كلام فلسفي حول تأثير بحث الأصالة في أحكام الماهية والوجود
بقلم : الشيخ حيدر السندي.
سألني بعض المشايخ الكرام السؤال التالي: هل اختلاف المباني في أصالة الوجود وأصالة الماهية يؤثر في مسألة العرض اللازم للماهية والعرض اللازم للوجود؟
وفي مقام الجواب أقول : بحث العلامة الطباطبائي (رحمه الله) في الفصل الثاني من المرحلة الأولى المخصص لأصالة الوجود، و بالتحديد في الفرع الأول من الفروع المترتبة على أصالة الوجود ما أراد السائل الكريم معرفة جوابه ، فقال (قدس سره) :
[ ثبوت ذات الماهيّة وذاتياتها بواسطة الوجود ]
"يتفرع على اصالة الوجود واعتبارية الماهية :
أوّلاً: أن كل ما يحمل على حيثية الماهية فإنما هو بالوجود، وأن الوجود حيثية تقييدية في كل حمل ماهوي، لما أن الماهية في نفسها باطلة الذات هالكة لا تملك شيئاً، فثبوت ذاتها وذاتياتها لذاتها بواسطة الوجود فالماهية وإن كانت إذا اعتبرها العقل من حيث هي لم تكن إلا هي ، لا موجودة ولا معدومة ، لكن ارتفاع الوجود عنها بحسب هذا الاعتبار ـ و معناه أن الوجود غير مأخوذ في حدها ـ لا ينافي حمله عليها خارجاً عن حدها عارضاً لها ، فلها ثبوت ما كيفما فرضت . وكذا لوازم ذاتها التي هي لوازم الماهية ، كمفهوم الماهية العارضة لكل ماهية والزوجية العارضة لماهية الأربعة ، تثبت لها بالوجود لا لذاتها . وبذلك ظهر أن لازم الماهية بحسب الحقيقة لازم الوجودين : الخارجي والذهني ، كما ذهب إليه الدواني ".
وقد كتبت في شرح ما فيه مما يرتبط بسؤال السائل في كتاب (دروس فلسفية في شرح نهاية الحكمة ج1 ص 128ـ والذي طبع الجزء الأول منه قبل 20 سنة ـ) ما يلي :
"وقد فرع المصنف (قدس سره) على ذلك عدة أمور ، وهي :
[ كلّ ما يُحمل على الماهية إنما يُحمل عليها بواسطة الوجود ]
الأول: (أن كل ما يحمل على حيثية الماهية) كالإنسان مثلاً (فإنما هو) يحمل عليها بواسطة (الوجود ، وأن الوجود حيثية تقييدية في كل حمل ماهوي (1) ) وذلك (لما ـ تحقق عندنا من أن العينية والواقعية للوجود وأن الماهية في نفسها باطلة هالكة لا تملك شيئاً) إلا بالوجـود .
فكل ما يحمل على الماهية سواء كان تمام الذات كما في: (الإنسان إنسان) ، أو جزء الذات كما في: (الإنسان حيوان)، أو لازم لا ينفك عن الذات كما في: (الأربعة زوج)، أو غير ذلك من المحمولات الماهوية، إنما هو يحمل عليها بالوجود .
وبعبارة ثانية: الحمل عبارة عن الحكم بثبوت شيء لشيء، وثبوت شيء لشيء فرع ثبوت ذلك الشيء، فكل حكم يرد على الماهية لا بد أن يكون فرع ثبوت و تحقق الماهية، ومالم نعتبر الوجود مع الماهية لا يمكن الإشارة إليها، و الحكم عليها بأيّ حكم من الأحكام .
[ دفع إشكال عدم أخذ الوجد حيثية تقييدية عند الحمل على الماهية ]
فإن قلت: (الحيثية التقيدية) بالمعنى المصطلح: ما تكون جزءاً وقيداً مأخوذاً في الموضوع بحيث يكون الحكم ثابتاً أولاً وبالذات للقيد وثانياً وبالعرض لذي القيد ، وفي حمل الذات و الذاتيات على الذات كما في قولنا: ( الإنسان إنسان ) و ( الإنسان ناطق ) لا نأخذ الوجود قيداً في الموضوع؛ لأن الـموضوع في هذا الحمل خصوص الماهية من حيث هي ، و هي من حيث هـي ليست إلا هـي لا موجوده ولا معدومة، وليس الوجود جزءاً منها ولا العدم ، فكيف يكـون الوجود (حيثية تقيدية) في مثل هذا الحمل ؟ !
