الأمر التاسع : في حقيقة التفسير وفرزه عمّا عداه من شؤون القرآن الكريم
إنّ هناك جانبين رئيسيين بشأن القرآن الكريم ..
[ حقيقة تفسير القرآن الكريم ]
الأوّل : الجانب المتعلّق بتشخيص مفهوم الكلام، والذي أُرِيدَ تفهيمه بالكلام القرآني للناس جميعاً المخاطبين بهذا النص الكريم .. سواءً وفَى به الكلام في نفسه، أم بملاحظة تفاعله مع البيئة العامّة التي جاءتْ فيه، أم بملاحظة شأن نزوله الخاص؛ فتكون البيئة وشأن النزول قرائن متصلة يصحّ التعويل عليها في تفهيم المراد .
والثاني : ما يتجاوز هذا المقدار ويتعلّق بأمور إضافيّة وراء بيان ما قُصِد تفهيمه بالكلام على الوجه العامّ، وهذا الجانب على عدّة أنواع ..
[ شؤون النص القرآني غير التفسير ]
النوع الأوّل: تقييد المُطلَقات وتخصيص العمومات؛ حيث إنّ القرآن الكريم يتضمّن تأصيلات عامّة ومُطلَقة، مثل: تأصيل حليّة البيع، وتأصيل التجارة عن تراضٍ، وتأصيل الوفاء بالعقود، وتأصيل حرمة الغيبة والتجسس وسوء الظن والسُخرية من الآخرين، وتأصيل القِصاص بالمثل، وغير ذلك من التأصيلات العامّة.
وهناك حدود لهذه التأصيلات تضمَّنتها السنّة النبويّة والآثار الواردة عن أئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم).
فهذا النوع ليس من قبيل تفسير القرآن الكريم، فالبيوع الباطلة - مثل بيع مال الغير من غير إجازته - لیست تفسيراً بالقياس إلى آية: { أَحَلَّ اللهُ البَيْعَ } (1) و موارد استثناء الغيبة - مثل ذكر عيب الشخص نصيحةً لآخر يريد التعامل معه - لیستْ تفسيراً بالنسبة إلى آية: { وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضَاً } (2)، وهكذا .
فهذه المخصِّصات والمقيِّدات وإن كانت بياناً لحدود ما أُريد بالنصّ القرآنيّ - حيث إنّ هذا النصّ القرآنيّ لا يقصد حقيقةً تعميم الحكم الذي جاء فيه لهذه الحالات - ولكنّه ليس تفسيراً، و شأن بیان مثل هذه الأمور - طبعاً - هو الفقه وليس التفسير، ومن ثَمَّ لا يناسب إيراد الأبواب الفقهيّة في ذيل العمومات والإطلاقات القرآنيّة؛ فيُورد في ذيل الآية: { أَحَلَّ اللهُ البَيْعَ } (3) مثلاً قيود البيع من حيث الصيغة والعوضَين والمتعاقدَين، وهكذا في سائر المعاملات والعبادات التي يوجد في شأنها إطلاق في القرآن الكريم .
نعم، قد يحسن تنبيه المفسّر في شأن التأصيلات القرآنيّة على أنّها لن تُراد على عمومها وإطلاقها؛ بل لها حدود ملائمة ورَدَت في سائر آيات القرآن أو في السنّة النبويّة وآثار أهل البيت (عليهم السلام). وقد يحسُن التنبيه على بعض أصولها ومهمّاتها في سياق مناسب.
كما إنّ مَن يتعرَّض للتفسير الموضوعيّ للقرآن عليه أن يجمع التأصيلات وحدودها المذكورة في الكتاب معاً، لا لأنَّ حدود التأصيل من شؤون تفسير النصّ المتضمّن لهذا التأصيل، بل لأنّ محور الحديث حينئذٍ يكون الموضوع الذي تتعلّق به نصوص التأصيل و التحديد جميعاً .
[ بيان النص القرآني المُجمَل ]
النوع الثاني: بيان المجملات بالأصالة
والمراد بالمجملات بالأصالة: ما لم يُقصد بيانه في أصل الكلام .. في مقابل المجمَل بالعارض، وهو: الذي ألقاهُ المتكلّم على وجهٍ مبيَّن، ولكن طرأ عليه الإجمال في مقام تلقّي المخاطَب له؛ لخفاء بعض القرائن .
وقد يُمَثَّل لهذا النوع بما جاء في الآيات الشريفة من وجوب الصلاة وأجزائها - من القيام والركوع والسجود و قراءة القرآن والتكبير والصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) -، حيث لم تكن الآيات القرآنية التي تضمّنت ذلك بصدد تفصيل وجوب الصلاة وكيفيتها وركعاتها، بل أُوكِلَ بيان ذلك إلى السنّة الشريفة؛ فيكون ما يأتي في بيان مثل ذلك في السنّة من قبيل بيان المجمل بالأصالة .
