذا البحث مستل من تاريخ علم الأصول، مهدي علي بور: 100 - 108
أولاً: ترجمة الشيخ الطوسي
ولادته ونشأته:
هو الشيخ محمد بن حسن بن علي الطوسي المشهور بـ "أبو جعفر"، ولد عام ۳۸5 هجرية بعد 4 سنوات من وفاة الشيخ الصدوق، نزل بغداد عام 408هـ، وتتلمذ على الشيخ المفيد، والمؤكد أنه أدرك الشيخ المفيد خمس سنوات أواخر حياته. ودرس ثلاث سنوات على ابن الغضائري المحدث والمتكلم المشهور؛ لكنه تتلمذ على السيد المرتضى أكثر من غيره، ومن هنا كان شديد الاحترام لآرائه ونظرياته وكثيرا ما كان يمتدحه ويعظمه.
بقي الشيخ الطوسي في بغداد إلى سنة 447هـ، وعُدَّ في ذلك الوقت من أنبه علماء عصره.
تخصَّصَ في علوم كثيرة، كالكلام والفقه والأصول والتفسير والحديث، والرجال. وكانت له مؤلفات قَيِّمَة في أي اختصاص اشتغل فيه. يقول النجاشي عنه - وهو معاصر له - :" أبو جعفر من أصحابنا، جلیل القدر ، ثقة، ومن تلامذة شيخنا، الشيخ المفيد ".
وهذا الوصف يعكس المقام العلمي الذي تمتع به، حتى في الوقت الذي كان فيه السيد المرتضى والشيخ المفيد على قيد الحياة.
اختير الشيخ الطوسي بعد وفاة السيد المرتضی لزعامة الشيعة، وكان الخليفة يحترمه ويقدِّره، وعهد إليه کرسی تدریس علم الكلام في بغداد.
هجم المغول الطغارلة عام 447هـ على بغداد وأحرقوا مكتبة ابن الملك، وقلبوا الأوضاع في المدينة رأساً على عقب، وبعد سنة أي في العام 448هـ اشتعلت أوار الفتنة بين السنة والشيعة، إلى الحد الذي أدى إلى إحتراق مكتبة الشيخ الخاصة به، فلم يكن أمامه إلا ترك بغداد والهجرة إلى النجف الأشرف، التي لم تكن آنذاك أكثر من قرية . وبذلك بدأ فصل جديد من حياته، وأسس هناك حوزة النجف المشهورة، التي مضى على قيامها إلى الآن قرابة ألف سنة. عاش الشيخ الطوسي في النجف ۱۲ عاماً، انكبَّ خلالها على تربية الطلاب وتدوين الكتب .
وفاته:
توفي الشيخ في النجف عام 460هـ وقام تلامذته بتغسيله وتجهيزه وشُيِّع تشييعاً عظيماً، ووري الثرى في بيته الذي حُوِّل فيما بعد - بناءً لوصيته - إلى مسجد ما زال معروفة باسمه إلى الآن.
مشايخه:
مشايخه في نقل الحديث كثيرون، منهم الشيخ المفيد، وأحمد بن عبدون المعروف بابن الحاشر، وأبو حسين بن أبي جيد، وأحمد بن محمد بن عیسی، و... حيث ذكرهم جميعا في مشيخة التهذيب. وكان الشيخ المفيد والسيد المرتضى من أبرز أساتذته في علوم متعددة . والشيخ الطوسي نفسه كان يولي الكثير من الاحترام للسيد المرتضی.
تلامذته
تربى على يديه الكثير من العلماء، يمكن تصنيفهم إلى فئتين:
الأولى : المجموعة التي تتلمذت على يديه في بغداد وأصبحوا فيما بعد من علماء الشيعة.
والثانية : المجموعة التي حضرت دروسه في النجف بعد هجرته من بغداد، وكان أغلبهم في مقتبل العمر، ولم يشتهروا، ولم يعرفوا فيما بعد بأكثر من مقلدین له.
بعض تلامذته من الفئة الأولى:
1- عبد العزيز بن نحریر بن عبد العزيز البراج (م4۸۱هـ)، صاحب المهذب والجواهر.
