لماذا كثر ذكر بني إسرائيل في القرآن الكريم ؟
بقلم الشيخ عبد الغني العرفات
يمكن أن نتصور الإجابة على هذا التساؤل بالتالي: تحدث القرآن الكريم من حيث الزمان عن موضوعات تاريخية، وعن موضوعات معاصرة له، وعن موضوعات مستقبلية.
ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : " في القرآن نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم " ، فبينّ (عليه السلام) الموضوعات التاريخية والمعاصرة والمستقبلية بهذه الكلمة القصيرة، وورد عنه أيضًا : " ألا أن فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم" .
ونستطيع أن نقسّم القضايا المتعلقة ببني إسرائيل واليهود إلى ثلاث قضايا:
الأولى: القضايا التاريخية
الثانية: القضايا المعاصرة لنزول القرآن الكريم
الثالثة: القضايا المستقبلية
تحدث القرآن عن الأمم الماضية
لقد تحدّث القرآن الكريم عن الماضين من الأمم، وكذلك عن أنبيائها، وذلك إما من باب الإعجاز في معرفة تفاصيل تلك الأمم، أومن باب العظة والعبرة وتحذير الناس من ارتكاب ما ارتكبوه، أوالتسلية للرسول (صلى الله عليه وآله) [بمعنى تحفيزه على الصبر]، وعلى سبيل المثال تحدث القرآن عن قصة البقرة ولا يوجد في التوراة حديث عن قصة البقرة بهذا التفصيل، فكان هذا إعجازًا قرآنيًا في معرفة تفاصيل حياة الأمم السابقة ودليل على أنّ القرآن وحيٌ يوحى، وكذلك نجد أن الآيات الشريفة بعد ذكرها لقصة من قصص بني إسرائيل تلتفت بخطابها للنبي وبلسان إياك أعني واسمعي يا جاره }يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً { النساء: 153.
وكذلك تلتفت الآية الكريمة بخطابها بعد سردٍ طويل لقصة بني إسرائيل فتحذر الناس كما في قوله تعالى:} أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ {البقرة: 108.
وكما في قوله تعالى : }أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ{ البقرة: 75.
وبنو إسرائيل واليهود جزء من الماضي الذي تحدّث حوله القرآن، فالقرآن تحدث عن آدم وقصته، وعن نوح وطوفانه، وعن هود وصالح وقومهما وغير ذلك.
فإذن الحديث عن اليهود كان جزءًا من مشروع القرآن الكريم في الحديث عن الأمم السابقة، بغرض العبرة والاتعاض.
تحدث القرآن عن قضايا عاصرته
تحدث القرآن مثلاً عن معركة بدر، وتحدث عن معركة حنين، وتحدث عن قضية زيد، وتحدث عن قضية الإفك وغيرها.
وبما أن بني إسرائيل واليهود كانوا معاصرين للقرآن ومحاربين للإسلام وكانوا متواجدين في المدينة عاصمة الإسلام وما حولها كيهود بني قريظة، وبني النضير، وبني قينقاع، فمن الطبيعي أن يذكرهم القرآن.
فإذن جزء من الحديث عن اليهود وبني إسرائيل كان لهذا السبب .
تحدث القرآن عن قضايا مستقبلية
كتحدثه عن قضايا المعاد والقيامة.
وفي ما يتعلق ببني إسرائيل تحدّث عن إفسادهم مرتين كما في سورة الإسراء }إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً{ الإسراء:7.
وتحدث القرآن عن إلقاء العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة كقضية مستقبلية }وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ { المائدة: 64.
بنو إسرائيل غير اليهود
الذي يظهر من الآيات الشريفة أن بني إسرائيل غير اليهود، إذن الحديث كان عن جماعتين، وليس عن جماعة واحدة، فلا بد من التفريق بين الجماعتين، فاليهودية (ملّة) كما يعبر القرآن الكريم، ولو كان معنى اليهودي يساوي معنى الإسرائيلي لما نفى القرآن الكريم اليهودية عن الأسباط كما توضح الآية التالية: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} البقرة: 140.
فالقرآن نفى اليهودية عن الأسباط وهم من بني إسرائيل، فإذن اليهودية غير الإسرائيلية، ولو كانت اليهودية هي الإسرائيلية لكان نفي اليهودية عن الأسباط يعني نفي الإسرائيلية عنهم.
