القائمة الرئيسية

الصفحات

الإمام الرضا عليه السلام وعوامل بروز العلم | الشيخ حيدر السندي

 

الإمام الرضا وعوامل بروز العلم | الشيخ حيدر السندي

كلمة سماحة الشيخ حيدر السندي في المولد الرضوي ليلة الثلاثاء 11/ 11/ 1442هـ في بلدة الطرف  

بقلم الاستاذ عيسى البجحان ( وفقه الله).

 قال سيدنا ومولانا الإمام الكاظم (صلوات الله وسلامه عليه) لأبنائه: "هذا أخوكم علي بن موسى عالم آل محمدٍ، فاسألوه عن أديانكم واحفظوا ما يقول لكم، فإني سمعت أبي جعفر بن محمدٍ غير مرةٍ يقول لي: إنَّ عالم آل محمدٍ لفي صلبك وليتني أدركته فإنَّه سمي أمير المؤمنين علي (عليه السلام)" (1) .

الإمام الرضا ولقب العالم

عُرف الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه) بالعلم، وقد بينت الروايات ظهور الشخصية العلميّة له (صلوات الله وسلامه عليه) ، ومن ضمن تلك الروايات الرواية التي ابتدأنا بها الكلمة، حيث يقول الإمام الكاظم (صلوات الله وسلامه عليه) لبنيه: "هذا أخوكم علي بن موسى عالم آل محمدٍ، فاسألوه عن أديانكم واحفظوا"، وهذه الفقرة من الرواية فيها نصٌ على إمامة الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه)، فنحن الشيعة نعتقد أن الإمامة لا تجتمع في أخوين بعد الإمام الحسن والحسين (صلوات الله وسلامه عليهما) وإنّما تستمر في الأعقاب أي:  في الولد بعد والده، فإذا قال الإمام الكاظم (صلوات الله وسلامه عليه) لجميع أبنائه : (أسألوا الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه) عن أديانكم واحفظوا ما يقول لكم) فإنه بذلك ينص على أنَّه الإمام الذي تؤخذ منه معالم الدِّين من بين جميع أبنائه.

ثم يقول الإمام الكاظم (صلوات الله وسلامه عليه): "فإني سمعت أبي جعفر بن محمدٍ غير مرةٍ يقول لي: إنَّ عالم آل محمدٍ لفي صلبك"، وفي هذه الفقرة يبين الإمام الكاظم (صلوات الله وسلامه عليه) اللقب الذي عرف به وبرز فيه الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه).

الأئمة والألقاب الخاصة

و نحن نعلم جميعًا بأنَّ جميع الأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم) علماء، فهم عيبة علم الله (تبارك وتعالى) وخزان أسراره (عزَّ وجلَّ)، وهم عدل الكتاب الذي فيه تبيان كل شيء { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ } ( سورة النحل، آية 89) ، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه و آله) : " وإنهما لن يفترقا "، فما معنى أن يلقب الإمام الرضا بعالم آل محمدٍ (صلوات الله وسلامه عليهم) ويعرف بهذا بين المعصومين (عليهم السلام) ؟

إنّ الأئمة (عليهم السلام) كلهم كرماء ومع ذلك برز الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) في الكرم وسمي كريم أهل البيت ،  والأئمة كلهم يكظمون الغيظ ، وبرز الإمام الكاظم (صلوات الله وسلامه عليه) في صفة الكظم وسمي الكاظم، والأمر كذلك في الهادي،  والجواد،  وكذلك في العالم.

إن السبب في ذلك باختصارٍ هو وجود ظروفٍ وأسبابٍ خاصةٍ في حياة كل واحدٍ من المعصومين (صلوات الله وسلامه عليهم) تقتضي تلك الظروف أن تبرز صفةٌ دون غيرها من الصفات الكاملة.