2 - أبو الصلاح الحلبي (م 44۷هـ) الذي تتلمذ على يديه بناء لقول الشيخ. وبما أنه كان متقدماً علیه زماناً، فمن المحتمل أن تكون فترة تتلمذه قصيرة جدا .
3- آدم بن يونس بن أبي المهاجر النّسَفي.
4- إسماعيل بن محمد بن حسن بن بابويه القمي (م 5۰۰هـ).
5- حسن بن محمد بن حسن الطوسي (م 5۱۱هـ).
6- أبو علي، ابن الشيخ الطوسي نفسه .
ومن الفئة الثانية:
1- حسن بن مهدي السليقي العلوي، وهو من الذين جهزوا الشيخ عند وفاته .
2- أبو الحسن اللؤلؤي، شارك أيضا في تجهيزه وتكفينه .
3- ابن شهرآشوب المازندراني، صاحب كتاب «معالم العلماء» .
4 - أبو محمد بن حسن بن عبد الواحد الزربي.
5 - محمد بن علي بن حمزة الطوسي المشهدي(1).
ثانيا: الشيخ الطوسي، إطلالة على مؤلفات ومنزلته العلمية
يعتبر الشيخ الطوسي شيخ الطائفة الإمامية، ولا نحتاج إلى دليل لبيان تفوقه وأسبقيته في نشر العقائد والأصول الشيعية، بشكل واسع بالأدلة والبراهين .
في الواقع، كان الشيخ الطوسي على رأس هذه الحقبة وفي أوجِّها، وضع في الفنون والعلوم المختلفة آثاراً قيِّمة. ففي الحديث، ألَّف اثنين من المصادر والجوامع الشيعية الأربعة، "التهذيب والاستبصار". وفي الفقه، وضع کتاب "المبسوط"، الكتاب المفخرة الذي عرض الفقه الشيعي بكل تفاصيله، بعمق واستدلال محكم. وفي الكلام؛ وضع كتاباً قيما اسماه "التمهيد"؛ وفي التفسير ألَّف کتاب «التبيان». وفي الرجال والتراجم، ترك كتابين قيِّمين: «الرجال» و«الفهرست، ولخَّص كتاب «معرفة الرجال للكشي». وأغلب آثار الشيخ ما زالت حتى الآن من أهم مصادر البحث والتحقيق عند العلماء والباحثين
قام الشيخ إضافة إلى الجهود والإبداعات العلمية، بأعمال اجتماعية عظيمة، فبعد السيد المرتضى أصبحت رئاسة المذهب الشيعي في عهدته، وأوكلت إليه مهمة تدريس علم الكلام في بغداد من قبل خليفة عصره.
سعی بجد إلى تأسيس المراكز العلمية، وكان من أبرزها تشیید الحوزة العلمية في النجف الأشرف. ولو لم يقدم الشيخ الطوسي لعالم التشيع إلا هذا العمل، لكان جديراً بالثناء والتعظيم الكبير .
ثالثا: الشيخ الطوسي، مصنفاته الأصولية
يظهر من كلام الشيخ في كتاب الفهرست وكتبه الأخرى، أنه وضع ثلاثة كتب في الأصول:
1- مسألة في العمل بخبر الواحد ، يتعرض فيه لإحدى مسائل علم الأصول.
۲ - شرح الشرح، لا نعرف عنه شيئاً، لأنه ليس في المتناول .
٣- العدة في أصول الفقه، وهو دورة أصولية كاملة .
دور کتاب "عدة الأصول"، في تكامل الأصول الشيعي
يظهر الشيخ الطوسي، بتأليفه لهذا الكتاب، کمجتهد قدير وصاحب رأي في الأصول، حيث أوجد تحولاً في أصول الفقه الشيعي، كما الفقه نفسه، وأخرجه من بساطته القديمة إلى مرحلة متقدمة من النمو والكمال . وتجدر الإشارة إلى أن الشيخ مدين لأساتذة وأصحاب حاذقین، استفاد منهم، وكان لذلك الأثر الكبير في تطور هذه المرحلة؛ كابن الجنيد، والشيخ المفيد، والسيد مرتضى، وسلّار وآخرين؛ حيث اكتملت هذه الحركة الجديَّة وأثمرت على يديه القديرتين .