[وبلحاظ ذلك] سيتغير السؤال الذي طرحناه في أول البحث إلى سؤالين :
- هل كثر ذكر اليهود في القرآن؟
- وهل كثر ذكر بني إسرائيل في القرآن؟
والجواب: ورد ذكر (اليهود) في القرآن الكريم 7 مرات، والنسبة إليها (يهودي) مرة واحدة، وبالجمع (هود) 3 مرات، فالمجموع 11مرة.
وأما إسرائيل فقد وردت 39 مرة، والمرادف لها آل (يعقوب) أو بني (يعقوب) 4 مرات والمجموع 43 مرة.
وواضح هنا حسب مفردة إسرائيل وما يرادفها أن قصة بني إسرائيل وردت في القرآن أكثر من ذكر اليهود.
ومجموع هذه المفردات كلها 54 مرة، وإذا قسنا هذه المرات بمفردة كمفردة الكفر أو النفاق أو الشرك سنجد التفاوت الكبير بينها وبين مفردة إسرائيل وما يرادفها أو اليهود واشتقاقاتها، إذ أن بعض المفردات تفوق مفردة إسرائيل بكثير، وبعض المفردات وإن لم تكن تفوق مفردة إسرائيل إلا أنها وردة كثيرة أيضًا.
فمفردة الشرك مثلاً وردت في القرآن الكريم 141 مرة، وأما مفردة كفر فوردت 311 مرة , ومفردة منافق 25 مرة ونفاق 4 مرات والمجموع 29.
وورد لفظ الشيطان 62 مرة .
ومثال آخر ما ذكره القرآن الكريم عن اتهام الكفار الأنبياء بالسحر ( مادة سحر) 25 مرة و(مادة ساحر) 10 مرات و(مسحّر) مرتان (ومسحور) 4 مرات والمجموع 41 مرة ، وكذلك مفردة الجنون ذكرت 11 مرة.
وورد لفظ آدم في القرآن 27 مرة وذكرت قصة آدم 18 مرة .
خذ مثالاً آخر وهو نفي أن يكون لله بنات من الملائكة ورد في القرآن الكريم 5 مرات باسم بنات وباسم (إناثا) مرة واحدة وبعنوان جعل النسب بينه تعالى وبين الجن مرة واحدة والمجموع 7 مرات.
فإذن هناك جملة من المواضيع التي تطرق إليها القرآن الكريم، وعالجها حسب أهميتها وحسب الحاجة إلى ذلك، فالله تعالى بحكمته يقدر ما تحتاجه البشرية من معالجة فيكثر أو يقل ذلك في القرآن حسب الحاجة والضرورة.
لو افترضنا أن القرآن الكريم كان يجب أن يأتي بخمس مائة آية تتكلم عن انحراف جماعة ما، ولكن إذا افترضنا أن هناك جماعتين فالمفروض أن تكون الآيات التي تعالج انحراف المجموعتين ألف آية لا خمس مائة آية.
إذن مجموع الآيات التي تحدثت عن بني إسرائيل واليهود وهي ( 910 آيات بحسب إحصاء قمت به وهو تقريبي وهو ما يشكل ١٤.٥٪ من آيات القرآن الكريم ) تتحدث عن جماعتين، فقد يكون الإسرائيلي يهوديًا وقد يكون اليهودي غير إسرائيلي.
[ توجيه الشيخ جوادي آملي لكثرة ذكر بني إسرائيل في القرآن الكريم ]
والشيخ جوادي آملي يطرح هذه الفكرة بتوجيه آخر فهو يقول: إن لفظ بني إسرائيل يشمل اليهود والنصارى، وهذا أيضًا مبرر لزيادة الآيات حول بني إسرائيل.
ولكن على أي شيء استند في رأيه هذا؟
يلخص الشيخ أدلته بالتالي:
1- إن لفظة بني إسرائيل صالحة للشمول لليهود والنصارى.
2- إن انسجام الآيات الكثيرة في سورة البقرة يمتد ليشمل النصارى لأنه في الآية 62 قد تم الحديث عن النصارى والصابئين إلى جانب المؤمنين واليهود وأن طرح أسماء هؤلاء لم يكن من دون تمهيد سابق ( يقصد أن التمهيد كان موجودًا بقوله تعالى يابني إسرائيل).
3- في الآية 87 من سورة البقرة ذكرت قصة عيسى (ع) ثم من بعدها في الآية 111 إلى 113 ذكر التقابل الاحتكاري للجنة بين اليهود والنصارى حيث ادعى كل منهما الجنة ثم بينت الآية 120 العداوة المشتركة التي يبديها اليهود والنصارى للإسلام.
