حجيّة روايات أصحاب الإجماع (1)
ادعى الكشي في كتاب الرجال (2) إجماع أصحابنا على تصحيح ما يصح عن جماعة من أعاظم الرواة.
فنسب إلى المشهور أنّ معنى (تصحيح ما يصحّ عنهم) هو أنّه يُعامَل مع ما يروونه معاملة الخبر الصحيح في الاعتبار والحجيّة من دون ملاحظة حال مَن كانوا واسطة بينهم وبين المعصوم (عليه السلام). فعلى ذلك تكون مراسيل المسمَين بأصحاب الإجماع حجّة، وكذلك ما رووه عمَّن لم تثبت وثاقته بطريق معتبر.
[ المراد من وصف الحديث بالصحّة ]
أقول: إن الصحة في العرف واللغة إنما هي بمعنى المطابقة للواقع، والظاهر أنها تستخدم بهذا المعنى في توصيف الحديث بها في كلمات المتقدمين، ولكن قد يلاحظ في التوصيف بها أصل صدور الحديث من الإمام (عليه السلام) ولو من جهة توفر القرائن الدالة على ذلك بغض النظر عن كون الصدور لبيان حكم الله الواقعي أو لداعٍ آخر كالتقية، ولعل عدّ الكليني (قدس سره) روايات كتاب الكافي من الآثار الصحيحة عن الصادقين (عليهما السلام) إنما هو بهذا اللحاظ، أي أنّه توصف الرواية بالصحّة بلحاظ الوثوق والاطمئنان بصدور مضمونه من الإمام (عليه السلام).
وقد يُلاحظ في التوصيف بها مطابقة مضمون الحديث للواقع بغض النظر عن كونه صادراً عن الإمام بالسند المنقول به أو لا، ومن ذلك قول الفضل بن شاذان ــ في ما نقله عنه الصدوق (3) ــ عقيب رواية في الإرث مروية بطرق الجمهور: (هذا حديث صحيح على موافقة كتاب الله) فإن الظاهر أنّ مقصوده هو مطابقة مضمون الحديث لحكم الله الواقعي لا صدور الحديث بلفظه من المعصوم (عليه السلام).
ومثله قول الصدوق (قدس سره) (4) عقيب رواية في صوم أيام البيض: (هذا الخبر صحيح..)، فإنّ الظاهر أنّ مقصوده هو صحة هذا المضمون ومطابقته للواقع لا صدوره بهذا السند.
وبالجملة: الخبر المروي عن الإمام (عليه السلام) إذا وصف بالصحة يراد به مطابقته للواقع بأحد اللحاظين المتقدمين.
[ المراد من وصف الراوي بصحة الحديث ]
وإذا وصف الراوي بأنه صحيح الحديث كما نجد ذلك بالنسبة إلى غير واحد من الرواة في كتاب النجاشي وفهرست الشيخ ورجاله ــ ومنه قول الشيخ في سعد بن ظريف: صحيح الحديث. وقول النجاشي في محمد بن جعفر الأسدي: كان ثقة صحيح الحديث إلا أنه روى عن الضعفاء ــ فالظاهر أن المراد بالصحة فيه هو المعنى اللغوي أيضاً أي مطابقة الخبر للواقع، فإذا قال: (أخبرني الإمام (عليه السلام) ) في الخبر بلا واسطة أو قال: (أخبرني فلان بن فلان عن الإمام (عليه السلام) ) في الخبر مع الواسطة يبنى على كونه صادقاً في إخباره، فالصحة على جميع التقادير إنما يراد بها المعنى اللغوي.
[ المراد من تصحيح ما يصحّ عنهم ]
وفي ضوء ما تقدم أقول: إنّ في المراد بالموصول (ما) في قول الكشي: (تصحيح ما يصح) وجهين..
الأوّل: أن يراد به متن الحديث الذي رواه الحسن بن محبوب ــ مثلاً ــ عن المعصوم (عليه السلام) ولو مع الواسطة، فيكون المقصود بتصحيحه هو الحكم بصدوره منه (عليه السلام) أو كون مضمونه مطابقاً لحكم الله الواقعي.
