الشيخ عبد الغني العرفات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.
إن طريقة الأخذ بظاهر الكلام هي الطريقة العقلائية العرفية في كل اللغات، فالمتحاورون في كل لغة يأخذون بظاهر الكلام .
وقد جرى القرآن الكريم على هذه السنة العقلائية ؛ ولذا كان مفهومًا وواضحًا عند العرب الذين نزل فيهم، فكان حجّة عليهم ، ولو لم يفهموه لما كان يصح الاحتجاج عليهم به.
لا نقول إنّهم فهموا كل القرآن الكريم ولكن على الأقل فهموا شيئا من آياته في التوحيد والمعاد والنبوة ليصح أن يكون هذا المقدار مما فهموه حجة عليهم.
وأما تفاصيل الأحكام الشرعية فلو لم يفهموها ولم يتبينوها - وقد آمنوا بالله والنبي والمعاد - فسيردونه للنبي صلى الله عليه وآله وسيقوم بتوضيحه وبيانه لهم .
وكذلك عمق القرآن الكريم وباطنه يحتاج إلى من يوضحه ويبينه للمسلم الذي آمن به ، وليس كل الناس متساوية في مستوى فهمها فيحتاج بعضهم إلى تبيين ما هو واضح عند غيره.
كما أن الواضح والبين من الكلام يحتاج إلى التفات، فإذا قلنا إن القرآن الكريم بينٌ فلا يعني أنه مع عدم التوجه والالتفات إليه سيبقى بينًا ، لا سيما مع اعوجاج السليقة اللغوية وابتعاد الناس عن لغة القرآن الكريم التي نزل بها.
ما هو الظهور والظاهر؟
إذا كان اللفظ له دلالة واحدة فقط ولا يحتمل غيرها فيقال لهذا اللفظ ( نص) في معناه، أما إذا كان اللفظ يحتمل عدة معانٍ ولكن ظهر وبرز في أحد هذه المعاني فهذا هو ( الظاهر) وإذا كان غير بارز وظاهر في أحد المعاني المتعددة فهو ( المجمل) وإذا كان بارزًا وظاهرًا في أحد المعاني المتعددة ولكنه صُرف عن المعنى الظاهر والبارز فيه فهو ( المؤوَّل) حيث يتم تأويل هذا اللفظ.
ولذا نجد كثيرًا من المفسرين لو لم يجد الرواية المفسرة للقرآن ولا سبب نزولها يلجأ للظهور القرآني بل الظهور لا يتعارض مع الرواية المفسرة ولا سبب النزول بل يأتي الظهور منسجمًا معهما.
نعم الجري والتطبيق أحيانًا يأتي في الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام ليضيق المفهوم وهو ( التطبيق) أو ليوسعه وهو (الجري) وهذا ليس تفسيرًا بمعنى توضيح معنى الآية بل هو تأويل بحسب وصف بعض الروايات، وهو مقابل التنزيل، فالتنزيل هو من نزلت فيهم الآية والتأويل هو المصاديق الأخرى التي لم تنزل فيهم الآية ولكن يصح أن نعمل فيهم الجري والتطبيق.
فالخلاصة إن الأخذ بظهور الآية هو عمل المفسر الذي يستحضر كل أدواته النحوية واللغوية والقرائن الأخرى فقد يقترب من معنى الآية وقد يبتعد بحسب دقة الاستفادة من تلك الأدوات.
فلا عجب إذا رأينا مفسرًا قد أخذ من أخيه المفسر الآخر ما فهمه من الآيات، ولا تعجب إذا رأيت مفسرًا شيعيًا يأخذ من غيره لما ذكرنا من أنّ الأخذ بالظهور قضية عقلائية.
الزمخشري ومفسري الشيعة
أبدى كثير من مفسري الشيعة إعجابهم واحتفاءهم بآراء الزمخشري التفسيرية منذ كتب كشافه وإلى اليوم .
فتراهم يأخذون بفهمه لظهور الآيات، وتعجبهم عباراته التي نحتها للتعبير عن جمال المعنى المراد، أو رسم بها صورة المقصود بريشة المعاني مغموسة في بحر حبر البيان بألوان البديع البديعة.
ففي القرن الخامس كتب الطبرسي صاحب مجمع البيان تلخيصًا لكشاف الزمخشري بمجرد أن صدر وانتشر - فبين وفاة الطبرسي ( 548) والزمخشري ( 538) عشر سنوات مما يعني انتشار الكشاف بصورة سريعة ووصوله إلى الطبرسي مع بعد الشقة بينهما حيث كان ( جار الله ) الزمخشري مجاورًا في مكة - ثم كتب الطبرسي كتابه الثالث (جوامع الجامع ) ليجمع بين فوائد كتاب مجمع البيان وما جاء في الكشاف ويقارن بين آراء المعتزلة والمدرسة الإمامية.
يقول الطبرسي " أما بعد ، فإني لمّا فرغت من كتابي الكبير في التفسير الموسوم بمجمع البيان لعلوم القرآن ثم عثرتُ من بعد بالكتاب الكشّاف لحقائق التنزيل لجار الله العلامة، واستخلصت من بدائع معانيه وروائع ألفاظه ومبانيه ما لا يلفى مثله في كتاب مجتمع الأطراف ورأيت أن أسمه وأسميه بالكاف الشاف، فخرج الكتابان إلى الوجود، وقد ملكا أزمة القلوب"
ثم قال بعد أن اقترح عليه ولده أن يجرد منهما كتابا ثالثا " يكون مجمع بينهما ومحجر عينهما، بأخذ بأطرافهما .. وممّا حداني إليه وحثني عليه ، أن خطر ببالي وهجس بضميري، بل ألقي في روعي محبة الاستمداد من كلام جار الله العلامة ولطائفه، فإن لألفاظه لذة الجدة ورونق الحداثة" (1).