عوامل بروز العلم في حياة الإمام الرضا عليه السلام

و في زمن الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه) وُجدت عوامل متعددة بعضها اجتماعيةٌ ، وبعضها ثقافيةٌ ، و بعضها سياسيةٌ ؛ أدت إلى بروز اسم "عالم آل محمدٍ"، ونقتصر بنحوٍ سريعٍ على ذكر بعضٍ منها:

العامل الأول : شدة مراقبة الإمام الناطق

لقد تابعت الدولة العباسية الإمام الكاظم (صلوات الله وسلامه عليه) متابعةً شديدةً، وكانت نتيجة هذه المتابعة حبس الإمام الكاظم (صلوات الله وسلامه عليه) سنين عديدة، فكان من الضروري أن يتصدى الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه) مع حداثة سنه لكي يسد الفراغ الذي حدث بسبب هذه الظروف القاهرة، وقد نقل المؤرخون أنَّ الإمام الرضا (صلوات الله وسلامهم ) وهو في مقتبل عمره كانت له حلقةً في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فنقل ابن حجر في "تهذيب التهذيب" نقلًا عن الحاكم النيسابوي أنه قال في الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه): "وكان يفتي في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو ابن نيف وعشرين سنة" (2)، ولكي يكون الشخص صاحب حلقة في مسجد النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لا بد أن يكون شيخًا كبيرًا في السن والعلم، بينما إمامنا الرضا (عليه السلام) وهو في مقتبل العمر كانت له حلقةً.

ونقل الحاكم عن عبدالسلام بن صالح أبو الصلت الهروي عن الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه) أنّه قال: "كنت أجلس في الروضة ـ أي روضة مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، مما يدل على أنَّ حلقته ليست في أي مكانٍ وإنّما كانت في الصدارة ـ والعلماء بالمدينة متوافرون، فإذا أعيا الواحد منهم عن مسألة أشاروا إليَّ بأجمعهم إليَّ بالمسائل فأجيب عنها" (3) .

 إذا عجز كبار العلماء عن جواب مسألةٍ معضلةٍ ترفع إلى الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه)، فهو العالم المعصوم المسدد وليس كغيره من عامة الناس الذين يتعلمون بحسب الوسائل المتعارفة.

فهذا الظرف اقتضى أن يتصدى الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه) وهو حدث السن فبرز علمه وبرز تمييزه، وهذا ما جعل جماعةً كثيرةً من الناس تحتف به، حيث نُـقل أنَّ عدد تلامذة الإمام (صلوات الله وسلامه عليه) يقرب من ثلاثمائة وسبعين عالمًا، ومن هؤلاء محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني، والذي كان عالمًا جليلًا وقد جمع من المسائل التي أجاب عنها الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه) ثمانية عشر ألف مسألةٍ (4) ، وكانت هذه المسائل في مختلف العلوم من فقهٍ وكلامٍ وتفسيرٍ وفلسفةٍ.

كما ترجم علماء العامة قبل الخاصة لتلامذة الإمام (عليه السلام) وبينوا أنّ لبعضهم كتبًا جمعوا فيها الروايات التي سمعوها عن الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه)، فقد ذكر أبو الحجاج يوسف المزي في تهذيب الكمال جملةً من هؤلاء التلاميذ فقال: "روى عنه: أبو بكر أحمد بن الحباب بن حمزة الحميري النسابة، وأيوب بن منصور النيسابوري ـ إلى أن يقول ـ: وأبو أحمد داوود بن سليمان بن يوسف الغازي القزويني له عنه نسخة ـ أي: عنده كتابٌ كاملٌ لما رواه عن الإمام الرضا (عليه السلام) ـ وعامر بن سليمان الطائي والد أحمد بن عامر أحد الضعفاء له عنه نسخة كبيرة ـ أي: كتاب كبير يجمع فيه كلمات الإمام الرضا (عليه السلام) ـ" .

