بقلم: الشيخ عبد الغني الفرحات
يتسلى العلماء بالشعر، ويحفظونه ويحثون على تذوقه -إلّا النادر منهم- وكان المرجع السيّد عبد الهادي الشيرازيّ يرى أن تذوّق الشعر والاهتمام به ينفع في فقه الحديث.
في هذه المساجلة يصطف كبار الفقهاء والمراجع في مطلع القرن الثالث عشر يفيضون في بحور الشعر والشعور.
[ بدأ السجال بقصيدة للشيخ جعفر كاشف الغطاء ]
نُقل أن الشيخ جعفر كاشف الغطاء (ت ١٢٢٨هـ) كان في بغداد فأرسل إلى السيد محمد بن السيد أحمد بن زين الدين الحسني الحسيني البغدادي النجفي المعروف (بزيني)، والمتوفى سنة ١٢١٦هـ هديةً وكتب فيها هذه الأبيات معتذراً عن هذه الهدية، ومعرِّضاً بالشيخ محمد بن الشيخ يوسف:
لساني أعيا في اعتذاري وما جرى ** وإن نالَ حظّاً في الفصاحةِ أوفرا
ولو أنّني أهديتُ مالي بأسره ** ومالَ الورى طرَّاً لكنتُ مُقصِّرا
ولكنّني شفَّعتُ فيَّ مودتي ** ومحضي للإخلاص سِرّاً ومُجهرا
فدعْ عنك شيخاً يدَّعي صفوَ ودهِ ** فما كلُّ من يرعى الاخلاء (جعفرا)
يريك بأيامِ الخميس مودةً ** وفي سائرِ الأيام ينسخُ ما أرى
فلا تَصْحَبنْ غيري فإنك قائل ** بَحقي كل الصيد في جانب الفرا
ولو رِمتَ من بعدي وحاشاك صاحباً ** فإياك أنْ تعدو الرضا خيرة الورى
فتىً شارع للصحب أوضحَ منهج ** وجار مع المصحوب من حيث ماجرى.
[ توثيق معركة الخميس الأدبية ]
عرفت هذه المساجلة بعد ذلك بمعركة الخميس لأنه قال فيها: يٌريك بأيام الخميس مودة * وفي سائر الأيام ينسخ ما أرى.
والرضا المقصود به هنا السيد محمد مهدي بحر العلوم (ولد ١١٥٥ وتوفي ١٢١٢ ).
ويوم الخميس هو يوم اجتماع السيد محمد زيني بالعلماء.
وذكر الدكتور يوسف عز الدين في كتابه (الشعر العراقي: أهدافه وخصائصه في القرن التاسع عشر) ص١٦١: أن (وقعة الخميس) جاءت في كثير من المخطوطات العراقية التي سجلت حوادث العراق في هذا العصر. وانتقلت إلى مخطوطات سوريا العاملية خاصة.
[ جواب الشيخ محمد ابن الشيخ يوسف ]
فلما وقفَ الشيخُ محمد بن الشيخ يوسف على الأبيات، كتبَ في الجوابِ مستنجداً بالسيد محمد مهدي بحر العلوم وطالباً منه المحاكمة مع الشيخ جعفر:
ألا من لخل لا يزالُ مشّمرا ** لجلبِ ودادِ الخلقِ سرَّاً ومُجهرا
أحاطَ بودِ الإنس والجنِ وانثنى ** بأبهى ثنا الأملاك وداً وأبهرا
ونالَ من الرحمنِ أسنى مودة ** فيالك ود ما أجل وأكبرا
يجاذبني ودَّ الشريف بن أحمد ** سلالةَ زينِ الدين نادرة الورى
وهيهات أن يحظى بصفو ودادهِ ** وإنْ كانَ (بحراً في العلوم وجعفرا)
أمستجْلِباً ودَّ الرجال لسانُهُ ** أظنُّك الهمت الطماعة أصغرا
تروم محالا في طلابك رتبةً ** بها خصَّني الباري وأكرم من برا
فمهلا أبا موسى سيحكمُ لي الرضا ** وتكسب بالإلحاح أنك لن ترى
ألا فاجتهدْ ما شئت في نقضِ خلَّتي ** فمحكمُ إبرامي يُريكَ المقصرا
فيا أيها المولى الخليط الذي بغى ** سينصفني المهدي منكَ فتُحْصَرا
