بقلم السيّد بلال وهبي
هل يمكن أن يكون تَدَيّننا انتقائياً، وأعني به أن ننتقي من الدين ما يروق لنا، ونُعرِض عما لا يروق لنا؟
قد يبدو لك هذا السؤال غريباً، خصوصا إذا كنتَ ممن يُسَلِّمون جميع أمورهم للدين ويعتقدون أَنَّه منظومة متكاملة صدرت من رب رحيم خبير حكيم، وأن الخير كله خير الدنيا والآخرة يكمن في الاعتقاد به والالتزام بأوامره ونواهيه التزاما جاداً قائما على المعرفة العميقة بغاياته ومراميه.
لكنك لو تأمَّلت تعامل الأكثرية من المتدينين مع الدين وتفحَّصت سلوكياتهم لوجدت أن تَدَيُّنَ مُعظمنا انتقائي، نأخذ من الدين ما يوافق ميولنا، ونعرض عما لا يتفق معها، وقد استفحلت هذه الظاهرة في الآونة الأخيرة، إنك تجد أشخاصاً يلتزمون بالأحكام الشرعية التي تناسب حالهم ومقامهم، فأما ما يخالف منها أهواءهم وأمزجتهم يتفلتون منها، ويبحثون لأنفسهم عن أعذار تبرر ذلك حتى ولو كانت واهية، بل قد يعمدون إلى تأويل خاطئ لآيات القرآن الكريم، فيحملوها على معانٍ لا تنسجم مع نَصِّ القرآن وروحه، ولا تنسجم مع الدين ومقاصده الكبرى، ويَعمدون إلى تطويع الأدلة الشرعية ولَيِّ أعناقها حتى يخرجوا بحجة على صِحَّة ما يؤمنون به، بل إن بعضهم يدعو لنبذ السُّنَّةِ النبوية الشريفة بادعاء أنه لا يمكن الاستناد إليها باعتبار وقوع التزوير في بعض مروياتها، وبدل أن يُدققوا في الروايات الشريفة فيقبلوا الصحيح ويعرضوا عن السقيم منها، تراهم يرفضونها بالجملة، فرارا من لوازم القبول بالصحيح لعدم تناسبه مع ما يريدون.
إن الدِّينَ ليس مائدة وُضِعَت عليها صنوف الطعام وألوان العصائر وتُرك للآكل والشارب أن يختار ما يستطيبه من طعام وشراب، والدين ليس برنامجاً إذاعيا يقدم ما يطلبه الجمهور، والدين ليس متجراً للألبسة يعرض بضاعته ويترك للشاري أن يختار ما يناسبه من أشكال وألوان وطويل أو قصير من اللباس، الدين منظومة متكاملة تتشكل من عقيدة وشريعة وقيمٍ أخلاقية، ينبثق بعضها من بعض ويؤثر بعضها ببعضها الآخر، وعلى المؤمن أن يأخذ بها جميعا، وليس له الحق في الاختيار والانتقاء، ولو كان الأمر كذلك لصار لكل واحد دينه الخاص، وشريعته الخاصة، وقيمه الأخلاقية الخاصة.
يجب أن لا يغيب عن بالنا جميعاً أن الإسلام هو التسليم المطلق لله، وكمال الخضوع لله، ولولا ذلك لما صَحَّ أن يُطلَقَ عليه اسم الإسلام، فلا يكون إيمان من دون ذلك التسليم المطلق، وهو تسليم إرادِيٌ واعٍ وليس تسليماً غوغائياً رُعاعِيّاً غبياً. يقول الإمام أمير المؤمنين عَلِيٌّ (ع): "لَأَنْسُبَنَّ اَلْإِسْلاَمَ نِسْبَةً لَمْ يَنْسُبْهَا أَحَدٌ قَبْلِي اَلْإِسْلاَمُ هُوَ اَلتَّسْلِيمُ وَاَلتَّسْلِيمُ هُوَ اَلْيَقِينُ وَاَلْيَقِينُ هُوَ اَلتَّصْدِيقُ وَاَلتَّصْدِيقُ هُوَ اَلْإِقْرَارُ وَاَلْإِقْرَارُ هُوَ اَلْأَدَاءُ وَاَلْأَدَاءُ هُوَ اَلْعَمَلُ".
إن الله تعالى يستنكر التَّدَيُّنَ الانتقائي في المجال العقائدي، ويعتبر ذلك كفراً ومن علامات الكفر، يقول تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا ﴿150﴾ أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا " {151النساء﴾.
كما يستنكر التَّدَيُّنَ الانتقائي في المجال التشريعي والالتزام بمقررات الشريعة فيقول: "أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" ﴿85 البقرة﴾
إن القرآن** يُؤَكِّدُ أن المؤمنَ الحقيقي هو الذي يُسَلِّم لأمر الله ويستجيب له بإرادته ووعيه إيمانا يقينياً منه أن الله لا يأمره إلا بما فيه مصلحة لبدنه ولنفسه، مصلحته في دنياه وفي آخرته، مصلحته الفردية ومصلحة مجتمعه، وأنه لا ينهاه إلا عما فيه مفسدة له في كل المجالات الآنفة الذِّكر. قال تعالى: "فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" ﴿65 النساء﴾.
توصيات
1- لا يمكنك أن تَدَّعي الإيمان بالله رباً مُدَبِّراً حَكيماً، ثم تنتقي ما ينسجم مع أهوائك وتعرض عما يتعارض معها، فإما أن تؤمن به حكيما في كل شيء، أو يكشف انتقاؤك عن عدم إيمانك من أصل.
2- أنت تؤمن بحكمة الله في التشريع، لكنك خضوعا لأهوائك تنتقي ما تشاء وتعرض عما تشاء.
3- الدين منظومة متكاملة ولن تستطيع أن تتكامل بها إلا إذا آمنت بها كلها والتزمت بجميع مفرداتها.
السيد بلال وهبي
فجر يوم الجمعة الواقع في: 22/10/2021 الساعة (05:00)