رؤية رسول الله صلى الله عليه وآله في المنام بين الوهم والحقيقة:
لاشك أنّ الرؤيا الصادقة فيها تبشير أو تحذير للمؤمن ، وليس في هذا أي إشكال.
إنّما المشكلة أنّك تلاحظ كثرة المدّعين لرؤية النبي صلى الله عليه وآله ويجعلونها بمنزلة اليقين ويرتبون الآثار عليها بل ويجعلونها حجّة في العقيدة والأحكام ومن كرامتهم على الله سبحانه وهذا هو أخطرها .
ولو قُلتَ لهم وما يدريك أنّ الذي رأيته فعلاً هو رسول الله صلى الله عليه وآله ؟
يجيبك بما ورد من روايات أمثال ما ورد من أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : " من رآني فقد رآني حقاً " وبلفظٍ آخر : " من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثّل في صورتي " ، وفي لفظ ثالث : " من رآني في المنام فقد رأى الحق ، فإن الشيطان لا يتمثل بي " وبلفظ رابع " من رآني فقد رآني، فإن الشيطان لا يتكون في صورتي " .
فيقول المدّعي: أن ما ذكرتموه ممكن ولكن ليس مطلقا ، فلو شاهدت في منامك النبي صلى الله عليه واله فلابد ان تكون صادقة لأنه قال من رآني فقد رآني .
مناقشة رواية (من رآني فقد رآني فإنّ الشيطان لا يتمثل في صورتي)
والجواب : لا يمكن التمسّك بهذه الأحاديث في إثبات الرؤية لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المنام لكلّ من ادّعاها ، إذ لا يستفاد منها أكثر من نفي تمثّل الشيطان بنفس صورة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، ولا دلالة فيها على أنّ كلّ مرئي في المنام هو صورة واقعية للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، فقد رتب النبيّ جزاء الشرط في قوله: (فقد رآني) ــ أي رآني حقيقة ــ على قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (من رآني في المنام)، وضمير المتكلّم وهو (الياء) في رآني يعود على شخص النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلا بدّ من ثبوت الرؤية لشخص النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المنام ليتحقّق الشرط ، فيترتب عليه الجزاء ، ولا يتحقّق الشرط بتوهّم أن المرئي في المنام هو النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، ولم يكن هو في الواقع ، فاحتمال أو ظنّ الرائي لا يثبت به واقع الرؤية لشخص رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، إذ لم يقل النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): من اعتقد أنّه في المنام رآني فقد رآني ، وإنّما قال: (من رآني في المنام)، فالشرط هو رؤية صورة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حقيقة لا اعتقاد رؤيته من الرائي ، وبالتالي لا اعتبار بدعوى الرائي الرؤية ، لأنّها مترتبة على اعتقاده ، والاعتقاد منشأه أعمّ من المطابقة للواقع وحصول الرؤية الحقيقية أو ظنّ وتوهّم رؤية النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، إذ يمكن أن يتمثّل له أحد الشياطين بصورة ما في منامه فيدّعي أنّه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، أو يعتقد الرائي أنّه النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، ويمكن أن تتصوّر له صورة من عالم الخيال في منامه فيظنّ أنه رسول الله صلى الله عليه وآله ، ومثل هذا لا يحقق الشرط في الحديث ، وقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في نهاية الحديث: (فإنّ الشيطان لا يتمثل بي) لا يُثبِت إلّا عدم قدرة الشيطان على التصوّر بصورة وشمائل شخص النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولا ينفي عدم ادّعاء الشيطان كذباً أنّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المنام ، أو تخييله للنائم أنّ من رآه هو رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) .
وبعبارة أخرى : الأحاديث جعلت المستحيل على الشيطان هو أن يتمثل بنفس صورة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ، ولكن هل يمكن للشيطان أن يتمثل بصورة شخص آخر ويجعلك تراه في المنام ثم يلقي في روعك أن الذي تراه الآن هو رسول الله صلى الله عليه وآله وبالحقيقة لا هو رسول الله ولا هي صورته لأنّك لا تعرف صورة النبي صلى الله عليه وآله؟ ، هذا لم تنفهِ الأحاديث ، وقد لا تكون الرؤيا من تدخّل الشيطان بل من تخيّل صورة من الخيال يظنها الرائي أنه رسول الله صلى الله عليه وآله .