وأما ما احتمله واختاره بعضهم من إرادة التصحيح وفق مصطلح المتأخرين وهو كون السند صحيحاً ــ إما بمعنى وثاقة جميع رواته كما مال إليه المحدث النوري، أو كونهم من العدول كما قال به آخرون ــ فهو احتمال ضعيف جداً فإنّ القدماء لا علم لهم بهذا الاصطلاح كما نبَّه على ذلك المحقق الشيخ حسن (قدس سره) في بعض كلماته (5) .
الثاني: أن يُراد به هو ما أخبر به الحسن بن محبوب ــ مثلاً ــ وهو قوله: (أخبرني الرضا (عليه السلام) ) أو قوله: (أخبرني أبو أيوب الخزاز)، وعلى ذلك فيكون المقصود بتصحيحه هو الحكم بمطابقة خبره للواقع، أي أنه بالفعل قد أخبره الرضا (عليه السلام) أو أبو أيوب الخزاز لا أنّه كذب عليهما ــ العياذ بالله ــ أو اشتبه في النقل عنهما.
ومن الواضح أنّ مبنى ما نُسب إلى المشهور في تفسير قول الكشي: (أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصح عن هؤلاء..) هو كون المراد بـ(ما) الموصولة هو ما مرّ في الوجه الأول، ولكن الظاهر أنّ المتعيِّن البناء على كون المراد بها هو ما ذكر في الوجه الثاني.
وذلك لأنَّه قد تقرر في محله من علم الأصول أنّه في مورد الخبر مع الواسطة لا يكفي أن يشمله دليل حجية خبر الثقة مرة واحدة، بل لا بدّ من أن يشمله بعدد ما فيه من الوسائط، فإذا قال الشيخ: (حدثني المفيد قال: حدثني الصدوق قال: حدثني أبي) فهنا أخبار ثلاثة: خبر من الشيخ وخبر من المفيد وخبر من الصدوق، فلا بد من شمول دليل حجيّة خبر الثقة للأوّل ــ أي خبر الشيخ ــ حتى يثبت الثاني، ولا بد من شموله للثاني حتى يثبت الثالث.
وبالجملة: الخبر مع الواسطة ليس خبراً واحداً، بل هو أخبار متعددة بعدد الوسائط، فإذا روى الحسن بن محبوب عن أبي أيوب الخزاز عن يزيد الكناسي عن أبي عبد الله (عليه السلام) فخبر ابن محبوب هو قوله: (أخبرني أبو أيوب) وخبر أبي أيوب هو قوله: (أخبرني يزيد الكناسي) وخبر يزيد هو قوله: (أخبرني أبو عبد الله (عليه السلام) ).
وعلى ذلك يمكن أن يقال: إن ظاهر قول الكشي: (أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصح عن الحسن بن محبوب) هو أنهم أجمعوا على تصحيح ما ثبت صدوره منه وهو قوله: (أخبرني أبو أيوب الخزاز) ــ مثلاً ــ إذ لو أريد به تصحيح الخبر الذي رواه بطريق الخزاز عن الكناسي كان ذلك بنحو من العناية والمجاز من باب أنّ الإخبار عن الإخبار بشيء إخبار عن ذلك الشيء، ولكن هذا ليس على وجه الحقيقة فلا يحمل الكلام عليه إلا مع القرينة وهي مفقودة في المقام، بل يمكن أن تُذكر قرينتان على خلافه..
القرينة الأولى: أن الكشي ذكر في تسمية الفقهاء من أصحاب أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) (6) (أنّه اجتمعت العصابة على تصديق هؤلاء الأوّلين من أصحاب أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) وانقادوا لهم بالفقه) ثم ذكر أسماءهم وهم زرارة ومعروف بن خربود وبريد بن معاوية وأبو بصير الأسدي أو المرادي والفضيل بن يسار ومحمد بن مسلم.
ثم ذكر (7) في تسمية الفقهاء من أحداث أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) : (أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح من هؤلاء وتصديقهم لما يقولون وأقروا لهم بالفقه) ثم ذكر أسماءهم وهم جميل بن دراج وعبد الله بن مسكان وعبد الله بن بكير وحماد بن عيسى وحماد بن عثمان وأبان بن عثمان.