أما كتاب "عدة الأصول"، فهو كتاب عمیق ومتقدم جداً، وتشير اجتهاداته الدقيقة والمتشعبة، ونقله الأقوال المختلفة - من الخاصة والعامة - وتحليله الدقيق لها وانتقاداته المثيرة للغبطة، إلى مدى اطلاعه وقوة حسه النقدي وقدرته على التحليل. فعدة الأصول وإن كان أول كتاب شامل ومتين في أصول الفقه الشيعي، وإن كُتِب بعد الذريعة(2)، إلا أنه يعتبر بحق، - مع کتاب الذريعة للسيد المرتضی - من المفاخر التي ظهرت في عالم التشيع ؛ وإنَّ تحوُّلاً بهذه العظمة وبهذه السرعة لهو من الأعاجيب(۳).
وقد استفاد الشيخ في تدوينه من الكتابات الأصولية للسيد المرتضی، وأخذ كثيراً وفي لبِّ مباحثه من كتاب "الذريعة"؛ حيث نقل بعض مسائله، كما وردت في الذريعة دون زيادة أو نقيصة كبحث القياس(4).
يقع «عدة الأصول» في عشرين باباً، في كل باب مجموعة فصول . وجاء الفهرس الإجمالي لمواضيع الكتاب على الشكل التالي:
١- ماهية أصول الفقه، الخطاب وأقسامه، حقيقة العلم، بحث الدلالة و...
۲- بحث الخبر وأقسامه.
٣- الأوامر .
4 - النواهي .
ه - العام والخاص، ويقع في ۲۲ فصلاً، وهو من أكثر الأبواب تفصيلا. عند التأمل في كيفية تناوله للمسائل؛ يظهر لنا مدى قدرته ومهارته .
6- المجمل والمبين.
۷ - الناسخ والمنسوخ .
۸- الأفعال.
9- الإجماع.
۱۰ - القياس، وهو بحث السيد المرتضى نفسه في الذريعة .
۱۱ - الاجتهاد.
۱۲ - الحظر والإباحة، ويعالج فيه بحث استصحاب الحال .
بحث الشيخ مواضيع الكتاب بشكل مفصل، وخرجتْ أحيانا عن الحد الطبيعي، حيث أكثر من الإسهاب فيها، كبحث العام والخاص؛ فـ "عدة الأصول" من هذه الجهة أكثر تفصيلا من "الذريعة".
يبيّن الشيخ في كل بحث آراء علماء الشيعة، خاصة آراء الشيخ المفيد والسيد المرتضى، وكذا آراء علماء أهل السنة، خاصة الأصوليين المتكلمين منهم، وغالبا ما كان ينتقدهم. كان يميل كثيرة إلى رأي السيد المرتضی، وفي كثير من المواضع يتبنى نفس الرأي، ويعتبره الأرجح.
من المميزات الهامة لكتاب «عدة الأصول»، أنه مصفی من المباحث الكلامية والمنطقية، والشيخ هنا اقتفى أثر أستاذه .
رابعا: الشيخ الطوسي، خلاصة آرائه وأفكاره الأصولية
غالبا ما كانت آراؤه الأصولية وطريقة تحليله وأدلَّته عليها، محل اهتمام العلماء من بعده، وسنشير هنا إلى مجموعة منها دون عرض الأدلة :
1- ينقل الشيخ ثلاث نظريات في الخبر المتواتر وكيفية حصول العلم به :
أ- القول الأول: أن حصول العلم بالخبر المتواتر اکتسابي
ب - الثاني : حصول العلم في الخبر المتواتر ضرورة من فعل الله تعالى، ولا دخل للعباد فيها .
ج - الثالث : النظرية التي تفصل في ذلك : لو كان الخبر المتواتر متعلقاً بأخبار البلدان ووقائع الحياة، فعلمه يمكن أن يكون اكتسابياً . ويجوز أن يكون ضرورة من فعل الباري، أما الخبر المتواتر في إثبات المعجزة والأحكام الشرعية وأمثال ذلك، فتحصيل العلم به اکتسابي وعن طريق الاستدلال .