4- تكررت الآية 47 في الآية 122 {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ }البقرة122 والحديث في الآية 122 حتمًا شامل للنصارى لأن اليهود والنصارى ذكروا جنبًا إلى جنب في الآية 120.
5- إن عنوان بني إسرائيل في موارد من القرآن الكريم جاء شاملاً لكلا القومين معًا كما في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }النمل76.
6- إن عيسى كان يخاطبهم ببني إسرائيل وقد آمن قسم منهم لعيسى (ع) فهم مسيحيون إسرائيليون {فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ }الصف14 .
بنو إسرائيل في زمن نزول القرآن الكريم
نعود فنقول: كان بنو إسرائيل من نسل يعقوب موجودين زمن نزول القرآن الكريم، ولو لم يكونوا موجودين لما خاطبهم القرآن بهذا الاسم، ولما قال لهم: { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} البقرة:40 . و{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} البقرة: 122.
( أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّـهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ) البقرة : 75.
تذكر كتب التاريخ والموسوعات الحديثية مثلاً عن نسب صفية زوجة الرسول (صلى الله عليه وآله) أنها من نسل سبط هارون بن عمران من بني إسرائيل، وأمها برة بنت السموأل من بني قريظة، وكانت زوجة كنانة بن الربيع من يهود بني النضير فقتل عنها .
وفي الكافي: عن أبي الطفيل قال: شهدت جنازة أبي بكر يوم مات وشهدت عمر حين بويع وعلي (عليه السلام) جالسٌ ناحيةً فأقبل غلام يهوديٌ جميل [الوجه] بهيٌ، عليه ثياب حسان، وهو من ولد هارون حتّى قام على رأس عمر فقال: يا أمير المؤمنين أنت أعلم هذه الأمّة بكتابهم وأمر نبيهم؟
قال: فطأطأ عمر رأسه، فقال: إياك أعني وأعاد عليه القول.
فقال: له عمر: لم ذاك؟
قال: إنّي جئتك مرتادا لنفسي، شاكّا في ديني.
فقال: دونك هذا الشاب.
قال: ومن هذا الشاب؟
قال: هذا علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهذا أبو الحسن والحسين ابني رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهذا زوج فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأقبل اليهودي على علي عليه السلام فقال: أكذاك أنت؟.
قال: نعم.
قال: إني أريد أن أسألك عن ثلاث وثلاث وواحدة، قال: فتبسم أمير المؤمنين (عليه السلام) من غير تبسم وقال: يا هاروني ما منعك أن تقول سبعا؟
قال: أسألك عن ثلاث فإن أجبتني سألت عما بعدهن وإن لم تعلمهن علمت أنه ليس فيكم عالم.
قال علي (عليه السلام): فإني أسألك بالإله الذي تعبده لئن أنا أجبتك في كل ما تريد لتدعن دينك ولتدخلن في ديني؟ قال: ما جئت إلا لذاك، قال: فسل.
قال: أخبرني عن أوّل قطرة دم قطرت على وجه الأرض أي قطرة هي؟ وأول عين فاضت على وجه الأرض، أي عين هي؟ وأول شيء اهتز على وجه الارض أي شيء هو؟
فأجابه أمير المؤمنين (عليه السلام فقال له): أخبرني عن الثلاث الأخر، أخبرني عن محمّد كم له من إمام عدل؟ وفي أي جنة يكون؟ ومن ساكنه معه في جنته؟
فقال: يا هاروني إنّ لمحمّد اثني عشر إمام عدل، لا يضرهم خذلان من خذلهم ولا يستوحشون بخلاف من خالفهم وإنهم في الدين أرسب من الجبال الرواسي في الارض، ومسكن محمد في جنته معه اولئك الاثني عشر الامام العدل.
فقال: صدقت والله الذي لا إله إلا هو إني لأجدها في كتب أبي هارون، كتبه بيده وإملاء موسى عمي (عليهما السلام).
قال: فأخبرني عن الواحدة، أخبرني عن وصي محمد كم يعيش من بعده؟ وهل يموت أو يقتل؟
قال: يا هاروني يعيش بعده ثلاثين سنة، لا يزيد يوما ولا ينقص يوما، ثم يضرب ضربة ههنا - يعني على قرنه - فتخضب هذه من هذا قال: فصاح الهاروني وقطع كستيجه وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأنك وصيه، ينبغي أن تفوق ولا تفاق وأن تعظم ولا تستضعف، قال: ثم مضى به علي عليه السلام إلى منزله فعلمه معالم الدين .
