من أعنف ما يُصابُ به الشخص أن يُصابَ بالطغيان، فبه يفقد توازنه النفسي والفكري والسلوكي، وبه يتحول الشخص إلى وَحشٍ كاسِرٍ، يُبيد ما تصل إليه يده وما تساعده عليه قدراته وإمكاناته، فالطغيان دمار لكل بناء، وفساد لكل صلاح، ولك قارئي الكريم أن تتخيل كيف يفعل الطوفان، وكيف تفعل الأمواج العاتية حين تطغى وتتجاوز الشاطئ إنها تدمر كلَّ شيء تأتي عليه، ولعلك تتذكر (تسونامي) إندونيسيا كيف أحال قُرىً بأكملها خراباً ودمارا بعد عمران وأمان، كذلك يفعل الطغيان في المجتمعات البشرية اليوم، يدمرها بأسرها، يدمر دينها وقيَمَها وأخلاقها ومجتمعاتها وثرواتها، أينما يحِلُّ الطاغي تَحِلُّ الحروب والفتَنُ والصراعات والخراب والدمار، وتُزهَقُ الأرواح، وتُنهَبُ الثروات.
ما هو الطغيان
إن الطُغيان: هو تجاوز الحدِّ، قال تعالى: "إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ"﴿11 الحاقة﴾. أي: لما تجاوز الماء الحدَّ حملناكم في السفينة، ومنه تجاوز الحد في العصيان، قال تعالى: "كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ"﴿6 العلق﴾. أي يتجاوز الحد ويرتكب المعاصي والذنوب، وقال تعالى: "اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ"﴿15 البقرة﴾. أي يتركهم وشأنهم يتجاوزون الحدَّ في نفاقهم وكذبهم وكفرهم، ويدعهم يخبطون على غير هدى في طريق لا يعرفون غايته، والطاغوت: هو الذي يطغى ويتزَعَّمُ ويعبده الناس، ويطيعونه من دون الله، قال تعالى: "وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فَبَشِّرْ عِبَادِ" ﴿17 الزمر﴾.
ما هي أسباب الطغيان
يذكر القرآن الكريم أسباباً عديدة تؤدي إلى الطغيان بمعانيه المتقدمة، إذا كان واحد منها في شخص أهلكته، وإذا كانت كلها فيه أهلكته وأهلكت سواه، وصَيَرته وباء خبيثاً ينتشر في الأرض ويعيث فيها فسادا ودماراً. وأنا أكتفي بذكر سببين اثنين:
السبب الأول: المال والثّراء والقدرات العلمية والمعرفية
قال تعالى: "كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ ﴿6﴾ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ"﴿7 العلق﴾. إن الله يعطي الإنسان ويُغنيه، ويهيئ له حاجاته المختلفة، ولكن الإنسان عموما إلا من رحم الله وعَصَم، لا يشكر حين يُعطى فيستغني، وينسب النعمة إلى نفسه، ويرى أنه هو الذي حصل عليها بجهده وتعبه وذكائه، فيجحد نعمة الله عليه، والله هو المصدر الذي أعطاه خلقه وأعطاه علمه وأنعم عليه ورزقه، فيطغى ويَفْجُر، ويبغي ويتكبر، ويصرَعُه المال والثراء، والتقدم العلمي والتقني والتكنولوجي، ويحوله إلى كائنٍ مُدَمِّرٍ يطغى على كل شيء، يطغى على غيره من البشر، فيسلبهم حقوقهم، ويطغى على الطبيعة فيستهلك ثرواتها بجنون ونَهَم، ويطغى على حدود الله فيعصي الله بها، وقد كان يجب عليه أن يعرف المُنعم فيشكره، ويتصرف فيما أنعم عليه كما شاء هو وأراد، ولستَ بحاجةٍ قارئي الكريم أن أورد لك شواهد على ما تقدم فأنت تعيش وسط عالم يحكمه الأثرياء الأغنياء الذين يملكون المقدرات المالية والعلمية والتقنية ويسيطرون على الثروات الطبيعية، وترى كم يبغون في الأرض ويطغون، ويتجاوزون كل الحدود والمعايير الأخلاقية والدينية وحتى القوانين التي ابتدعوها بأنفسهم، ولا يردعهم قانون ولا ضمير.
السبب الثاني: السُّلطة والنفوذ المالي والإداري والموقع الوظيفي
فكل ذلك يمكن أن يؤدي إلى الطغيان والتجاوز على الناس والتَّعَدي عليهم والإضرار بهم ومنعهم حقوقهم والاستعلاء عليهم، وقد يؤدي بالشخص إلى أسوأ من ذلك، إلى ادعاء الربوبية والألوهية خصوصا إذا ما رأى من الناس الخضوع والرِّضا والتملق والتزلف، وما أقوله لا يحتاج إلى سرد شواهد ووقائع، فيكفيك قارئي الكريم أن تستحضر في ذهنك الكريم صور زعماء الطوائف وبعض الأحزاب اللبنانية والنافذين في الإدارات المختلفة حتى تتيقن مما أقول: فإنك ستجد الطغيان في أجلى صوره، ثم اخرج خارج لبنان وفكر في حال الممالك المحيطة بنا فسترى العجب العجاب، ستجد ثراءً لم يكن منه إلا الطغيان ولا شيء آخر، ثراء لو اسْتُغِلَ في وجهته الحقيقية لأحدث تنمية شاملة في العالَمَين العربي والإسلامي، ولقضى على الفقر والعَوَز، ولكنه بَدَل ذلك استُغِلَ لتدمير أوطاننا وإحداث النزاعات الطائفية والمذهبية بيننا، فأزهق مئات آلاف الأرواح ولم يزل.
توصيات
1- إن كنتَ ثرياً قادراً، أو صاحب سلطة، لا مشكلة في ذلك، إن استفدت من ذلك في الخير والصلاح.
2- راقب نفسك دائماً وزَكِّها، فقد تمارس الطغيان مع أقرب الناس إليك.
3- إن كنت زوجا فلا تطغى على زوجك، ووالداً فلا تطغى على أولادك، وابنا فلا تطغى على والديك.
السيد بلال وهبي
فجر يوم السبت الواقع في: 6/11/2021 الساعة (04:20)