وهذا النوع ليس من قبيل التفسير أيضاً؛ لأنَّه بيانُ أمرٍ لم يكن النصّ مفيداً له ولا قاصداً لتفهيمه؛ فلو أنَّ أحداً قال: (جاءني رجلٌ هذا اليوم)، وفهمنا من كلامٍ آخر له أنّ الرجل الذي جاءه إنّما هو زيد، لم يكن الكلام الثاني مُفسِّراً للكلام الأوّل؛ لأنّ الكلام الأوّل لم يكن قاصداً لتفهيم الرجل الذي جاء بالتحديد .
فبيان المجملات من هذا القبيل خارج عن عهدة التفسير ؛ ومن ثَمَّ لا يتعرّض المفسّرون عادةً لتفصيل أحكام الصلاة والحجّ والعمرة ونحوهما في مقام تفسير الآيات .
نعم، قد يحسُن ذكر ذلك، ولا سيّما إذا كان قد جاء في موضعٍ آخر من الكتاب أو من قبيل القصص والحكايات التي تفصّل ما حُكي في الآية الكريمة. وإذا كانت هذه المجملات ذات مضامين تشريعيّة فيكون ذلك داخلاً في شأن الفقه .
[ التحديد القانوني لمفاهيم القرآن الكريم المبهمة ]
النوع الثالث: التحديدات القانونية للمفاهيم المبهمة الواردة في الكتاب
وذلك أنّ هناك مفاهيم تحتاج إلى تحديدٍ قانونيٍ بالنظر إلى عدم تعيُّنها في أنفسها بشكل مطّرد، فيَرِد تحديدها في السنّة الشريفة والآثار الواردة عن أئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم).
وقد يُمَثَّل لذلك بما ورد في القرآن الكريم (4) من تحديد وصيّة الإنسان في تركته بأن لا يكون مُضارّاً .. فمفهوم عدم الإضرار بالورثة يحتاج إلى تحديدٍ؛ لأنّه ليس هناك شيء واضح يحدّد ما يكون ضرراً وما لا يكون ضرراً، وقد ورد في السنة الشريفة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) وفي الآثار المرويّة عن أهل بيته (صلوات الله عليهم) تحديدُ ذلك بالثلث؛ فمَن أوصى بالثلث لم يكن مُضارّاً، ومَن أوصى بما يزيد على الثلث فهو مضار(5). فهذا أيضاً ليس من قبيل التفسير، وإنّما هو من قبيل التحديد القانوني .
والفرق بين هذا القسم وسابقه: أنّ التحديد هنا يكون بتشريعٍ قانونيٍ ثانٍ متمّمٍ للتشريع الأوَّل، وأمّا التحديد في النوع السابق - وهو بيان المجملات - فهو لا يكون بتشريعٍ قانونيٍ ثانٍ؛ بل ببیانٍ قانونيٍ للتشريع الأوَّل يفيد ما أجمله المتكلِّم في الجعل الأوَّل .
ويتفرَّع على ذلك: أنّ التحديد في هذا النوع قد يكون من سلطة تشريعيّة أخرى كالنبيّ (صلى الله عليه وآله) کما في المثال المتقدّم، وأمّا التحديد في النوع السابق فهو لا بدّ أن يكون من المشرِّع الأوَّل نفسه؛ لأنّه بيان لحقيقةِ مراده .
[ بيان مصاديق النصوص القرآنية العامة ]
النوع الرابع: بيان المصاديق للنصوص القرآنية العامة
مثلاً جاء في سورة الحجرات أنّه متى اقتتلت طائفتان من المؤمنين يجب الإصلاح بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى وجبت مقاتلة الفرقة الباغية (6) .
وورد في السنّة النبويّة ما يفيد أنّ من يقاتل أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) باغٍ، نظير (7) ما ورد في الرواية في شأن عمّار: " أنّ عمّار تقتله الفئة الباغية " (8) وكان ذلك روايةً مشهورة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، حتى اضطرَّت جماعة معاوية إلى تأويل هذه الرواية، وقالوا إنّ علياً (عليه السلام) هو الذي قتله إذ جاء به إلى ساحة الحرب. فدلّت هذه الرواية من السنّة على أنّ الفئة الباغية إنمّا هي أهل الشام، وبذلك كانت تحديداً لمصداق الفئة الباغية في حرب صفين.
وورود بيان مصاديق العمومات القرآنيّة في السنّة النبويّة وآثار أهل البيت (عليهم السلام) حالة واسعة؛ وذلك لأنّ القرآن الكريم يَصِفُ كثيراً كلّاً من جبهة الحقّ وجبهة الباطل وأهلهما، وتتحدّد هاتان الجبهتان في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) من خلاله (صلى الله عليه وآله)؛ فمَن وقف معه كان على الحقّ، ومن وقف ضدّه كان على الباطل، كما يتحدد ذلك فيما بعده (صلى الله عليه وآله) - بعد ما بيّنه من اصطفاء أهل بيته (عليهم السلام) وإرجاعه إليهم - من خلال أهل البيت (عليهم السلام)؛ فمَن وقفَ معهم كان على الحقّ، ومن لم يقف معهم كان على الباطل. فيكون النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام) و من التزم سَمتَهم مصاديق للآيات التي تصف أهل الحقّ، والمتخلّفون عنهم مصاديق للآيات التي تصف أهل الباطل.