[ الإسلام والقومية والعرق ]
محطة تربوية
ليس بين الإسلام والقوميات والأعراق أية عداوة، ولا يفضل الإسلام أحدًا على أحد لعرقية وقومية، وقد ثبت أن ثمة يهود وإسرائيليون دخلوا في الإسلام، وسيدخلون في الإيمان زمن ظهور القائم المهدي (ع)، ولكن الذي لا نقبله هو اعتبار اليهود أنفسهم أبناء الله واحتقار الأمم والشعوب {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }المائدة18 .
هذه الصفة المذمومة عند اليهود نجدها مع الأسف متغلغلة في بعض الأوساط المؤمنة، فلا تعترف الأسرة الفلانية ببقية الأسر فتعتبرها أسرًا غير مناسبة لتتزاوج معها وكأن سنة الجاهلية قد عادت إلينا.
القرآن ليس كتابًا تاريخيًا
هل يلزم من قولنا : إن القرآن تحدّث عن قضايا عاصرته أو تحدّث عن قضايا ماضية أن يكون القرآن كتابًا تاريخيًا ؟
والجواب: لولم يتحدّث القرآن عن قضايا عاصرته لكان خلاف ما أدعي للقرآن أنه كتاب هداية، فكيف يكون كتاب هداية وهو لم يتناول الشأن العام لأهل زمانه؟ ولكن ميزة القرآن أن آياته قابلة للانطباق على غير الأفراد الذين نزلت فيهم الآيات، فالمورد لا يخصص الوارد كما يقول الأصوليون.
وحديث القرآن عن القضايا الماضية قبل زمن نزوله ليس من باب التسلية بمعنى ملء الفراغ بل من باب العظة أو تحدي الآخرين في معرفة تفاصيل الماضي الذي هو جزء من الغيب.
آراء المفسرين حول كثرة ذكر بني إسرائيل في القرآن الكريم
أولاً: السيد محمد حسين الطباطبائي
يبدو من السيد الطباطبائي أنّه يرى أن اليهود وبني إسرائيل جماعة واحدة فقد قال في تفسير الآيات 40 – 44 من سورة البقرة " أخذ سبحانه في معاتبة اليهود وذلك في طي نيف ومائة آية ...يذكرهم بالإشارة إلى اثنتي عشرة قصة من قصصهم". رغم أن الآيات تقول: يا بني إسرائيل ...الخ.
ثم ذكر في موضع آخر " وفي الرواية أن اليهود سموا باليهود لأنهم من ولد يهودا بن يعقوب" . وذكر في موضع ثالث: " أكثر الأمم الماضية قصة في القرآن أمة بني إسرائيل... وبنو إسرائيل أكثر الأمم لجاجًا وخصامًا، وأبعدهم من الانقياد للحق، كما أنه كان كفار العرب الذين ابتلى بهم رسول الله (ص) على هذه الصفة ...ولا ترى رذيلة من رذائل بني إسرائيل في قسوتهم وجفوتهم مما ذكره القرآن إلا وهو موجود فيهم " .
فالسيد الطباطبائي كأنه يرى أن الذكر المتكرر لبني إسرائيل هو للتعريض بفئتين حملة نفس الصفات ( بني إسرائيل + كفار العرب) .
ثم قال" إذا تأملت قصص بني إسرائيل المذكورة في القرآن، وأمعنت فيها، وما فيها من أسرار أخلاقهم، وجدت أنهم كانوا قومًا غائرين في المادة مكبين على ما يعطيه الحس من لذائذ الحياة الصورية، فقد كانت هذه الأمة لا تؤمن بما وراء الحس، ولا تنقاد إلا إلى اللذة والكمال المادي، وهم اليوم كذلك" .
ثانياً: السيد عبد الأعلى السبزواري
قال (قدس سره) في تفسير الآية 40 من سورة البقرة وهي أول آية تتحدث عن بني إسرائيل : "بدأ سبحانه بذكرهم لأنهم أقدم الطوائف التي أرسل فيهم الأنبياء والرسل، وأنزل فيهم الكتب، وهم أول طائفة من الأمم هبطوا من ذروة المقام الإنساني إلى درك حضيض البهيمية وهم السابقون في نقض العهد ومن سنة الله المداراة مع العصاة بكل ما أمكن ...فقد تكرر ذكرهم كثيرًا..."