الرسالة الذهبية للإمام الرضا عليه السلام

 وكتب محمد بن الحسن بن جمهور البصري، عن الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه) الرسالة الذهبية، وهي رسالةٌ ليست في علم التفسير أو الفقه، وليست في علم الكلام وإنما في علم الطب، والملاحِظ لهذه الرسالة يصل إلى نتيجة وهي أنَّ الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه) كان من أوائل الذين وضعوا قواعد الطب الوقائي، حيث جاء بقواعد جديدةٍ لم تكن موجودة قبله.

وقد جاء فيها : " إن الله عز وجل لم يبتل البدن بداء حتى جعل له دواء يعالج به ، ولكل صنف من الداء صنف من الدواء ، وتدبير ونعت. وذلك ان هذه الاجسام اسست على مثال الملك، فملك الجسد هو ( ما في ) القلب. والعمال العروق في الاوصال ( والدماغ. وبيت الملك قلبه ) وارضه الجسد. والاعوان يداه ، ورجلاه ، وعيناه ، وشفتاه ، ولسانه ، واذناه. وخزائنه معدته ، وبطنه ، وحجابه وصدره. فاليدان عونان يقربان ، ويبعدان ويعملان على ما يوحى اليها الملك. ( والرجلان ينقلان الملك ) حيث يشاء. والعينان يدلانه على ما يغيب عنه ، لان الملك وراء حجاب لا يوصل اليه إلا بإذن وهما سراجاه ايضاً. وحصن الجسد وحرزه الاذنان. لا يدخلان على...ان الجسد بمنزلة الارض الطيبة الخراب ان تعوهدت بالعمارة والسقىمن حيث لا تزداد من الماء فتغرق ، ولا تنقص منه فتعطش دامت عمارتها وكثر ريعها ، وزكا زرعها. وان تغافلت عنها فسدت ونبت فيها العشب. والجسد بهذه المنزلة والتدبير في الاغذية والاشربة  ، يصلح ويصح ، وتزكوا العافية فيه...ثم كل يا أمير المؤمنين البارد في الصيف ، والحار في الشتاء ، والمعتدل في الفصلين ، على قدر قوتك وشهوتك وابدأ في أول طعامك باخف الاغذية الذي تغذى بها بدنك ، بقدر عادتك وبحسب وطنك ، ونشاطك ، وزمانك".

 وعلَّق العلامة المجلسي على هذه الرسالة بقوله أنها رسالةٌ مشهورةٌ ونقلها الأصحاب بطرقٍ متعددةٍ، إلاَّ أنه يوجد في النسخة الواصلة إلينا اختلاف كثير فلا يمكن أن يجزم بنسبة كل فقرةٍ في هذه الرسالة إلى الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه) بسبب الاختلاف (5) .

الإمام الرضا عليه السلام عالمٌ من المهد إلى اللحد

بقي الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه) أستاذًا معلمًا من أوائل سني عمره المبارك إلى أن جاءت سنة مائتين ـ أي: إلى أن بقي من عمره الشريف ثلاث سنوات تقريباً ـ فجاءت مسألة ولاية العهد، فانتقل الإمام (صلوات الله وسلامه عليه) من مدينة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى خراسان، وفي هذه الفترة والفترة التي تلتها نُقلت رواياتٌ عديدةٌ وكثيرةٌ عن الإمام الرضا (عليه السلام) في مختلف العلوم، حتى أن الشيخ الصدوق (رحمة الله تعالى عليه) كتب كتابًا بعنوان "عيون أخبار الرضا"، حيث لم ينقل فيه كل الأخبار المروية عن الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه) بل نقل العيون منها فوقع كتابه في مجلدين كبيرين، وكتب الشيخ عزيز الله العطاردي (رحمة الله تعالى عليه) كتابًا بعنوان "مسند الإمام الرضا" يقع في مجلدين كبيرين، جمع فيه ما يربوا على ألفين رواية ، شملت أبواباً وعلوماً متعددة ، منها في العلم والجهل ، و التوحيد، والنبوة ،والإمامة، والمعاد، ومسائل الفقه، والتفسير، و الأخلاق ، والمواعظ ، وكل هذه المرويات أبرزت الجانب العلمي في شخصية الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه).