ومن هذا القبيل: أنّ الآية قد يُستفاد منها فكرة عامّة على سبيل المعنى المَثَليّ، ثم تطبَّق هذه الفكرة في شأن مورد خاص، کما ورد في الآية الشريفة: { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ... وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ } (9) ، فهذه الآية وردت في سياق حديثٍ مرتبطٍ بموسى (عليه السلام) و فرعون، وتدلّ على أنّه تعالى أراد أن يمنّ على بني إسرائيل الذين استضعفهم فرعون وجنوده ويجعل منهم الأئمة الوارثين؛ ولكنّها سنّة إلهيّة في نصرة المستضعَفين وفق حدودٍ تقتضيها الحكمة الإلهيّة، وهي تنطبق في العديد من الحالات في طول التاريخ، ويمكن أن يكون من أبرز مصادیق هذه السنّة هو الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف)؛ بالنظر إلى تمكين الله سبحانه وتعالى له بعد أن استُضعِف أهل البيت (عليهم السلام) منذ وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) فيما بعدُ، واستُضعِف هو (عليه السلام) منذ ولادته إلى زمان ظهوره (عليه السلام)، فقدَّر الله سبحانه وتعالى لأهل البيت (عليهم السلام) دولةً في آخر الزمان بعد طول استضعافهم، وهو يقع مصداقاً للسنّة الإلهيّة التي تشير إليها هذه الآية الشريفة بالأسلوب المَثَلي .
فهذا النوع أيضاً يكون خارجاً عن تفسير الآية الشريفة .
[ الدلالة الرمزية في القرآن الكريم ]
النوع الخامس: ما أُرِيدَ على سبيل الترميز؛ الذي لا يفهمه عامّة الناس، وإنّما يناله من خصّه الله سبحانه بعلم ذلك، وهم النبيّ (صلى الله عليه وآله) والأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام)، وربَّما قيل بإمكان أن ينالها بعضٌ آخر من العباد الصالحين إذا صَفَت نفوسهم وارتقت مراتبهم في معرفة الله سبحانه وتعالى والأنس بكلامه. وقد يُسمَّى ذلك بـ (بطون القرآن) أو (تأويل القرآن)؛ لكن هذان التعبيران يُطلَقان على بعض الأنواع السابقة أيضاً، مثل المصادیق الحقّة للآيات القرآنية. وفي تحقيق القول في هذا النوع، ومدى نهوض الروايات بإثباته كلامٌ لا يسعه المقام، لأنّه يحتاج إلى حديثٍ مفصَّل، وهو جزء من مباحث علوم القرآن؛ فيُوكل الحديث فيه إلى هناك (10) .
وهذا القسم لا يندرج في تفسير القرآن الكريم بما له من معنىً معروف وإن أمكن إطلاق التفسير عليه بمنظور أعمّ (11)، لأنّه يتعلّق بمعانٍ باطنةٍ للكلام يدلّ عليها بنوعٍ من الدلالة الرمزيّة التي يفهمها أهلها، وقد قُصِد تفهیمهم إيّاها.
لكن هذا البُعد للقرآن الكريم ممّا لا شأن للناس به؛ لأنّه ليس جزءاً ممّا أُريد تفهیمه لعامّة الناس، کما لا يجب عليهم البحث عنه. وما جاء منه عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام) يجب الأخذ به في نفسه سواء جاء المعني بعنوان التفسير للقرآن الكريم أم لا؛ لكون قولهم حجّةً على كلّ حالٍ. وأمّا ما يتراءى لغيرهم من معاني باطنة للآيات القرآنية فإنّه لا حجّة لهم في ذلك على تلقّي تعاليم الدين اعتقاداً وتشريعاً؛ لأنّ من المبادئ العامّة الواضحة التي هي محلّ إقرار جمهور علماء المسلمين: أنّ الطرق الروحيّة ليست سبيلاً لتلقّي تعاليم الدين؛ بل يُتلقّى الدين من الكتاب والسنّة والعترة فحسب، ومَن تلقّى شيئاً بتلك الطرق لم يُعتبَر به إلّا في حال موافقته مع تعاليمها، ولا يصحّ تأسيس أيّ مبدأ على أساسها، كما أنّه لا حجّة للآخرين في ما يحكيه هؤلاء المتلقّون؛ لأنّ الحجّة لن تقوم في الدين إلا بتلقّي الدين من الكتاب والسنّة والعترة أيضاً، دون ما يُتلقّى بالطرق الخاصّة بالمنامات والمكاشفات والواردات القلبيّة، كما صرّح به الكثير من أهل العلم .
[ نتيجة البحث في حقيقة التفسير ]
فاتّضح من ذلك: أنّ التفسیر کما ذکرناه هو خصوص ما أُريدَ تفهیمه في الكلام، ولا يشمل الأنواع المتقدّمة ممّا يتعلق بالقرآن الكريم .
