القائمة الرئيسية

الصفحات

مناظرة الإمام الجواد مع يحيى بن أكثم النص والدلالة

 

مناظرة الإمام الجواد مع يحيى بن أكثم في مجلس المأمون

لؤلؤة من أصداف محيط الإمام الجواد (عليه السلام)

بقلم: الشيخ حيدر السندي

إن الإنسان بكل ما يملك من إمكانيات عقلية ونفسية وبدنية صغير جدّاً، وهو عاجز عن إدراك حكمة خالق الكون العظيم، الذي أوجده على كوكب الأرض في مرحلة من مراحل مسيرة الكون، ولهذا بعد قيام الدليل على وجود الخالق العظيم وحكمته ينبغي عليه أن يسلّم بكلّ وجوده لتشريعاته و أحكامه، فهي أكبر من أن تحيط بها عقولنا؛ إذ هي  خاضعة  لملاكات معقدة مشتبكة، و  تؤثّر فيها عوامل كثيرة مادية وروحية،  تدقّ عن إدراك العقول، كما إنها لا تهدف معيشة الإنسان في هذه النشأة فقط، وإنما هي في غايتها القصوى تستهدف تكييف الحياة الأخرى، وهي غيب محض بحسب مدرَكات البشر المتاحة من غير طريق الوحي.

و الإمام الجواد (عليه السلام) قد كشف شيئاً من ملابسات التشريع الإلهي، وما فيه من التعقيد، فقد  قال الريّان بن شبيب:

[ نص مناظرة الإمام الجواد عليه السلام مع يحيى بن أكثم ]

«لما أراد المأمون أن يزوّج ابنته أم الفضل أبا جعفر محمّد بن علي (عليه السّلام) بلغ ذلك العباسيين فغلُظ عليهم ذلك واستنكروا منه وخافوا أن ينتهي الأمر معه الى ما انتهى مع الرضا (عليه السّلام) ، فخاضوا في ذلك واجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه، فقالوا: ننشدك اللَّه يا أمير المؤمنين أن تقيم على هذا الأمر الذي قد عزمت عليه من تزويج ابن الرضا، فإنّا نخاف أن يخرج به عنّا أمرٌ قد ملّكناه اللَّه وينتزع منّا عزّاً قد ألبسناه اللَّه، ...

فقال لهم المأمون: أما ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه، ولو أنصفتم القول لكانوا أولى بكم، وأمّا ما كان يفعله من قبلي بهم فقد كان به قاطعاً للرحم، واعوذ باللَّه من ذلك، واللَّه ما ندمت على ما كان مني من استخلاف الرضا، ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه من نفسي فأبى وكان أمر اللَّه قدراً مقدوراً. وأما أبو جعفر محمّد بن علي، فقد أخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم والفضل مع صغر سنّه والأعجوبة فيه بذلك، وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه فيعلموا أنّ الرأي ما رأيت.

فقالوا: إن هذا الفتى وإن راقك منه هديه فانّه صبيّ لا معرفة له ولا فقه فأمهله ليتأدّب ثم اصنع ما تراه بعد ذلك.

فقال لهم: ويحكم إنّي أعرَف بهذا الفتى منكم، وإن هذا من أهل بيت علمهم من اللَّه تعالى ومواده وإلهامه... فان شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبيّن لكم به ما وصفت لكم من حاله.

قالوا: لقد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولأنفسنا بامتحانه ...فخرجوا من عنده واجتمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم- وهو يومئذٍ قاضي الزمان- على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها، وواعدوه بأموال نفيسة على ذلك، وعادوا الى المأمون فسألوه أن يختار لهم يوماً للاجتماع فأجابهم الى ذلك، واجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه وحضر معهم يحيى بن أكثم ...وخرج أبو جعفر (عليه السّلام) وهو يومئذٍ ابن تسع سنين واشهر، فجلس بين المسوّرتين وجلس يحيى بن أكثم بين يديه...فقال يحيى بن أكثم للمأمون: تأذن لي يا أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر عن مسألة؟

فقال المأمون: استأذنه في ذلك، فأقبل عليه يحيى بن أكثم فقال: أتأذن لي جعلت فداك في مسألة؟

فقال أبو جعفر (عليه السلام): سل إن شئت.

فقال يحيى: ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيداً.

فقال أبو جعفر (عليه السّلام): قتله في حلّ أو حرم؟ عالماً كان المحرم أو جاهلًا؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حرّاً كان المحرم أو عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أو معيد؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصيد أم من كباره؟ مصرّاً على ما فعل أو نادماً؟ في الليل كان قتله للصيد أم بالنهار، محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرم؟

فتحير يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع، وتلجلج حتى عرف جماعة أهل المجلس عجزه.

فقال المأمون: الحمد للَّه على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي، ثم نظر الى أهل بيته فقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه، ثم أقبل على أبي جعفر ...)(1).