وجرى الحال كذلك في القرن العاشر والحادي عشر مع الشيخ محمد بهاء الدين العاملي في كتابه التفسيري العروة والكشكول فقد كان لا يخفي إعجابه بآراء الزمخشري.
يقول في مقدمة تفسير الفاتحة المعروف بالعروة الوثقى " وإن من أعظم نعم الله سبحانه علي وأتم مننه التي لم ترح متواصلة لدي إنه لم أزل منذ بلغت العشرين إلى أن أكملت الخمسين متطلبا لاستكشاف سره المكتوم مترقبا لارتشاف رحيقه المختوم فأنفقت كنز الشباب أسبابه وأدواته سيما العلميين الجليلين اللذين لهما به مزيد اعتلاق واختصاص وليس للمتعطشين إلى دلالة عن التبحر فيهما من بد ولا مناص أعني بهما علم المعاني وعلم البيان اللذين هما الذريعة لمن رام الاطلاع على جواهر أسرار القرآن ولقد امتد فيهما كدي ونصبي حتى امتزج بهما لحمي وعصبي وبلغت منهما بتوفيق الله أقصى مناي ولم أكن قانعا بما يقنع به سواي ولما قضيت من مقدمات علم التفسير وطري ووجهت إلى الكتب المؤلفة فيه بريد نظري طفقت أواصل بين عشياتي وأسحاري في كل سطر منها شطرا من ليلي أو نهاري انظم كل درة من دررها في سلك روحي وأعد الضفر بفوائد غورها من أعظم فتوحي معلقا على بعضها حواشي شريفة تذري نفحاتها بنسمات الأزهار وتحكي صفحاتها جنات من تحتها الأنهار كما علقته في عنفوان الشباب على تفسير (الفاضل البيضاوي ) من حواش بارعة تسلك بالطالبين طريقا قويما وتهدي الراغبين صراطا مستقيما وتلبد مماهجه المحشون من العجاج من معارك أنظارهم وتسكن ما أثاروه من عشير اللجاج في مدارك أفكارهم وكما رقمته على بعض مباحث (الكشاف )ومجمع البيان من فوائد حسان أبهى من أيام الشباب وأشهى من وصال الأحباب وكان قد اجتمع إلى علي تمادى الأيام وتحصل لدي على وإلى الشهور والأعوام فوائد جليلة لم يجتمع إلى الآن في كتاب ولم يطلع عليها إلا واحد من أولي الألباب وزوائد جزيلة استنبطها بالعطر الكليل القاصر والفكر العليل الخاسر لم يحم حولها أبناء الزمان ولم يطمثهن إنس قبلي ولا جان فأحببت أن أجمع نفايس تلك العرايس في تأليف هذا الفن الشريف يخبر بالسر المخزون في زوايا كنوزه ويظهر درر المكنون من خفايا رموزه يوصل طلاب أسراره إلى أقصاها ولا يغادر من جواهر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها متضمنا خلاصة ما ورد في هذا العلم عن سيد المرسلين ونقاوة ما نقل فيه عن الأئمة الطاهرين عليه وعليهم أفضل صلوات المصلين ومشتملا على صفوة ما وصل إلينا عن الصحابة المرضيين والعلماء الماضين والسلف الصالحين رضوان الله عليهم أجمعين وسميته بالعروة الوثقى" (2).
ويقول في كشكوله " في الكشاف في تفسير قوله تعالى ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) قال : ومن بدع التفاسير أن الإمام جمع أم ، وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم : وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الآباء، رعاية حق عيسى عليه السلام وإظهار شرف الحسن والحسين عليهما السلام ، وأن لا يفتضح أولاد الزنا . وليت شعري أيهما أبدع : أصحة لفظه أم بهاء حكمته" (3).
ولعل الاهتمام بتفسير البيضاوي عند الشيخ بهاء الدين العاملي يرجع أيضًا لكون البيضاوي كان مهتمًا بتفسير الكشاف للزمخشري وقد عبّر عن تفسير البيضاوي بأنّه أشهر مصنفاته في زماننا(4).
وفي القرن الرابع عشر نجد العلامة السيد الطباطبائي كذلك في تفسيره الميزان فقد ذكره باسمه على الأقل سبعًا وأربعين مرة وذكر آراءه دون تسميته في كثير من المواضع.
ولم يكتف بإيراد آرائه فقط أو يتبناها على الإطلاق بل كان يأخذ بعضها ويناقش في بعض آخر .
والخلاصة إن قضية تبني الآراء التفسيرية تعود كما أسلفنا للأخذ بالظهور الذي ربما وجده المفسر عند أخيه لسلامة سليقته وتأمله وتدبره في الآية بأكثر مما تأمله وتدبره هو .
والحمد لله رب العالمين.
عبد الغني العرفات
----------
(1) جوامع الجامع ص 50 ط مؤسسة النشر الإسلامي.
(2) العروة الوثقى ص 60 ط مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية.
(3) الكشكول ج3 ص 410. ط مؤسسة الأعلمي.
(4) الكشكول ج 1 ص 59.