إذن للقرآن الكريم جانبان ..
الجانب الأوَّل: ما يتعلق بدلالات القرآن الكريم التي تمثِّل إرساءه لأصول الاعتقاد بالله سبحانه وتعالى وخصائصه، والرسل وصفاتهم، واليوم الآخر وخصائصه، وما يتعلّق بأصول التشريع الإسلامي واتجاهاته العامّة، وكثيرٍ من التفاصيل التي تمثّل شرحاً ومفردات في هذا السياق .
والجانب الثاني: ما لا يدلّ عليه القرآن الكريم من شؤون أخرى مرتبطة بما جاء في النصّ القرآنيّ بأحد السبل المتقدّمة: من ارتباط الخاصّ بالعامّ والمقيد بالمطلق، أو ارتباط المبيّن بالمجمل، أو ارتباط المبهَم بالمحدّد القانونيّ، أو ارتباط العام بالمصداق، أو ارتباط الرمز مع المعنى الذي يرمز إليه .. فهذه كلّها ليست تفسيراً للقرآن الكريم .
والأهميّة العامّة للقرآن الكريم إنّما تكمن في الجانب الأوَّل؛ فالقرآن إنّما كان رسالةً من الله سبحانه وتعالى إلى الخلق بالنظر إلى دلالاته العامّة التي خوطب بها الناس جميعاً . كما أنّه إلى ذلك ينظر ما وصف القرآن نفسه من كونه: آيات، ونوراً، وفرقاناً، وبياناً، وهدىً، وبلاغاً، وتبصرةً، وحقّاً، وبصائر، ومبيِّناً، وموعظةً، ونذيراً، وخَيْراً، ورحمةً، وشفاءً، وحكيماً، ومباركاً، ونبأً عظيماً، وبرهاناً، وميزاناً، ومجيداً، وقصصاً، وديناً قيّماً، وتبياناً، وبيّنات، وتذكرةً، وذكرى، وصدقاً، وصراطاً مستقيماً، وأحسن الحديث، وأحسن القصص، وحبل الله، وقولاً فصلاً .
ومن الآيات التي تصف القرآن الكريم: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } (12)، { هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ } (13)، { بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (14)، { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } (15)، { قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا } (16)، { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } (17)، { إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } (18)، { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } (19)، { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ } (20)، { لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } (21)، { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ } (22)، أو نحو ذلك .
فهذا كلّه صفات القرآن بلحاظ الدلالات القرآنية التي تصف أصول الاعتقادات الحقّة والدين الإلهي الجامع، وتصف أصول التشريعات العادلة والفاضلة والقيم النبيلة، مع تفاصيل كثيرة من التاريخ الديني أو التفاصيل التشريعية. ولا شيء من هذه الأوصاف الجليلة للقرآن الكريم بلحاظ أيِّ بُعدٍ من الأبعاد التي وصفناها في الجانب الثاني .
فالقرآن بدلالاته العامّة رسالة عظيمة من الله سبحانه وتعالى إلى الخلق يُرسي أصول التفكير العقلائي والفاضل والحكيم، ويبيّن الحقائق الكبرى في الحياة، وسنن الله سبحانه في الرسالات وهداية الإنسان وفي الخلق، ويبيّن كلّ ما ينبغي لرسالة إلهية أن تبيّنه للناس ففیه تبیان كلّ شيءٍ بهذا المعنى .
وأمّا الأبعاد الأخرى التي لم يُسَق القرآن لبيانها: إمّا أصلاً کما في المخصِّصات والمقيّدات، أو التفاصيل، أو المصاديق، أو ما كان بياناً رمزياً له بنوعٍ من الدلالة الباطنة كما في بطون القرآن الكريم - على الكلام الذي أشرنا إليه - فهذا كله ليس محطّ النظر فيما وُصِف به القرآن من الأوصاف المميّزة المتقدّمة.
وعليه: فإنّ رسالة المفسّر هي أن يكون بصدد تفسير القرآن الكريم أصالةً والتدبّر فيه واستلهامه والانتباه إلى مضمون رسالة الله سبحانه وتعالى إلى الإنسان وهو البُعد الذي يدلّ عليه القرآن الكريم .
إيضاح دور التفسير في بيان دلالات القرآن الكريم
وقد يتساءل الباحث عن دور التفسير في بيان دلالات القرآن الكريم في ضوء ما تقدّم، حيث قد يظن بدواً أنّه لم يبق هناك شيء يتكفله التفسير لخروج تبيين المجمل وتخصيص العام وتحديد المبهم وبيان المصادیق وبواطن القرآن كله عن عهدة التفسير، فلم يبق شيء يتكفّله التفسير إلّا تكرار ما يُفهَم من النصّ القرآني في نفسه، وهو من قبيل إيضاح الواضحات.