العامل الثاني : العامل الثقافي

عاش الإمام الرضا (عليه السلام) بعد سنة 150 إلى سنة 203 حيث كانت شهادته (صلوات الله وسلامه عليه)، وخلال هذه الفترة تبدل الواقع الثقافي للمسلمين، فالمسلمون كانوا قبل الإسلام يهتمون بالأدب، ولديهم معلوماتٍ بسيطةٍ حول النجوم وكيفيّة الرعي والزراعة، وهي معلوماتٌ تناسب المجتمع البدوي، ولما جاء الإسلام اهتموا بالعلوم الإسلامية ، كعلوم اللغة ، والتفسير،  والفقه وبعض المعلومات العقدية، ثم لما توسعت الرقعة الإسلاميّة ودخلت ضمن الدولة الإسلامية بلادٌ ذات حضارةٍ مثل بلاد فارسٍ وبعض البلاد التي كانت واقعةً تحت سلطة الروم، احتك المسلمون بالعلوم الحضارية التي يحتاج إليها الإنسان فيما إذا أراد أن يبني حضارةً، كعلوم التنجيم والفلك والجغرافيا والحساب والفلسفة وغيرها، كما احتك المسلمون بدياناتٍ ومذاهب جديدةٍ، كالديانات الثانوية ـ كالديانة المانوية وديانة مزدك ـ واحتكوا أيضًا بالفلسفات الشرقية والغربية كفلسفة الفهلويين ـ قدماء الفرس ـ وفلسفة اليونان أو فلسفة الإسكندرية، وساهم في اتصال المسلمين بالثقافات الأخرى كون ولاء الفرس مع الدولة العباسية، فالعباسيون جعلوا الوزراء وكتاب الدواوين من الفرس، بل جعلوا دولتهم في بغداد وهي قريبة من المدائن عاصمة الساسانيين، ومما نشاهده في تلك الفترة أن أغلب العلماء حتى في اللغة العربية نفسها كانوا من الفرس، كسيبويه و الكسائي و الفراء ،  و سيطرت الثقافة الفارسية حتى في الأدب العربي ، حتى أن توقيعات ملوك فارس كانت تصاغ في قوالب شهرية بسبب وفرة الشعراء من أصول فارسية ووفرة الكتب المترجمة من الأدب الفارسي ، ككتاب كليلة ودمنة واليتيمة والأدب الكبير والصغير ، و هزار أفسانه و كتاب نمرود و روزبه اليتيم وغيرها ، ومن الشعراء الفرس بشار بن برد ، بل إن حماد الراوية ناقل المعلقات وكثير من الشعر الجاهلي كان فارسياً،  ، وكون  الفرس رجال الدولة فتح الباب واسعًا لانسياب الثقافة الفارسية إلى البلاد الإسلامية فترجمت الكتب الفارسية، حيث كان الفرس يعيشون حضارةً وقاموا بترجمة كتب الهند واليونان، ووجد مترجمون فرس وغيرهم ، و قد نقلوا جملة من الكتب إلى اللغة العربية ، وقد ذكرهم ابن النديم في الفهرست ص 224 منهم ابن المقفع ، وحنين بن إسحاق، و محمد بن بهرام بن مطيار الأصفهاني ، وجماعة من المتأثرين بالفكر الوافد يشكلون الطبقة الثانية ، مثل حماد عجرد،  ومطيع إياس، و بشار بناء على صحة نسبة الزندقة إليه ، فهؤلاء يملكون معرفة بالثقافة الوافدة دون ثقافة ابن المقفع ومن في طبقته ، ولكن وُجِد تيار يملك ثقافة جديدة ، سببها ترجمة الكتب ، وكانت بداية الترجمة تقريباً في عهد المنصور سنة 136 ، حيث نقل أن المنصور أصيب بمرض في معدته أعجز أطباء بلاطه ، فاستعان بأطباء جندي سابور ، وكانت مدينةُ عِلْمٍ ، تُدرَس فيها الكتب الهندية والفارسية واليونانية ، وكان فيها بيمارستان( مستشفى ) وفيه أطباء هنود ، ولما نجح أطباؤها في شفائه أمر بترجمة الكتب الموجودة فيها و تعلمها ، وسواء كان هذا السبب أو غيره ، فقد تُرجِمَ منطق أرسطو طاليس و المجسطي في الفلك وغيرهما ، ثم بعد ذلك ترجم كثير من كتب أرسطو و قسطا بن لوقا البعلبكي و الحكم الذهبية لفيثاغورس وكتاب السياسة المدنية لأفلاطون  ، ولم يكن التأثر بهذه الكتب العلمية فقط ، بل كان أيضاً بمعتقدات وأفكار الديانات المختلفة كما أسلفنا ، فوُجِد  تيار  يتبنّى الفكر الوافد، ونشأت الزندقة ، وهي وإن كانت ذات اطلاقات ، واختلف في أصلها هل من ( ذنده كرد) أو ( كرداي) وهي الحياة الدنيا ، فمن يؤمن بهذه الحياة فقط ، وينكر وجود نشأة أخرى ، فهو زنديق، أو من ( زن دين) أي : دين المرأة أو من كتاب ( الزندفسته) ، وهو كتاب للمجوس ينبني على عقيدة الثانوية، وكيف كان فهي فارسيّة الأصل ، وتطلق على من ضلّ متأثراً بالفكر الفارسي ، كالثانوية أو الالحاد، وقد كان للزنادقة انتشار واسع خصوصاً في أواخر القرن الثاني الهجري حتى اتُهم فيه جماعة كبيرة من الناس ، فالحالة الثقافية أوجَدت شريحةً كبيرةً جدًا يعبَّر عنهم بالزنادقة أخذوا يطرحون الفكر الوافد، الأمر الذي دعا بالإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه) إلى أن  يتصدى، و ردة الفعل ينبغي أن تكون بمقدار الفعل ، وبهذا أدرك الناس ما عند الإمام الرضا (عليه السلام) من علمٍ عميقٍ، لأنَّ الثقافة السائدة كانت ثقافةً منتشرةً و دقيقة ،  ذات اصطلاحاتٍ جديدةٍ ونتاجٍ لخبراء لهم تجارب علمية كبيرة ، فلا بد أن تكون ردة الفعل متناسبةً مع المعروض وهذا ما كان  من الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه) ، فوجد  الكثير من أجوبة المسائل ورد الشبهات ، و المناظرات العلمية الدقيقة للإمام (صلوات الله وسلامه عليه) التي سجلت ونقل بعضها في الاحتجاج للشيخ الطبرسي، ج 2 .