[ دلالات مناظرة الإمام الجواد مع يحيى بن أكثم ]

إن في هذا الخبر أكثر من دلالة :

الأولى : هي إن الإمام الجواد (عليه السلام) مصداق أهل البيت الذي لا ينفكّ عن القرآن، فهو عِدل الكتاب في زمانه، ومن أمَرَ النبي (صلى الله عليه وآله) باتباعه للعصمة من الضلال.

ومع صغر سنّه إلا أنه شهد العامّة بفضله وتميّزه قال أبو عثمان عمرو بن بحرٍ الجاحظ (ت250هـ) في تعداد عشرة من الأئمّة: (ومنِ الذي يُعَدُّ مِنْ قريش ما يَعُدُّه الطالبيّون عَشَرة في نسق؛ كلّ واحدٍ منهم: عالمٌ، زاهدٌ، ناسكٌ، شجاعٌ، جوادٌ، طاهرٌ، زاكٍ، فمنهم خلفاء، ومنهم مُرشّحون: ابن ابن ابن ابن، هكذا إلى عشرة، وهم الحسن [العسكري] بن علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي (عليهم السلام)، وهذا لم يتفق لبيتٍ من بيوت العرب، ولا مِن بُيوت العجم)(2).

وقال سبط ابن الجوزي (ت654هـ): في تذكرة الخواص: (وكان على منهاج أبيه في: العلم، والتقى، والزهد، والجود)(3).

وقال شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت748هـ) في تاريخ الإسلام: (محمّد بن الرضا علي بن الكاظم موسى بن الصادق جعفر بن الباقر محمّد بن زين العابدين علي بن الشهيد الحسين بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. أبو جعفر الهاشمي الحسيني، كان يلقّب: بالجواد، وبالقانع، وبالمرتضى، كان من سروات آل بيت النبي (ص) ...، تُوفِّي ببغداد في آخر سنة عشرين ، شابّاً طريّاً له خمس وعشرون سنة، وكان أحد الموصوفين بالسخاء؛ ولذلك لُقّب بالجواد، وقبره عند قبر جدّه موسى، وقيل تُوفِّي في آخر سنة تسع عشرة، رحمه الله ورضي عنه، وهو أحد الأئمّة الاثني عشر الذين تدّعي الشيعة فيهم العصمة، وكان مولده في سنة خمس وتسعين ومئة)(4).

وقال ابن تيميّة (ت728هـ): في (منهاج سنّة): (محمّد بن علي الجواد كان من أعيان بني هاشم، وهو معروف بالسخاء والسؤدد، ولهذا سمّي الجواد)(5).

الثانية : إنّه مصطفى ومؤيَّد من قبل الله تعالى؛ إذ لا يمكن أن يكون مَن في هذا السنّ أبرز الهاشميين -ولهذا قدّمه المأمون- ويكون  عِدل الكتاب؛ مالم يكن جانب غيبيٌ في شخصيته، وهو التأييد والتسديد.

[ شبهة إمامة الإمام الجواد المبكّرة ]

وإنَّ من الشبهات القديمة التي لا يُدار لها بال، ويُضحَك بسبب ذكرها؛ شبهة استبعاد أن  يكون الإمام الجواد (عليه السلام) إماماً مجعولاً من قبل الله تعالى وهو صبي.

وكأن صاحبها لم يقرأ قوله تعالى: {يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } سورة مريم: آية 12.

وقوله  تعالى: {أَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا، وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} سورة مريم: آية 29 ـ 33؟!

أو هو يجهل حقيقة الإمامة عند الشيعة وأنها بجعل من الله تعالى ؟! أو يعلمها و لكن يجهل عموم قدرة الله تعالى؟!

الثالثة: هي إن أحكام الله تعالى ليست أمراً سهلاً يمكن أن يخوض فيه الإنسان بعقله،  فيحيط بجميع ملاكاتها، و يحدد كل قيودها و شروطها وملابساتها،  فيُحسن الاستنتاج و هذا ما بيّنه الإمام الجواد (عليه السلام) بقوله: (قتله في حلّ أو حرَم؟ عالماً كان المحرم أو جاهلًا؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حرّاً كان المحرم أو عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أو معيد؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصيد أم من كباره؟ مصرّاً على ما فعل أو نادماً؟ في الليل كان قتله للصيد أم بالنهار، محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرم؟) ، ولا جواب إلا عند الجواد (عليه السلام).

____

الهوامش

(1) قادتنا كيف نعرفهم - آية الله العظمى السيد محمد هادي الحسيني الميلاني: ٤/٣١٠.

(2) رسائل الجاحظ: 106، جمعها ونشرها حسن السندوبي ، المكتبة التجاريّة الكبرى ، مصر .

(3) تذكرة الخواص: 321، مؤسّسة أهل البيت، بيروت .

(4) تاريخ الإسلام: حوادث وفيّات 211 ـ 220، ص385، ترجمة رقم 372، دار الكتاب العربي .

(5) منهاج السنّة:4/68، بتحقيق الدكتور محمّد رشاد سالم، الطبعة الأولى، 1986م .