فنقول: إنّ هناك أدواراً للتفسير في شأن دلالات القرآن الكريم:
أولاً: بسط وتوضيح ما يُفهَم من الكلام على وجه الإجمال؛ فإنّ لبيان المعنى الواحد مستويات عدّة بعضها دون بعض في التوضيح والتفصيل والبسط، فيتكفّل التفسير شرح ما دلّ عليه النصّ القرآنيّ ببيانٍ أكثر توضيحاً وبسطاً، وفي ذلك ما يدفع بعض الأفهام البدويّة الخاطئة والشبهات الطارئة عن القرآن الكريم .
ثانياً: تبيين المعاني التي يطرأ عليها الإجمال أو التغيير بمرور الزمن، وسبب الإجمال والتغيير أمور:
1- اختلاف معاني المفردات أو الانسياقات منها بحسب مرور الزمان وتطوّر اللغة والمفاهيم اللغويّة .
2- عدم مألوفيّة بعض المفردات القرآنيّة في اللغة العامّة المعاصرة ممّا يُحوِج الباحث إلى الاطلاع عليها .
3- انفصال النصّ القرآنيّ عن بيئته الاجتماعيّة التي نزل فيها والحوادث التي اقترن بها، وتلك قرائن كانت متصلة بالكلام لا يستحضرها من يتلو القرآن في مثل هذا العصر؛ ممّا يؤدي إلى الحاجة إلى استحضار تلك البيئة والاطلاع على تلك الحوادث لفهم الكلام جيدا.
ثالثاً: توضيح الدلالات الذكيّة للكلام، وهي دلالات يحتاج فهمها إلى نباهة وتفطّن و ممارسة .
بيان ذلك: أنّ مداليل القرآن الكريم تنقسم إلى قسمين ..
الأوّل: المداليل الاعتيادية الواضحة والمنساقة بشكل عام .
الثاني: مداليل ذكيّة تحتاج إلى شيءٍ من التفطّن والممارسة الزائدة، وإنّما ينتبه إليها الإنسان الفطن والممارس؛ ولكن ليس في حاجة هذه المداليل إلى التفطّن والممارسة ما ينفي كونها من قبيل ظواهر الكلام، لأنّ ظاهر الكلام يشمل كلّ دلالة مفهومة منه بنفسه أو بقرائن متصلة وإن كانت قرينة ذكيّة .
وهذا الانقسام لدلالات الكلام ظاهرة عامّة وجارية في مطلق الكلام من غير اختصاص بالنصّ القرآني؛ وإنّما يجري ذلك في النص القرآني باعتباره ظاهرة مطّردة في كلّ كلام، وذلك أنّا إذا تأمّلنا جيّدا فإنّنا نجد أنّ كثيراً من كلماتنا أو الفتاوى التي نطّلع عليها أو كلمات الساسة هي ذات مداليل اعتياديّة يلتفت إليها كلّ ناظر، و مداليل أخرى ذكيّة تحتاج إلى نوعٍ من التفطّن والانتباه والممارسة .
ثم إنّ المداليل الذكيّة على قسمين ..
مداليل ذكيّة عامّة يكفي فيها التفطّن العام .
و مداليل ذكيّة تشريعيّة من قبيل تحقّق بعض الانصرافات أو بعض العمومات، مثلاً هل يدلّ قوله تعالى: { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } (23)، على عدم جواز الاستمتاع مع النفس أم لا؟ إلى غير ذلك من المداليل التي تحتاج إلى تدقيق قانوني . ويُناط تنقيح هذه المداليل عقلاءً إلى خصوص فقهاء التشريع الإسلامي
وإناطة التحقّق من المداليل المتشابهة والمختلَف فيها من النصوص التشريعية حالة سائدة لدى العقلاء؛ فالنصّ الدستوري في القوانين المعاصرة نصّ عامّ، لكن رغم ذلك يُناط التحقق من مدالیله الذكيّة بخصوص القانونيين والحقوقيين . وإذا وقع الخلاف في مفاد الدستور أُنيط تحديد مدلوله بمقامٍ ذي صلاحيّة خاصّة - كالمحكمة العليا -، فلا يُحال تحديد الحدود المبهمة والخلافيّة للتشريع إلى كلّ ناظرٍ؛ بل إلى فقهاء القانون خاصّة .
وينبغي الانتباه إلى أنّ ما ذكرناه من وجود مداليل ذكيّة للنصّ القرآنيّ لا يلغي الطبيعة الميسّرة لهذا النصّ ولا يقتضي حصر فهمها بفئة خاصّة تملك خبرةً وتخصصاً خاصّاً .
وذلك لأنّ عموم المداليل القرآنيّة هي من قبيل المداليل الواضحة للفهم العامّ؛ فهي التي تتضمّن أصول الحقائق الكبرى، وخصائصها المهمّة، وأصول القيم الفاضلة، والاتجاهات التشريعيّة؛ ولكن هناك بعض التفاصيل والخصوصيات المتعلّقة بحدود المعنى تكون الدلالة عليها في النص ذكيّة فتحتاج إلى نوعٍ من التفطّن والممارسة. كما أنّ من تلك المداليل الذكيّة معاني تشريعيّة و قانونيّة ينتبه لها الفقهاء - الذين يستعملون أدوات دقيقة لفهم النص التشريعي والقانوني، وأدوات وافية لفهم النص التاريخي الذي يكون عرضة لتغيّر مدالیله عبر الزمن .