ثم ذكر (8) في تسمية الفقهاء من أصحاب أبي إبراهيم وأبي الحسن الرضا (عليهما السلام) : (أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصح عن هؤلاء وتصديقهم وأقروا لهم بالفقه والعلم) ثم أورد أسماءهم وهم يونس بن عبد الرحمن وصفوان بن يحيى ومحمد بن أبي عمير وعبد الله بن المغيرة والحسن بن محبوب وأحمد بن محمد بن أبي نصر، وقال: إن بعضهم ذكر الحسن بن علي بن فضال وبعضهم عثمان بن عيسى مكان الحسن بن محبوب.
والملاحَظ أنّ الكشي استخدم التعبير بـ(تصحيح ما يصح عنهم) بالنسبة إلى المجموعتين الثانية والثالثة، ولم يذكره بالنسبة إلى المجموعة الأولى. مع أنّه لا ريب في أنّهم أعلى شأناً وأعظم مكانة من المجموعتين الأخيرتين، فقد ورد في حقهم من التجليل والتعظيم في الروايات المروية عن الأئمة (عليهم السلام) ولا سيما الصادق (عليه السلام) ما لم يرد في حق غيرهم، وكلمات الأصحاب أيضاً مطبقة على تقديمهم على من سواهم ولا أقلّ من كون الجميع في درجة واحدة.
وفي ضوء ذلك يمكن أن يُقال: إنّه إذا كان مقصود الكشي بـ(تصحيح ما يصح عنهم) هو المعنى المنسوب إلى المشهور فلا ريب في كونه مزيّة عظيمة ومنزلة كبيرة فكيف أثبتها للمجموعتين الثانية والثالثة من فقهاء أصحابنا ولم يثبتها للمجموعة الأولى بل اكتفى فيهم على مجرد الإجماع على تصديقهم والانقياد لهم في الفقه؟!
وبعبارة أخرى: إن الكشي الذي اعتنى بتسمية فقهاء أصحابنا من الطبقات الثلاث (الرابعة والخامسة والسادسة) لم يورد التعبير بـ(تصحيح ما يصح عنهم) إلا بالنسبة إلى الفقهاء من الطبقتين الأخيرتين، ومن المستبعد جداً أن يكون ذلك لتميز هؤلاء بمزية لم تكن للفقهاء من الطبقة الأولى الذين تضافرت النصوص وتطابقت كلمات الأصحاب على تقدمهم على من سواهم. فالأرجح كون ذلك من جهة أن التعبير المذكور عبارة أخرى عن التعبير بالتصديق المذكور بشأن الأولين ولا يحمل معنى إضافياً على ذلك.
القرينة الثانية: أنّه لو كان المراد بـ(تصحيح ما يصح عنهم) هو المعنى المنسوب إلى المشهور لكان من غير المناسب أن يعطف عليه قوله: (وتصديقهم) كما ورد بالنسبة إلى المجموعتين الثانية والثالثة، لأن ذلك المعنى أعظم بكثير من مجرد التصديق، فيكون عطفه عليه من قبيل عطف الأدنى على الأعلى ولا يخلو من ركاكة كما لا يخفى.
وهذا بخلاف ما إذا كان المراد من تصحيح ما يصح عنهم هو تصديقهم في ما أخبروا عنه فإنّه يكون عندئذٍ من قبيل العطف التفسيري المتداول عند أرباب المحاورة.
لا يُقال: ولكن هذا المعنى ليس ميزة مهمّة تختص بالأشخاص المذكورين، بل هي ثابتة لعشرات الثقات الاجلاء من غيرهم، فإنهم أيضاً يصدقون في ما يخبرون عنه، فأيّ وجه لعدّ الكشي ذلك سمة لأشخاص معينين فقط؟
فإنّه يُقال: إن الذي يمتاز به هؤلاء الأشخاص عن الآخرين هو إجماع الطائفة الإمامية على وثاقتهم وتصديقهم في ما يخبرون عنه مع الإقرار لهم بالفقاهة، فالإجماع على هذين الأمرين بالنسبة إليهم هو المزية العظيمة التي اختصوا بها ولم تثبت لغيرهم ممن هم في طبقاتهم، أي أنه وإن كان هناك الكثير ممن يبني أيضاً على وثاقتهم وتصديقهم في ما يخبرون عنه إلا أنه إنما ثبت ذلك بشهادة البعض فقط دون الجميع، وأيضاً هناك العديد ممن عدّوا من فقهاء الأصحاب في الطبقات الثلاث المذكورة ولكن لم ينقل الاتفاق فيهم على ذلك.