قلت: (ارتفاع الوجود عنها بحسب هذا الإعتبار ـ ومعناه أن الوجود غير مأخوذ في حدها ـ لا ينافي حمله عليها خارجاً عن حدها عارضاً لها) فإن حمل الذات والذاتيات على الماهية من حيث هي وإن لم يكن متوقفاً على دخالة الـوجود كقيـد فـي الموضوع ـ أي المحمول ثابت للموضوع بالوجود ـ إلا أنه متوقف على اعتبار الوجود مع الموضوع لاستحالة الحكم بثبوت شيء لـشيء غير ثابت في نفسه (فلها ـ أي الماهية ـ ثبوت ما كيفما فرضت).
[ معنى الحيثية التقييدية في كلام السيد الطباطبائي ]
والمراد بـ(الحيثية التقيدية ) في كلام المصنف( قدس سره) هذا المعنى، وليس المعنى الإصطلاحي، و يشهد لذلك من كلماته (رحمه الله) :
أولاً: قوله هنا : (ارتفاع الوجود عنها بحسب هذا الإعتبار ـ ومعناه أن الوجود غير مأخوذ في حدها ـ لا ينافي حمله عليها خارجاً عن حدها عارضاً لها).
وثانياً: قوله في الفصل الأول من المرحلة الرابعة: (تنقسم الضـرورة إلى ضـرورة أزلية ... وإلى ضرورية ذاتية: وهي كون المحمول ضرورياً للموضوع لذاته مع الوجود لا بالوجود ، كقولنا: (كل انسان حيوان بالضرورة) فالحيوانية ذاتية للإنسان ضرورية لـه ما دام موجوداً ومع الوجود ، ولولاه لكان باطل الذات لا انسان ولا حيوان ) .
[ نقد رأي العلامة الطباطبائي في كون الوجود حيثية تقييدية في كل حمل ماهوي ]
وكيف ما كان فقد أُشكل على كلام المصنف (قدس سره )بعدة اشكالات منها :
الأول: ان جعل الوجود (حيثية تقييدية) في كل حمل ماهوي يعني إنتفاء الحمل الأولي الذاتي، وانحصار الحمل في الشائع الصناعي ، مع أن الحمل ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول: حمل شايع صناعي و ملاكه الإتحاد في الوجود ، وهذا القسم أخذ الوجود فيه حيثيةً تقييدية والمراد بالحيثية التقييدية: ما تكون جزءً من أجزاء الموضوع في القضية ، كقولنا (كل إنسان من حيث كونه محلاً للبياض أبيض ).
القسم الثاني: الحمل الأولي الذاتي و ملاكه الإتحاد المفهومي، و هنا لا يعتبر الوجود في الموضوع ، بل المعتبر فيه نفس ذات الشيء المرفوع عنها جميع المحمولات الخارجة عنها حتى الوجود ، و حمل الذات والذاتيات من هذا القبيل ، كقولنا (الإنسان إنسان) و(الإنسان ناطق).
الثاني : ان لا زم كون الوجود حيثية تقييدية في حمل الذاتي على الذات أن تكون نسبة الذاتي إلى الذات بالإمكان لا الوجود ، لأن الذات تكون حينئذ علة ناقصة بالنسبة إلى الحكم الذي هو الذاتي ، فيكون النسبة بينهما بالإمكان وهو باطل محال ، لأن الذاتي عين الذات (2) .
[ جواب الإشكالين المتقدمين ]
وقد اتضح ـ ممّا تقدم ـ الجواب على هذين الإشكالين ، فإن مراد العلامة المصنف ـ قدس سره ـ من (الحيثية التقييدية) هنـا معنى آخر غـير المعنى الإصطلاحي و خلاصته: توقف كل حكمٍ ماهوي على ثبوت الماهية المتوقف على ثبوت الوجود ، فـالحمل ثابت بين الذات و الذاتي على نحو الضرورة ، لكن مع الوجود لا بالوجود . وهذا توجيه حسن ذكره الشيخ الجوادي في تفسير مراد المصنف (قدس سره) وإن كان ظاهر العبارة إعتبار الوجود (حيثية تقيدية) بالمعنى المصطلح، فتدبر".
تنبيهات على أمور مهمة حول بحث أحكام الماهية
أقول: وهنا أذكر أموراً:
[ محل البحث هو خصوص أحكام الماهية الذاتية والعرضية ]
الأمر الأول: إن مهم البحث هنا خصوص الأحكام الذاتية والعرضية للماهية ، لوضوح أن أحكام الوجود الثابتة له حقيقة لا تثبت للماهية إلا بحيثية تقييدية بالمعنى الاصطلاحي ، فالماهية لا تتصف بالتحقق و الوجوب ، و الإمكان الفقري ، والوحدة ، والكثرة إلا بالوجود.