وبذلك يتّضح: أنّ ما ذكرناه حول حقيقة التفسير وفرزه عن العمليّات الأخرى ذات العلاقة بالنصّ القرآنيّ لا يلغي حاجة هذا النصّ إلى التفسير، وإن لم يقتضي ذلك حصر النصّ بطائفة خاصّة؛ لكونه نصّاً ميسراً بشكل عامّ .
النص القرآنيّ نصّ مُیَسَّرٍ ووافٍ بأداء مقاصده دون تعمية فيه
لا شكّ في ثبوت البُعد الدلاليّ العامّ للقرآن الكريم؛ بمعنى أنّ القرآن الكريم عموماً هو خطاب للمجتمع العامّ كما كان حال الرسالات الإلهيّة السابقة مثل التوراة والإنجيل؛ فتلك سُنّة الله سبحانه في الأديان؛ حيث إنّه يوجّه الخطاب إلى الناس مباشرة ولا يوسّط بينه وبينهم وسيطاً؛ وإنّما الوسيط - وهو النبيّ - حَمَلَ الرسالة إلى الخلق، وهذا المعنى أمرٌ بديهيّ للغاية، بالنظر إلى أمور:
1- تصريح القرآن الكريم، حيث تضمّن أنّه كتاب مُيَسَّر وواضح للغاية، كما قال سبحانه مكرّراً في سورة القمر: { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }، وقال تعالى: { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } (24)، وقال عزّ من قائل: { وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } (25)، { كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ } (26).
2- الواقع التاريخيّ، حيث إنّه من الواضح أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان عند تلقّي الوحي مباشرةً يُلقيه على الناس إرشاداً و تعليماً و تذكيراً لهم .
3- مضمون القرآن الكريم، فإنّه يخاطب الناس وأصنافهم، كالمؤمنين، والكفّار، والمنافقين، والعصاة وغيرهم، ويحثّهم على قراءته، وتلاوته، والإصغاء إليه، والتدبّر فيه، ويذمّ الذين يتعاملون معه كالصمّ البكم الذين لا يمكن التفاهم معهم و تفهيمهم؛ بل عرفنا أنّ عامّة ما وصف القرآن الكريم به نفسه من صفات مثل كونه كتاباً مبيناً و حكيماً ونوراً وهدىً وفرقاناً ونحو ذلك إنّما كان بالنظر إلى مداليله العامّة التي أراد فهم عامّة الناس لها .
4- تلقّي المجتمع الإسلامي منذ عصر الرسول (صلى الله عليه وآله)، فهم دائماً يقرؤون القرآن على أنّه خطاب يوجّههم ويهديهم ويكون حجّةً عليهم و إنذاراً مباشراً لهم .
وعليه، فإنّ النصّ القرآنيّ هو نصّ ميسّر ووافٍ بأداء مقاصده دون تعمية فيها، شأن سائر النصوص الموجّهة والمُعدّة لعامّة الناس، مثل خُطَب النبي (صلى الله عليه وآله) و أمير المؤمنين (عليه السلام) و عامّة النصوص الأدبيّة والشعريّة .
وبذلك يُعلَم: أنّ من الخطأ الفاحش افتراض أنّ فهم القرآن الكريم يختصّ بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام)، أو افتراض أنّ دلالات القرآن كلّها دلالات باطنة ولا قيمة لدلالاته الظاهرة؛ فإنّ ذلك خلاف بديهة الدين تماماً .
[ دور القرائن المنفصلة في تفسير القرآن الكريم ]
نعم، قد يُتساءل عن مدى انسجام ذلك مع ما يقال عادةً من أنّ القرآن الكريم يعتمد أحياناً في تفهيم مقصوده على قرائن منفصلة غير حافّة بالكلام؛ إذ لا يكون ما يتراءى من الكلام حينئذٍ مقصوداً، وهذا يُخالف التأصيل المذكور من كون النصّ القرآني نصاً وافياً بأداء مقاصده تماماً .
وتوضيح هذا التساؤل: أنّ القرينة التي تبيّن مراد المتكلم على ضربين: قرينة متّصلة، وأخرى منفصلة.
أما القرينة المتصلة: فهي قرينة حافّة بالكلام نحوُ احتفاف بحسب اختلاف أنواعها من : المقاليّة، والمقاميّة، والحاليّة.
فالقرائن المقاليّة: ما جاء في الجملة نفسها أو في ما يتصل بها من أجزاء الكلام، وتشمل: المعهوديّات الذهنيّة للمخاطبين الحاصلة من مخاطبات سابقة، حيث إنّ هذه المعهودیات تمثّل نسقاً يصحّ التعويل عليها .
والقرائن المقاميّة: هي ما تتمثّل في المقام الذي أُلقي فيه الكلام من البيئة الخاصّة التي تشتمل على أمورٍ و حوادث يتفاعل معها الكلام .