فقمْ سيدي للحكم إنّك أهله ** فديتك أنصفني فقد أحوج المرا
[ حكم السيد محمد مهدي بحر العلوم بينهما ]
فقال السيد مهدي بحر العلوم :
أتاك كوحي اللهِ أزهرَ أنورا ** قضاءُ فتىً باريه للحكم قد بَرا
فتىً ليس يخشى من ملامةِ لائم ** إذا ما رعى عُرفاً وأنكر منكرا
يؤازرُ مجنياً عليه إذا شكى ** وينصره في الله نصراً مؤزرا
محمدُ يا ذا المجد لا تبتئس ولا ** يروعنَّ منك القلبَ شيخٌ تذمَّرا
فما هي إلا مِنْ نوادره التي ** عُرفنَ به مذ كان أصغر أكبرا
وإنَّك أولى الناس كهلا ويافعاً ** بحبك نجل الطاهرين المطهرا
سميِّ وفيٌّ صادقُ الودِ والهوى ** خصيصٌ به مذ قُسِّم الودُّ في الورى
كفتك (شهاداتُ الخميس) على الولا ** تردُّ خميساً عنك ماكرّ أدبرا
وليس ببدع ذاك فالخلطاءُ كـ ** ـم جرى بينهم من بغيهم مثل ما جرى
وفي مثل هذا الحكم داؤد قد قضى ** على صاحبيه إذ عليه تسوَّرا
وما كان هذا بالذي يمتري به ** وللنصِ حكم لا يدافع بالمِرَا
فخذْ يا سميّ الطهر جعفر صادقاً ** من القول حقاً غير منفصم العرى
وإنّك أنت النفس منّي وإن ما ** تعاظمها ما كان عندي ليصغرا
ولستُ أخالُ الحق ثقلا على فتىً ** لنصرته مذ كان كان مشمِّرا
فإن كان ماجئنا كبيراً فإننا ** رأينا جهاد النفس في الله أكبرا
[ تعقيب السيد صادق الفحام الأعرجي ]
ثم إنَّ السيد صادق الفحام الأعرجي (١١٢٤ ـ ١٢٠٥هـ)، وهو من أشهر النحويين والأدباء النجفيين المتأخرين، حضرَ الفقهَ على السيد بحر العلوم، وحضر السيد بحر العلوم عليه النحو وبعض الأدبيات. قال في ذلك، لمّا بلغه ما هنالك:
جرى ما جرى بين الخليطين وانتهى ** وإن كانَ معروفاً لما كان منكرا
فاحفَظَ مولاً لم يزلْ ذا حفيظة ** لمخلِصه عن ساعد المجد شمَّرا
فأغرى حكيماً بانتصار فألّبا ** عليه من التأنيب واللوم عسكرا
كلامٌ له ظهرٌ وبطنٌ ولم يكنْ ** سوى لحظ ود بطن ما كان أظهرا
مداعبةُ الإخوان تُدعى عبارة ** لعمرُكَ ما هذا الحديث بمفترى
فلا يستفز الشيخ برق غمامة ** بدا خلَّباً في عارض ليس ممطرا
ولا يصرف المهدي عن عادل القضا ** شقاشقُ ما كانت بجد لتهدرا
قضى فتعاطى مذهب الشعر في القضا ** فكان قضاءً عادلا قاطع المِرَا
ولو يتعاطى مذهب الشرع لم يكن ** ليقضي أنَّ الصبحَ لم يكُ مسفرا
[ مجاراة الشيخ محمد النجفي الحلي ]
ثم إنّ السيد أمرَ الشيخ محمد رضا بن الشيخ أحمد النجفي الحلي، - وكان من فحول العلماء وشيوخ الأدب ومشاهير الشعراء، نشأ في الحلة، وتتلمذ على يد أفذاذ عصره أمثال السيد مهدي بحر العلوم والشيخ جعفر كاشف الغطاء والسيد صادق الفحام، توفي في النجف سنة ١٢٢٦ - بأن يجري معهم في هذا الميدان، فقال:
لعمري قد ثارتْ إلى افق السما ** عجاجةُ حرب حولتْ نحوها الثرى
وجالتً بميدان الخصام فوارسٌ ** تماروا على أمر وليس بهم مِرا
وذلك أنّ الشيخ شيخ زمانهِ ** عنيتُ به بحر المعارفِ جعفرا