[الفرق بين المعنى الاصطلاحي للحيثية التقييدية ومراد العلمة الطباطبائي ]
الأمر الثاني: الفرق بين الحيثية التقييدية بالمعنى الاصطلاحي ، وما ذكره العلامة بناء على توضيح الشيخ الجوادي هو شمول مراد المصنف للمعنى الاصطلاحي و الحينية ، وهي التي تعني ثبوت الحكم بلا واسطة يكون الحكم لها حقيقة و للماهية مجازاً بالمجاز العقلي ، ولكن في ظرف خاص وهو ظرف التحقق.
[ دفع إشكال ثبوت بعض الأحكام للماهية بلا مدخلية الوجود فيها ]
الأمر الثالث: أشكل بعض المتأخرين على كلام العلامة (رحمه الله) بأن من الحمل على الماهية ما فيه حمل الذات كما في (الإنسان إنسان) والماهية من حيث هي هي ، ومثله حمل (الحيوان ناطق) لأنهما الإنسان باختلاف الاعتبار، كما أن بعض اللوازم ثابتة للماهية بدون أخذ الوجود ولو على نحو القضية الحينية كالامكان الثابت للماهية المعدومة.
غير أنه من خلال مناقشة الإشكالين السابقين اتضح جواب صدره من جواب أولهما . نعم يبقى اشكال ثبوت الإمكان للماهية المعدومة ، غير أن الماهية المعدومة لا تتصف بالإمكان حقيقة على مبنى العلامة (رحمه الله)؛ لأن بناء على أصالة الوجود لا تحقق للإمكان الماهوي بحسب الدقة ، والإمكان الحقيقي هو الوجودي الفقري ، و الماهية المعدومة يعطيها الذهن بعد توسعة التحقق شيئاً من الوجود ، ويلبسها ثوب التحقق ، ثم في هذا الحين يحكم عليها بالإمكان الماهوي.
[ التفصيل في كيفية ثبوت الأحكام للماهية وعلاقة ذلك ببحث الأصالة ]
الأمر الرابع: حيث إن أحكام الماهية هي الذات، وأجزاء الذات، أو العرض اللازم للوجود لخارجي أو الذهني أو لهما ، أو المفارق ؛ فإن كل هذه الأحكام بناء على كلام المصنف (رحمه الله) ثابتة مع الوجود بناء على أصالته.
غير أن ثبوت بعضها حقيقة للماهية بعد أخذ الوجود كما في الذات و أجزاء الذات ولوازم الوجودين ، وبعضها ثابت حقيقة للوجود وتتحقق فيه الحيثية التقييدية الاصطلاحية كما في ثبوت الحرارة للنار أو البرودة للماء.
وفي ثبوت القسم الأول حقيقة في الخارج يأتي الخلاف في معنى الأصالة، فإن قيل معناها أن التحقق للوجود ، والماهيات ما شمت رائحة التحقق ، فلا يوجد ذات وأجزاء الذات و اتصاف بلوازم الذات في الوجودين خارجاً ، و إنما الموجود هو الوجود وحده الخاص ومنه ننتزع مفهوم الإنسان ـ مثلاً ـ ومفهوم الإمكان.
وأما إذا قيل بأن الماهية موجودة خارجاً و متحققة حقيقة بالوجود ، فما في الخارج هو وجود وهو ماهية غاية ما هنالك هو أن الوجود تحققها ، وهي تنوجد به ، كما أن الوجود الإنساني هو إنساني حقيقة ولكن بالماهية ، فما في الخارج واحد ، ولكن بتحليله يتوصل الذهن إلى حيثيتين تشكل كل واحدة منهما علة في ثبوت أحكام للآخر(3)، فإن ما يتصف حقيقة بالإنسان و الحيوان و الإمكان شيء خارجي ، وليس مفهوماً انتزاعياً متحقق بمنشأ الإنتزاع بضرب من التجوز ، كما إذا قيل الماهيات حدود الوجود ، وهي أمور عدمية، والله العالم بحقيقة الحال.
_____
الهوامش:
(1) تنقسم المحمولات الماهوية إلى عدة أقسام: لأن المحمول على الماهية إما ذاتي أو عرضي ، والأول إما تمام الذات كـ(الإنسان إنسان) وإما جزء الذات كـ(الإنسان حيوان) والثاني إما مفارق وإما غير مفارق ، والثاني إما لازم للماهية في الذهن والخارج كـ(زوجية الأربعة) وإما لازم للماهية في الخارجي بالخصوص كـ(حرارة النار) وإما لازم للماهية في الذهن بالخصوص كـ(الكلية والجزئية والنوعية) والأول كـ (الكتابة بالفعل بالنسبة للإنسان) في قولك الإنسان كاتب بالفعل. وكلام المصنف ـ قده ـ هنا ناظر إلى جميع الأقسام ، ولذلك اشكل عليه بعض المحققين بأن ما تفضل به ـ قدس سره ـ غير تام بالنسبة إلى حمل الذاتي والعرض غير المفارق في الوجودين .