وأمّا القرائن الحاليّة فهي: ما تتمثّل في حال المتكلّم أو المخاطَبين وخصالهم المؤثّرة في التوجيه الدلاليّ للكلام إلى معنى محدّد .
فالقرائن المتّصلة بأنواعها توجّه ظهور الكلام وتؤثّر في تكوينه .
وأمّا القرائن المنفصلة فهي ليست حافّة بالكلام بأيّ شكلٍ من الأشكال؛ ومن ثَمَّ يكون الاعتماد عليها مخالفاً لما ذُكِر من وفاء النصّ بأداء مقاصده التي أُريد تفهیمها .
والجواب عن هذا السؤال: أنّ اعتماد الكلام على القرائن المنفصلة ليس وارداً إلّا إذا كان الكلام قد أُلقي على سبيل التعمية والتورية دون التفهيم، نعم يجوز أن تكون القرينة المنفصلة منبّهة على قرينة متصّلة حافّة بالكلام .
بيان ذلك: أنّ القرينة المنفصلة تتنوَّع إلى نوعين: قرينة منفصلة منبّهة، و قرينة منفصلة مؤسسة .
أمّا القرينة المنفصلة المنبّهة: فنعني بها ما يُنبِّه الإنسان إلى حيثية ونكتة حافّة ومتّصلة بالكلام قد لا ينتبه إليها الإنسان ابتداءً، فإذا نُبِّه إليها الإنسان وجدها واضحةً، فهذه تكون قرينة منبّهة على معنى الكلام، و أصل القرينة حينئذٍ ليست منفصلة، بل متصّلة، ولكن المنبِّه منفصل، وأما المنبَّه عليه فهو قرينة متصلة .
وأما القرينة المنفصلة المؤسِّسة: فهي التي تريد أن تصرف الكلام عن ظاهره المفهوم منه، رغم أنّ الكلام في مقام التفهيم .
ولا يصحّ التعويل عليها في الكلام عند العقلاء؛ لأنّ شأن الكلام تفهیم المعنى المقصود به تماماً فلا معنى لخلوِّ الكلام عن القرينة الدالّة على المراد به وسوق القرينة سوقاً منفصلاً لوجود قرينة منفصلة مؤسِّسة؛ لأنّه ينافي وفاء الكلام بما سيق لأجله من التفهيم، فليس هناك من معنى لأن يُطلِق المتكلّم كلاماً يُفهِم شيئاً من غير أن يُقيم قرينة، ثمّ يذكر قرينته في كلامٍ منفصل، فهذا ليس أمراً عرفياً ولا عقلائياً؛ لأنّه يكون ضرباً من التورية و التعمية، فيصحّ إذا كان المتكلّم في مقام التورية و التعمية بإيهام شيءٍ للمخاطَب من دون قصده، وأمّا إذا لم يكن في هذا المقام، بل كان في مقام تفهیم مقصوده فلا يصحّ تعويله على القرينة المنفصلة .
وهذا هو الحال بالنسبة إلى كلّ كلامٍ عند العقلاء، فكلّ متكلّم ناظر إلى تفهيم معنى لمخاطَبه ينبغي أن يبيّن ما يريده بياناً وافياً و لائقاً عرفاً، فلو وقع سوء فهمٍ فهو إمّا من جهة قصور المتكلّم في استخدام الأدوات المناسبة - كما قد يقع فيه الإنسان فربّما يستخدم شيئاً غير مُفهمٍ، والسامعُ يفهم شيئاً آخر، ثمّ ينتبه الإنسان إلى قصور بيانه -، وإمّا من جهة قصور السامع عن تلقّي بعض الاعتبارات والقرائن الحافّة ولو كانت وفق المعهودیات المقبولة .
نعم، يُستثنى من ذلك إلقاء التأصيل العامّ من دون قرنه باستثناءاته ومن ثمّ يأتي النصّ الخاصّ والمقيّد قرينةً منفصلةً على النصّ المطلَق والعامّ، وذلك لأنّ إلقاء التأصيل دون استثناءاته دأبٌ عقلائيٌ عامّ كما نجده من أنفسنا أيضاً، فنحن كثيراً ما نوصي أولادنا أو نستعمل في سائر وجوه التخاطب فيما بيننا تأصيلات عامّة، بينما قد تكون لها حدود خاصّة، لكن لا يُنبَّه على تلك الحدود في السياق العام بشكل دائم .
وكأنّ السرّ في جواز إلقاء التأصيل العامّ من دون قرنه باستثناءاته إلّا في مقام مناسبٍ أنّ بيان الاستثناء عرفاً ليس من شأن الكلام العامّ، وإنما شأنه هو التأصيل والتقعيد دون عرض جميع التفاصيل ذات العلاقة .
وبذلك يتضّح: أنّه لا يصحّ القول بوجود نصٍّ قرآنيٍ يُفهِم خلافَ ما هو مقصودٌ لله سبحانه تعالى لتأتي قرينة منفصلة مؤسّسة تقتضي لَيَّ الكلام وصرفَه عمّا تفي به الأدواتُ التفهيميّة الاعتياديّة والذكيّة .