مناظرة الإمام الرضا عليه السلام  مع زنديق

ومن أهم مناظرات الإمام ما ينقل أنَّ زنديقًا دخل على الإمام الرضا (عليه السلام) ، فقال له الإمام (صلوات الله وسلامه عليه) القاعدة العقلائية التي يبني عليها المتدين وهي: "إن كان القول قولكم ـ أي لا يوجد إلهٌ ـ وليس هو كما تقولون ألسنا وإياكم شرعًا سواء، لا يضرنا ما صلينا وصمنا وزكينا وأقررنا؟ فسكت الرجل، ثم قال أبو الحسن (عليه السلام): وإن كان القول هو قولنا ـ أي يوجد إلهٌ ـ ألستم قد هلكتم ونجونا؟"

لقد تحدث الإمام (صلوات الله وسلامه عليه) مع الزنديق من خلال القاعدة العقلائية التي تقول :أي إنسانٍ لا يملك دليلًا على عدم وجود الله (سبحانه وتعالى) ، فإن عدم الفرد يستحيل إقامة برهان عليه كما هو مقرر في الفلسفة ، وعليه احتمال وجود الإله والحساب والعقاب قائم فينبغي على العاقل أن يحتاط، فإن احتمال وجود الله (تبارك وتعالى) يقتضي منه أن يراعي هذا الاحتمال لأنه لو كان هذا الاحتمال مطابقًا للواقع فإن النتيجة هي الهلاك.