وعليه فليس كلّ من رأى في المنام شخصا يعتقده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم تكون رؤيته صادقة ، والمؤيّد لذلك اختلاف الرائين اختلافاً بيّناً في رؤاهم حتى يصل إلى حدّ التناقض، كيف وكلّ راءٍ يدّعي رؤية مطابقة لاعتقاده مع أنّ عقائدهم مختلفة متناقضة! .
فقد يخترع الشيطان صورة ويوحي للرائي أنها صورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا ممكن كما بينا ، فإذا جاز من بشر أن يدّعي في اليقظة أنّه إله كفرعون ومن جرى مجراه مع قلة حيلة البشر وزوال اللّبس في اليقظة فما المانع من أن يدّعي إبليس عند النائم بوسوسة له أنّه نبيّ مع تمكّن إبليس ممّا لا يتمكّن منه البشر وكثرة اللبس المعترض في المنام .
وإننا نجد كل شخص يرى النبي صلى الله عليه وآله وهو يقول له انت على صواب، ويراه خصمه في مذهب آخر يرى النبي صلى الله عليه وآله يقول له انت على صواب! فأيّهما على صواب وهل يناقض النبي صلى الله عليه وآله نفسه ؟!
ولذلك قال الشاطبيّ ناقلاً قول ابن رشد : وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي حَقًّا»، أَنَّ كُلَّ مَنْ رَأَى فِي مَنَامِهِ أَنَّهُ رَآهُ فَقَدْ رَآهُ حَقِيقَةً، بِدَلِيلٍ أَنَّ الرَّائِيَ قَدْ يَرَاهُ مَرَّاتٍ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَيَرَاهُ الرَّائِي عَلَى صِفَةٍ، وَغَيْرِهِ عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَخْتَلِفَ صُوَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا صِفَاتُهُ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْحَدِيثِ: مَنْ رَآنِي عَلَى صُورَتَيِ الَّتِي خُلِقْتُ عَلَيْهَا. فَقَدْ رَآنِي، إِذْ لَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي، إِذْ لَمْ يَقُلْ: مَنْ رَأَى أَنَّهُ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي؛ وَإِنَّمَا قَالَ: «مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي»، وَأَنَّى لِهَذَا الرَّائِي الَّذِي رَأَى أَنَّهُ رَآهُ عَلَى صُورَةٍ أَنَّهُ رَآهُ عَلَيْهَا؟، وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ رَآهُ، مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ صُورَتُهُ بِعَيْنِهَا؟!، وَهَذَا مَا لَا طَرِيقَ لِأَحَدٍ إِلَى مَعْرِفَتِهِ. الاعتصام للشاطبي ج 1 ص 335 .
وقال ابن حجر العسقلاني: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله قَالَ بن سِيرِينَ إِذَا رَآهُ فِي صُورَتِهِ سَقَطَ هَذَا التَّعْلِيقُ لِلنَّسَفِيِّ وَلِأَبِي ذَرٍّ وَثَبَتَ عِنْدَ غَيْرِهِمَا وَقَدْ رُوِّينَاهُ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ كَانَ مُحَمَّد يَعْنِي بن سِيرِينَ إِذَا قَصَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ صِفْ لِيَ الَّذِي رَأَيْتَهُ فَإِنْ وَصَفَ لَهُ صِفَةً لَا يَعْرِفُهَا قَالَ لَمْ تَرَهُ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ وَوَجَدْتُ لَهُ مَا يُؤَيِّدُهُ فَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ قَالَ صِفْهُ لِي قَالَ ذَكَرْتُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَشَبَّهْتُهُ بِهِ قَالَ قَدْ رَأَيْتهُ وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ . فتح الباري ج 12 ص 383 - 384 .