وعليه: لا يصحّ ما ذهب إليه جماعة من المتكلمّين من أنّ هناك ظهورات في القرآن الكريم يكون الصارف لها هو العقل كقرينة منفصلة، فالقرآن مثلاً ظاهر في إثبات الوجه لله سبحانه وتعالى { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } (27)، أو في إثبات اليد { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } (28)، أو ما إلى ذلك، لكن العقل ينفي وجود وجهٍ ويدٍ لله تعالى من خلال الاستدلال النظري؛ لأنّ ذلك من شؤون الأجسام، وهو سبحانه ليس جسماً .
ووجه عدم صحّة هذا القول: أنّ ذلك لا يُلائم وفاء الكلام بأداء المعنى .
وأما التعابير المتقدّمة في شأن الله سبحانه فالصحيح أنّها لم تكن يُفهَم منها في التلقّي العربيّ الفطريّ آنذاك إلّا نوعاً من الكناية والاستعارة، ولم تكن تدلّ على أنّ لله سبحانه وتعالى يداً كيد المخلوقات أو وجهاً كذلك، وإنّما هذه تعابير بلاغيّة مفهومة في سياقاتها في الصدر الأوّل للنابهين في اللغة العربيّة؛ لكن طروّ نحو مِن الضعف في المستوى البلاغيّ في أوساط المسلمين و انتشار الخلاف والشبهات أدّى إلى التشويش على الفهم الصافي لهذه النصوص .
إذن يتضّح ممّا ذكرناه: أنّ الدلالات القرآنيّة هي دلالات ناضجة ووافية بالمراد، نعم قد تكون فيه دلالات ذكيّة يحتاج المخاطَب - إذا أراد أن يسبر أغواره بشكلٍ دقيق - إلى نوعٍ من التفطّن، وهذا أمرٌ معقولٌ و متعارَف و موجودٌ في كلمات سائر العقلاء الموجّهة لعامّة الناس مثل خطب النبيّ (صلى الله عليه وآله) والإمام علي (عليه السلام).
وسيأتي ما يتعلق بهذا الموضوع في الأمر العاشر حول تفسير القرآن بالسنّة وآثار أهل البيت (عليهم السلام).
والحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين
______
الهوامش :
(1) سورة البقرة : 275 .
(2) سورة الحجرات : 12 .
(3) سورة البقرة : 275 .
(4) قال تعالى في ذيل آيات الميراث: { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ۚ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ ۗ } (سورة النساء: 12) .
(5) يُلاحَظ: الكافي: 7/ 8 وما بعد .
(6) سورة الحجرات: 9 .
(7) ومن هذا القبيل: ما ورد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) من أنّه ذكر لعليّ (عليه السلام) أنّه سوف يُقاتل على تأويل القرآن، وما جاء أيضاً من أنّه قال للزبير: " لتقاتلنّ عليّاً وأنت له ظالم " .
(8) يُلاحَظ – مثلاً - : صحيح مسلم: 8/ 186 " إنّ رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلّم) قال لعمّار: تقتلك الفئة الباغية " .
(9) سورة القصص: 5 - 6 .
(10) لاحظ بعض القول في ذلك في مباني الأصول: ج3 (بحث استعمال المشترك في أكثر من معنى) حول الكلام على بطون القرآن .
(11) فيكون التفسير حينئذٍ على قسمين:
أ- التفسير الظاهريّ، وهو تفسير الدلالات الظاهرة للكلام – ويشمل المراد بالظاهر هنا: الصريح الذي لا يحتمل الخلاف - .
ب- التفسير الباطنيّ، وهو تفسير الدلالات الباطنة التي هي على سبيل الترميز المبنيّ على نظام لا يعلمه إلّا مَن أطلعه الله سبحانه على هذا النظام .
(12) سورة البقرة: 2 .
(13) سورة البقرة: 185 .
(14) سورة الأعراف: 52 .
(15) سورة إبراهيم: 1 .
(16) سورة النساء: 174 .
(17) سورة يونس: 57 .
(18) سورة الإسراء: 9 .
(19) سورة الزمر: 23 .
(20) سورة الأنعام: 155 .
(21) سورة الحشر: 21 .
(22) سورة الرعد: 31 .
(23) سورة المؤمنون: 5- 6 .
(24) سورة الشعراء: 192 – 195 .
(25) سورة النحل: 103 .
(26) سورة فُصِّلت: 3- 4 .
(27) سورة الرحمن: 27 .
(28) سورة المائدة: 64 .
______
( ملاحظة 1: هذا البحث محاضرة ألقاها سماحة السيد محمد باقر السيستاني (حفظه الله) في ليلة الخميس الثالث من شهر رمضان من سنة 1440هـ ضمن مجموعة محاضرات ألقاها سماحته كمدخلٍ لتفسير القرآن الكريم )
( ملاحظة 2: العناوين المحصورة بين المزدوجين [ ] أضفناها لتسهيل مراجعة البحث وليست في المصدر ) .