فقال الزنديق: " فأوجدني كيف هو وأين هو؟" 

فرد الإمام (عليه السلام) سؤاله بالمقولة المعروفة عن أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): "ويلك إنَّ الذي ذهبت إليه غلطٌ، هو أين الأين بلا أينٍ، الكيف بلا كيفٍ، فلا يعرف بالكيفوفية ولا بأينونية ولا يدرك بحاسةٍ ولا يقاس بشيءٍ".

وهذه العبارة المختصرة من لدن الإمام (عليه السلام) اشتملت على أكثر من جوابٍ:

الجواب الأول: إنّ الله (جلَّ شأنه) أحدث الأين، فالأين حادث والله (عزَّ وجلَّ) قبل الأين فلا أين له، لأن الحادث يكون في رتبته ولا يتقدم على وجوده و يكون في رتبة علته ، فهذا تناقض باطل.

الجواب الثاني: إنَّ الزنديق يتصور وجود مساوقةٍ ومسواةٍ بين الموجود والأين فقال له الإمام (عليه السلام) ما تقول في الأين؟ هل للأين أينٌ؟ فإن قلت للأين أينٌ، ننقل الكلام لأين الأين فهل له أينٌ؟ وهذا يلزم منه التسلسل حيث يذهب الأمر إلى ما لانهاية وهذا مستحيل، فالأين لا أين له، ، وإذا كان لا أين له فالقاعدة التي انطلق منها الزنديق، وهي أن لكل موجود أين باطلة ، وليست قاعدة عقلية عامة لانتقاضها بالأين نفسه، فلا ملازمة بين الوجود وبين الأين، ويمكن أن يوجد موجود بلا أين.

وتوجد أجوبةٌ أخرى تُنتَزع من هذه العبارة المختزلة التي قالها الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه) في مقام الجواب على الزنديق.

ما أشبه الليلة بالبارحة

ما حدث في زمن الإمام من وجود طبقة تترجم الفكر الوافد ، وطبقة تتبنى بنصف وعي وتروج له من الأمور التي تتكرر، وذلك بأن يأتي فكرٌ فيقوم بترجمته طبقةٌ من الناس، فتأتي الطبقة التالية التي عندها اهتمامٌ فكري ولكن ليس اهتمامًا علميًا احترافيًا، وإنّما على نحو الهواية ـ وعادة ما تكون هذه الطبقة طبقة الأدباء ـ فيتبنون هؤلاء الفكر الوافد بدون أن تكون عندهم أصالة، فتوجد عندهم نوادي يرفعون فيها الشعارات بدون أن يكون هناك عمق وراءها، فيتأثر البسطاء بهم خصوصاً محبي الأدب.

فهذه الحالة كانت موجودة في زمان الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه) كما أنها موجودة في زماننا، ففي زماننا هناك طبقة ترجمت كتب الغرب، وتوجد طبقة تتلوها لا يوجد عندها اهتمامات تخصصية، ولكن يوجد عندها اهتمام فكري يرتبط بمجال الأدب ـ كجملة من الشعراء ـ أو أي مجالٍ آخر، فيتبنون هذا الفكر من دون أن يكون عندهم عمق ، ويروجون الفكر الوافد تحت مظلة الأدب والشعر بنصف أو ثلث أو ربع وعي ، وإن الدين عميق والوغول فيه ينبغي أن يكون برفق ، ولا نتوقع من شخص يجعل الأدب همه وشغله الشاغل أن يكون بارعاً فيه ، ويملك الحصانة الكافية ، فلكل مضمار متسابقوه.