فما امتاز به الفقهاء الثمانية عشر المذكورون هو إجماع الشيعة الإمامية في ذلك العصر على تصديقهم في ما ينقلونه من جهة والإقرار لهم بالفقه والعلم من جهة أخرى.
هذا وقد يتوهم أن المراد بتصحيح ما يصح عن المذكورين هو الحكم بصحة ما عدّوه صحيحاً من الأخبار، فمؤدى العبارة أن هؤلاء من نقاد الأحاديث الذين يرجع إليهم في تمييز الصحيح عن غيره كما قيل بذلك في حقِّ جماعة منهم محمد بن الحسن بن الوليد الذي صرح تلميذه الصدوق (رضوان الله عليه) (9) بأنه لا يعمل بما لم يصححه شيخه المذكور ولم يحكم بصحته من الأخبار.
وبعبارة أخرى: إن من المعلوم أن نقد الأحاديث وتمييز الصحيح منها عن غيره كان مهمة يقوم بها جمع من كبار المحدثين المطلعين على كتب الحديث وأحوال رواته ممن لهم خبرة وممارسة طويلة في ذلك، فكان الآخرون يعتمدون على ما يصححونه دون ما يرفضونه ولا يقبلون به، بل يظهر من الصدوق (قدس سره) (10) أنه كان يكتفي من أستاذه ابن الوليد بنقل الرواية وعدم إنكارها.
وعلى ذلك يمكن أن يقال: إن مقصود الكشي بقوله: (أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عن جماعة) هو الإجماع على الأخذ بتصحيحات هؤلاء، فيختلف معناه عن قوله: (وتصديقهم لما يقولون) كما هو واضح.
ولكن من الظاهر أن المعنى المذكور لا يستفاد من العبارة المتقدمة ــ وإن كان توصيف المذكورين بأنهم من نقاد الأحاديث ليس مخالفاً للواقع بالنسبة إلى جمع منهم ــ لأن هناك فرقاً شاسعاً بين قولهم: (ما صح عن جماعة) وبين قولهم: (ما صححه جماعة)، وما ذكر من المعنى إنما يلائم التعبير الثاني دون الأول الذي هو المذكور في كلام الكشي.
فتحصّل من جميع ما تقدم: أن ما نسب إلى المشهور في تفسير كلامه ــ الذي مقتضاه حجية روايات أصحاب الإجماع بغض النظر عن حال رواتها ــ مما لا يمكن المساعدة عليه، بل الأقرب في تفسيره هو ما تقدم من إرادة الحكم بصحة ما أخبر عنه الحسن بن محبوب ــ مثلاً ــ من قول: (أخبرني الإمام (عليه السلام) ) أو (أخبرني فلان) وكونه مطابقاً للواقع، بمعنى أنه لم يكذب ولم يخطأ في نقله ذلك. ولا أقل من التردد بين الوجهين في تفسير كلام الكشي، فلا يتم الاستدلال به للمدعى المذكور.
______
الهوامش
(1) دراسة في علامات البلوغ في الذكر والأنثى ، السيد محمّد رضا السيستاني (مخطوطة).
(2) اختيار معرفة الرجال ج:2 ص:673،830.
(3) من لا يحضره الفقيه ج:4 ص:259.
(4) علل الشرائع ج:2 ص:38.
(5) منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان ج:1 ص:14.
(6) اختيار معرفة الرجال ج:2 ص:507.
(7) اختيار معرفة الرجال ج:2 ص:673.
(8) اختيار معرفة الرجال ج:2 ص:830.
(9) من لا يحضره الفقيه ج:2 ص:55.
(10) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج:2 ص:21.
المصدر: كتاب قبسات من علم الرجال ، ج1 ، تقريرات أبحاث آية الله السيّد محمّد رضا السيستاني (دام ظه)
ملاحظة : العناوين المحصورة بين المزدوجين [ ] ليست في المصدر ، أضفناها لتسهيل مراجعة البحث .