(2) وعاية الحكمة في شرح نهاية الحكمة : ص 9.
(3) وهذا ما ذكره بعض الفلاسفة المتأخرين ، وكنا نحتمل أن الشيخ الأحسائي (رحمه الله) أراده.
بحث مختصر حول نظرية الشيخ الأحسائي(رحمه الله) بأصالة الوجود والماهية معاً
فقد ذهب إلى أصالة الوجود والماهية معاً ، وقلت في شرح النهاية ج1 ص 123: " استدل على ذلك بأدلة متعددة ، منها :
الدليل الأول : إن الوجود مصدر الحسنة والخير ، و الماهية مصدر السيئة و الشر ، و من الصوادر أمـور أصيلة ، فمصدرها أولى بالأصالة .
قال الشيخ الاحسائي في شرح الفوائد في شرح قوله (( وأما الفؤاد فهو أعلى مشاعر الإنسان وهو نور الله الذي ذكره عليه السلام في قوله: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله . وهو الوجود وهو الجهة العليا من الإنسان )) : يعني وجهة من ربه ، كما ذكرنا قبل من أن كل شيء له اعتباران ، اعتبار من ربه وهو الوجود وهو الفؤاد ، وله وزير يعينه على ما يقتضيه من الطاعات وهو العقل ، واعتبار من نفسه وهو الماهية ، ولها وزير يعينها على ما تقتضيه من المعاصي وهو النفس الأمارة بالسوء. شرح الفوائد: ص 10.
وقال في شرح المشاعر : وكيف يكون الشيء الخارجي الحادث كل حقيقته وجوداً ، والوجود خير لا تصدر المعاصي عنه ، وإنما تصدر عن الماهية .شرح العرشية : ص 100.
وفيه : ماسيأتي ـ في الفصل الثامن عشر من المرحلة الأخيرة ـ من عدمية الشر، فهو لا يحتاج إلى علة أصيلة و متحققة .قال المحقق السبزواري ـ قده ـ في دفع هذا الدليل : ان الشرور اعدام الملكات ، وعلة العدم عدم ، فكيف لا يكفيه الماهية الإعتبارية شرح المنظومة للحكيم السبزواري : ص 65.
وقال المحقق الشيخ حسن زاده الآملي ( حفظه الله )ـ في تعليقته الشريفة على شرح المنظومة: الحكماء وإن كانوا يسندون الشر إلى الماهية ولكن الشر يقال على وجوه ، ومرادهم من شرية الماهية الفقد والنقص عن مرتبة الخير المطلق الذي لا نقص فيه لبرائته ـ سبحانه ـ عن الماهية ، فما سواه مطلقاً ـ وإن كان كثير منها من المفارقات النورية ـ لا يخلو كل واحد منها من شوب شرية أي فقد ونقصان بقدر نقصان درجته عن درجة الخير المطلق الواجب بالذات ـ تعالى شأنه ـ لا أن الماهية مصدر سر وموجدة حتى يكون في الأعيان شرور بالذات مصدرها الماهيات فإن الشرور اعدام والعدم لا يحتاج إلى وجود علة مستقلة موجدة شرح المنظومة للحكيم السبزواري ، تعليقة الشيخ حسن زاده الآملي : ص 65.
الدليل الثاني : مادل من الكتاب و السنة و العقل على تعلق الجعل بالماهية ، قال الشيخ الأحسائي في شرح الزيارة الجامعة : وأما نسبة العبد إلى الله سبحانه فلا توقف لأحد من المسلمين في أنه عبد رق وعبد طاعة لا يملك شيئاً من أمره ، وهذا لا فائدة في ذكره إلا لتوطية الذكر بالنسبة إلى غيره ، ومن أحتمل غير هذا فهو كافر كفر الجاهلية الأولى ، كما ادعي في حق عيسى عليه السلام فإنزل الله قرءاناً رداً عليهم . قال تعالى { لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً } . نعم قد تقع أوهام مبنية على أصول باطلة يتوهم المدعي لها صحتها ويلزم منها ذلك ، وهي على انحاءٍ شتى منها من يدعي بأن الماهيات غير مجعولة ، وإنما هي صور علمية . . . شرح الزيارة الجامعة الكبيرة : ج1 ص 70.