هو البحر من أي النواحي أتيته ** تجد منهلا في كلِ ناحية جرى
فرُدْهُ ولا تعدلْ به ريَّ غيره ** تردْ مورداً لا تبتغي عنه مَصْدرا
تعمَّد من بغداد إنفاذ رقعة ** تضمَّن معنىً يُخجل الروض مزهرا
بنظمٍ حكى الدرَّ النظيم مفصلا ** بنشرٍ حكى الروضَ الوسيم منوَّرا
وأعرب عن دعوى ودادِ محمد ** سلالة زين الدين نادرة الورى
ولا غرو في دعوى ودادٍ هو المنى ** فيا لك ود ما أجل وأكبرا
ولكنّه قد قاربَ الجورَ وادّعى ** اختصاص هوىً كل له قد تشطرا
فكان عظيماً ما ادّعى سيما على ** ذوي ودهِ من كل ذمر تذمَّرا
ولا سيما الشيخ الذي خلصتُ له ** مودته مذ كان أصغر أكبرا
فتىً أشرقتْ من وجههِ غرةُ الهدى ** ومن نورِهِ صُبحُ الحقائقِ أسفرا
فقال إلى كم ذا تحاول رتبةً ** بها خصني الباري وأكرم مذْ برا
كبرتَ ولم تقنعْ بما يُكتفى به ** أظنُّك أُلهِمْتَ الطماعة أصغرا ؟
تجاذبني الود القديم وليس مَنْ ** تقدَّم في ودٍ كمنْ قد تأخّرا
فقال نعم لكن قضتْ لي مودَّتي ** ومحضي للإخلاص سرّاً ومُجهرا
وانّي أرعى منه للود خلّةً ** وما كل من يرعى الأخلاء جعفرا
وإنّي أمتُّ اليوم في صدقِ قوله ** بحقي كل الصيد في جانب الفرا
ولست كمن يرميه بالهجر حقبةً ** وما كان ذو ود بحال ليهجرا
يريه (بأيام الخميس) مودةً ** وفي سائر الأيام ينسخ ما أرى
فطالَ نزاعٌ منهما فتشاجرا ** معاً وأقلاّ من نزاع وأكثرا
ومذ سئِما طول الشقاقِ ترافعا ** إلى حَكَمٍ باريه للحكمِ قد برا
هو الحجةُ المهدي من نور حكمه ** أتاك كوحي الله أزهر انورا
فتىً ينصفُ المظلومَ في شدِّ أزره ** وينصره في الله نصراً مؤزرا
فتىً عن أبيه المرتضى ورث القضا ** فكان لما يخفى من الحق مُظهرا
وآتاه ربُ العرشِ مذ شبَّ حكمةً ** وعلّمه فصل الخطابِ وبصّرا
فأضحى بنور الله ينظرُ ما هفا ** بحكم ولا في معضل قد تحيَّرا
فياليت شعري ما أقول وكلما ** أطلتُ أراني في علاه مقصِّرا
هنالك قصّا ما عليه تنازعا ** عليه وبثا عنده كلَّ ما جرى
وكلٌّ غدا يُدلي بحجته وما ** ألى في احتجاج منه جهداً وقصرا
وأجلب كلٌ خيله ورجاله ** على خصمه والكل للكل شمَّرا
فلما رأى المهديُّ مرأى ذوي الهدى ** وأبصر من ذي الحال ما كان ابصرا
درى أنَّ في الأمر اختصامٌ وكم وكم ** لسر خفي مثل ذا قبل ذا درى
وأيقنَ أنَّ الشيخَ زيد علاؤه ** أراد اختيار الشيخَ فيما له انبرا
ليظهر ما أخفاه من صفوِ ودِهِ ** وما كان ذاك الود يخفى فيُظْهَرا
وأيقنَ أنْ ليستْ لذاك حقيقةٌ ** ولكن كلامٌ واللسانُ به جرى
فلا الشيخ مقضيٌّ عليه حقيقة ** ولا الشيخ مقضيٌ له لو تفكرا
كفا شاهداً في الصدق في قول صادق ** فتىً قد سما في مجده شامخ الذرى
مداعبةُ الإخوان تُدعى عبارة ** لعمرك ما هذا الحديث بمفترى
وحرّرتها طوعاً لأمر أخي العلا ** لخدمته مذْ كنتُ كنتُ محرّرا
وذي حلبةٌ جلّت جميعُ جيادها ** ولكنني كنت السكيتَ المقصِّرا