ثالثاً: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
يقول: لما كانت قصّة بني إسرائيل ابتداءً من تحررهم من السيطرة الفرعونية واستخلافهم في الأرض، ومروراً بنسيان العهد الإِلهي، وانتهاءً بسقوطهم في حضيض الإِنحراف والعذاب والمشقة، تشبه إلى حد كبير قصة آدم، بل هي فرع من ذلك الأصل العام، فإن الله سبحانه في آية بحثنا وعشرات الآيات الاُخرى التالية، بيّن مقاطع من حياة بني إسرائيل ومصيرهم، لإِكمال الدرس التربوي الذي بدأ بقصة آدم.
ويحتل الحديث عن اليهود قسماً هاماً من سورة البقرة، التي هي أوّل سورة نزلت في المدينة كما صرح بذلك بعض العلماء، لأنّ اليهود كانوا أشهر مجموعة من أهل الكتاب في المدينة، وكانوا قبل ظهور النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أي ينتظرون رسول بشّرت به كتبهم الدينيّة، كما أنهم كانوا يتمتعون بمكانة إقتصادية مرموقة، ولذلك كله كان لليهود نفوذ عميق في المدينة.
ولمّا ظهر الإِسلام، باعتباره الرسالة التي تقف بوجه مصالحهم اللامشروعة وإنحرافاتهم وَغَطْرَسَتِهِمْ، فمضافاً إلى عدم إيمانهم به وقفوا بوجه الدعوة، وبدأوا يحوكون ضدها المؤامرات التي لا زالت مستمرة بعد أربعة عشر قرناً من البعثة النبوية المباركة .
رابعاً: الشيخ عبد الله جوادي آملي
يقول: السر في أهميّة قصة اليهود :
أولا: كثرة اليهود في المدينة.
وثانيًا: القدرة الاقتصادية والسياسية التي كانوا يتمتعون بها.
وثالثًا: دسائسهم ومعاداتهم وارتباطهم المريب بمشركي مكة.
ورابعًا: قدرتهم على التأثير في الأقليات المجاورة الأخرى كالنصارى، فلو أنّ اليهود كانوا خاضعين للإسلام، لكان نصارى الجوار قد بكروا هم الآخرون في الخضوع والإذعان .
و"لما كان اليهود أبرز فئة مخالفة للإسلام والنظام الإسلامي فقد نزل فيهم ما فاق الثلث من آيات سورة البقرة" .
وهناك التفاتة مهمة ذكرها الشيخ جوادي الآملي وهي أن الخطاب بقوله تعالى يا بني إسرائيل خطاب لليهود والنصارى وهو لقب تشريفي داعيًا إياهم إلى الأصول الثلاثة: التوحيد والنبوة والمعاد .
[ خلاصة آراء المفسرين حول سبب كثرة ذكر بني إسرائيل في لقرآن ]
بعد أن استعرضنا آراء المفسرين، في سبب كثرة ذكر بني إسرائيل، نحاول أن نقارن بينها، فهل هي متعارضة، أو يمكن الجمع بينها.
فخلاصة كلام السيد الطباطبائي أنهم أكثر الأمم لجاجًا وتمسكًا بالحياة المادية، وكفار العرب مثلهم.
وخلاصة كلام السيد السبزواري أنهم أقدم الطوائف التي أرسلت فيهم الرسل، وهم أول طائفة هبطت من مقام الإنسانية.
ولكن قد يؤخذ على هذا الرأي أن قوم نوح وعاد وثمود سبقوا بني إسرائيل في إرسال الأنبياء إليهم .
فهود يخاطب قومه {أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }الأعراف69.
وصالح يخاطب قومه {وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ }الأعراف74
وأما الشيخ ناصر مكارم فيرى أنهم أشهر طائفة موجودة في المدينة ولها تأثيرها الكبير، وقد حاكوا المؤامرات فنزلت الآيات تحذرهم، وكذلك يرى الشيخ جوادي آملي.
لا تعارض بين هذه الآراء، فيمكن قبولها جميعًا، وهي ليست بعيدة في نفسها، ولا مانع من الأخذ بها، وحيث لم يذكر دليل على بعضها فليس الإنسان ملزم بالإعتقاد بصحتها، وهي عبارة عن تقريبات.