الرأي الثالث هو للسيد المرتضى، والشيخ هنا يتبنى نظرية أستاذه بحد ذاتها(5).
۲- يقول الشيخ إن خبر الواحد لا يفيد العلم، لكن يجوز التعبد به عقلا و شرعا، وجواز العمل به شرعاً مقيَّد بشروط خاصة يشير إليها . من هنا فإنَّ رأيه في خبر الواحد وجواز العمل به شرعا، مخالف لرأي السيد المرتضى القائل بأن لا دليل في الشرع على العمل به(6).
3 - يرى الشيخ أن الأمر وُضِعَ لبيان القول، وغير مشترك بين القول والفعل، وأن الأمر لغة وشرعا يدل على الوجوب، خلافا للسيد المرتضى القائل بأنه شرعاً لا يدل إلا على الوجوب، ويتوقف في لحاظ دلالته اللغوية(7) .
4- يرى أنَّ لأدوات العموم دلالة وضعية على معناها(8).
5 - في موضوع الإجماع، يقبل الشيخ نظرية مشهور الإمامية كما هي، لكنه عندما يناقشها يتمسك بقاعدة اللطف (9)(10).
- في بطلان القياس، يتبنى الشيخ نظرية السيد المرتضى، فمن الناحية العقلية يقول بعدم المانع من حجينها، ولكن العمل بها ممنوع
باللحاظ الشرعي(11) .
۷- نظرية الشيخ في الاجتهاد، هي النظرية المتفق عليها بين المتكلمين والأصوليين الشيعة، التي يقبلها الشيخ المفيد وكذلك السيد المرتضى، والمبنية على أن الحكم الإلهي واحد، لو توصل المجتهد إليه فهو مصیب، وإلا فهو مخطئ في اجتهاده(12).
المصدر: تاريخ علم الأصول، مهدي علي بور، دار الولاء، بيروت، ط1، 1431هـ: 100 - 108 .
_______
الهوامش:
(1) مصادر ترجمة الشيخ الطوسي: فهرست الشيخ، ص۲۹۰؛ رجال النجاشي، ص43؛ معالم العلماء، ص114 - ۱۱5؛ بزرك الطهراني، طبقات اعلام الشيعة، المجلد الثاني من القرن الخامس، ص۱6۱ - ۱6۲؛ مقدمة الرسائل العشر للشيخ الطوسي، بقلم محمد واعظ زادة الخراساني، ص5۹ - ۷؛ مقدمة عدة الأصول بقلم محمد رضا الأنصاري القمي، ص5- 82 .
(2) هناك اختلاف في الرأي حول أول كتاب شامل في الأصول عند الشيعة، فجماعة تقول أن أول کتاب عدة الأصول، کالشهيد الصدر، وجماعة أخرى تقول الذريعة كالدكتور گرجي
(3) فلو قارنَّا انجازات هذين العلمين مع الأعمال التي قام بها علماء أهل السنة على مدى سنين متمادية إلى ذلك الحين، يتضح لنا أكثر مدى قوة الشيخ وعظمته
(4) انظر: عدة الأصول، تحقيق محمد رضا الأنصاري القمي، ج۲، ص64۷ .۷۱۹.
(5) عدة الأصول، ج۱، ص۷۰ -۷۱.
(6) عدة الأصول، ص۱۰۰ و۱۲6.
(7) عدة الأصول، ص۱۰۹ و ۱۷۲
(8) المصدر السابق، ص۲۷۹ -۲۷۸.
(9) قاعدة اللطف من مختصات الشيخ الطوسي في تحليل حجية الإجماع التي يدرسها الطلاب في الكتب الأصولية.
(10) المصدر السابق، ج۲، ص6۰۲.
(11) المصدر السابق، ص652.
(12) المصدر السابق، ص726 - 725.
ليصلك جديد المدونة اشترك في قناتنا على التيليجرام بالضغط هنا