وفيه : ما سيأتي في الفصل الأول من المرحلة الثامنة ، فقد بحث المصنف (قده) هناك مسألة (( تحديد متعلق الجعل )) أو (( أصالة الوجود أو الماهية في الجعل )) وأقام برهاناً تاماً على تعلق الجعل بالوجود ، ولنا رسالة خاصة في مسألة الجعل ستطبع ان شاء الله .
الدليل الثالث : لو لم تكن الماهية أصيلة ومتحققة في عالم الذهن ، لم يكن الحد التام جامعاً لذاتيات حقيقة الموجود ، وقد أجمع العقلاء من العلماء والحكماء على أن قولك : الإنسان حيوان ناطق حد حقيقي تام جامع لجميع ذاتيات الإنسان ، فلوكان الوجود حقيقة الإنسان وهو غير الحيوان الناطق لماكان التعريف بالفصل والجنس حداً تاماً لحقيقة الموجود . راجـع شرح العرشية للشيح الأحسائي : ص 15.
وفيه : أن الماهيات بناءً على أصالة الوجود تشكل حدود الموجودات الخارجية ، وفي عالم الخارج لا يوجدفرق بين الحد والمحدود لمكان الإتحاد ، ومعنى جامعية الحد التام لجميع ذاتيات حقيقة الموجود أن الفصل والجنس يقومان بعملية حكاية الانبساط الخاص الذي يشكله الموجود في متن الواقع و نفس الأمر .
أقول : أشكل الحكيم السبزواري (رحمه الله)على نظرية الشيخ الأحسائي ـ ره ـ بعدة إشكالات ذكر منها في قوله :ولم يقل أحد من الحكماء بأصالتهما معاً ، إذ لو كانا اصيلين لزم ان يكون كل شيء شيئين متباينين ، ولزم التركب الحقيقي في الصادر الأول ، ولزم أن لا يكون الوجود نفس تحقق الماهية وكونها ، وغير ذلك من التوالي الفاسدة .شرح المنظومة للناظم : ص 65 ـ 66 .
من هنا قد يقال لتوجيه كلام الشيخ الأحسائي: أن مراده من أصالة الوجود و الماهية معاً وجود حقيقة واحدة هي مصداق حقيقي لمفهوم الوجود و الماهية ، بمعنى أن الذهن ينتزع أولاً وبالذات مفهوم الوجود والماهية معاً ، وليست الماهية منتزعة ثانياً وبالعرض ، وذلك جمع بين قوله بتأصل الماهية وتعلق الجعل بها و بين تصريحه بتحقق الماهية بالوجود .
وهذه بعض عباراته التي قد يظهر منها ذلك :
1ـ قال الشيخ الأحسائي في شرح الفوائد : إن الماهية موجودة بوجود الوجود ما دام موجوداً لأنها هويته من نفسه والشيء لا يكون شيئاً إلا بهويته فهي دعامته التي لا يتقوم إلا بها ، وهي كذلك ، بمعنى أنها إذا كانت هوية الوجود لا تحقق بدونه لأنه إذا لم يكن فلا هويه فهو شرط كونها وتحققها ، وهي شرط ظهوره وقابليته ، وأما قولهم أنها ما شمت رائحة الوجود ، فهـي عبارة متلقاة من كلام المتقدمين ، وهم يريدون بها أنها موجودة ثانياً وبالعرض .شرح الفوائد : ص 440 .
2 ـ وقال حول وجود الماهية في الواقع و نفس الأمر: الماهية موجودة بنفسها كما في الوجود ، لكن لما كان الوجود في الحقيقة هو المادة ، كان مادتها نفسها فيكون وجودها ما دتها ، وهي نفسها وهي ما هيته ، فإن قلت : انها موجودة بالوجود فهو صحيح ، بمعنى أن مادتها موجودة به وهي ماهيته . وإن قلت : أنهـا موجودة بنفسـها كما في الوجود فهو صحيح،بمعنى أن ماهيتها بنفسها شرح الفوائد : ص 443.
فيكون مراده وجود واقعية واحدة ، و بجعلها جعل الماهية والجهة المختصة بالموجود ، وهي علة لترتب أحكام عليه ، لا أنها ليست متحققة ، وما في الخارج ليس إنساناً أو شجرة حقيقة كما هو المنسوب إلى القائلين باعتبارية الماهية.
______
ملاحظة: العناوين المحصورة بين المزدوجين [ ] ليست في الأصل وإنما وضعتها إدارة الموقع تسهيلاً لمراجعة البحث