العامل الثالث : العامل السياسي

لقد تورط المأمون في مسألة ولاية العهد للإمام أبي الحسن الرضا (صلوات الله وسلامه عليه) ، فقد أراد أن يجعل ولاية العهد له عوناً ، ولكن انقلب السحر على الساحر ، فأراد أن يبين ضعف الإمام الرضا (عليه السلام)، فحشد أرباب الديانات ورؤساء المذاهب و الفلسفات ، فوجه المأمون الفضل بن سهل لجمع أصحاب المقالات، ثم دعا الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه) إلى مجلسه بعد أن جمعهم، وبذلك أقام المأمون مؤتمرًا عظيمًا جدًا يحوي قمم الديانات والمذاهب الدينية أو المذاهب الفلسفية، مما هيَّا الفرصة للإمام الرضا (عليه السلام)، وهذا ما يشير إليه قول الإمام (عليه السلام) للحسن بن محمد النوفلي: "يا نوفلي تحب أن تعلم متى يندم المأمون؟ 

قال: نعم.

قال: إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم، وعلى أهل الزبور بزبورهم، وعلى الصابئين بعبرانيتهم، وعلى الهرابذة ـ أي خدمة المعبد المجوسي ـ بفارسيتهم، وعلى أهل الروم بروميتهم، وعلى أهل المقالات بلغاتهم، فإذا قطعت كل صنف، ودحضت حجته، وترك مقالته، ورجع إلى قولي، علم المأمون أن الذي هو بسبيله ليس بمستحق له، فعند ذلك تكون الندامة منه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" (6) وقد وقع كما أخبر الإمام الرضا (عليه السلام)، فقد تقدم رأس الجاثليق ـ الكاثوليك بحسب التعبير الحديث ـ وقطع الإمام (صلوات الله وسلامه عليه) حجته، ثم تقدم عمران الصابي وجرى معه نقاش طويل وفي نهايته يقول الراوي الحسن بن محمد النوفلي: "فلما نظر المتكلمون إلى كلام عمران الصابي وكان جَدِلًا لم يقطعه عن حجته أحد قط، لم يدن من الرضا (عليه السلام) أحدٌ، ولم يسألوه عن شيءٍ"، فظهر تفوق إمام الشيعة في ذلك الزمان على جميع الناس في علمه وبرز عالم آل محمدٍ (صلوات الله وسلامه عليه) .

لم يكن هذا تفوقاً عادياً ، وإنما كان على مستوى قمم أرباب الديانات والمذاهب، وقد بان للناس أن ما يملكه الإمام الرضا علم فريد ، هو بتأييد من الله تعالى .

أسأل الله (تبارك وتعالى) أن يثبتنا وإياكم على ولاية الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه)، وأن يفعلنا بعلومه وأن يجعلنا من السائرين على نهجه والمشمولين بشفاعته، وصلى الله على أشرف خلقه طرًا محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين.

_______

الهوامش

(1) إعلام الورى بأعلام الهدى، ج 2، الفصل الرابع في ذكر طرف من خصائصه ومناقبه وأخلاقه الكريمة عليه السلام .

(2)  تهذيب التهذيب ج 7، ص 387، طبعة مجلس دائرة المعارف النظامية الكائنة في الهند، الطبعة الأولى 1326هـ .

(3) إعلام الورى بأعلام الهدى، ج 2، الفصل الرابع في ذكر طرف من خصائصه ومناقبه وأخلاقه الكريمة عليه السلام .

(4) بحار الأنوار، ج 49، باب عبادته عليه السلام ومكارم أخلاقه ومعالي أموره وإقرار أهل زمانه بفضله، ح 14.

(5) بحار الأنوار، ج 59، باب آخر في الرسالة المذهبة المعروفة بالذهبية .

(6) الاحتجاج، ج 2، احتجاج الرضا (عليه السلام) على أهل الكتاب والمجوس ورئيس الصابئين وغيرهم .