الاستصحاب عند الشيخ العراقي دراسة تحليليّة في آراءه
بقلم حسن راضي
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الكرام الميامين.
أما بعد:
فلا يختلف اثنان فيما لعلم الأصول من أهمية في عملية الاستنباط من حيث أنه يبحث القواعد المشتركة في عملية الاستنباط أو قل أنه يؤمن الحدود الوسطى في عملية الاستدلال على الحكم الشرعي لذا قيل: الأصول منطق الفقه ، والحاجة لهذا العلم في تزايد مطَّرد كلما بعُدَ الفاصل التاريخي بيننا وبين عصر النص .
وتعدُّ مسألة الاستصحاب واحدة من أبرز مسائل علم الأصول التي تؤدي أثرا فعالا في الاستدلال الفقهي، من جهة جريانها في جميع أبواب الفقه من أول باب الاجتهاد والتقليد وحتى آخر باب الحدود والديات .
ولا يقتصر توظيف هذه القاعدة على الفقيه فقط بل قد يحتاجها الأصولي لإثبات بعض القواعد والمباني الأصولية الأخرى كما هي الحال في مبحث البراءة الشرعية التي يكون الاستصحاب احد الأدلة التي يبحثها الأصولي في إثباتها .
ومن جهة أخرى يُعد الشيخ ضياء الدين العراقي (1361هـ) من أبرز رواد المدرسة الأصولية في النجف الأشرف في العصر الأخير، حيث يمثل أحد أهم امتدادات مدرسة الشيخ مرتضى الأنصاري الدزفولي (1214 هـ) مؤسس المدرسة الأصولية الحديثة في النجف الأشرف ، والتي تمثلت في مدارس طلابه الثلاثة (1) الذين أثنيت لهم الوسادة في الفقه والأصول ومنهم شيخنا العراقي .
فأخذاً بكل ما سبق نبحث في هذه الورقة موضوع الاستصحاب بلحاظ مباني الشيخ العراقي فيه وقد انتم البحث في مقدمة تلاها ثلاثة مطالب وخاتمة.
أما المقدمة فهي بين يديك فعلا، وأما المطلب الأول فقد اهتم بدراسة مفردات الموضوع وذلك بالوقوف عند تعريف الاستصحاب لغة واصطلاحا بالإضافة الى لمحة من ترجمة الشيخ ضياء الدين العراقي من حيث نشأته وجهوده العلمية .
وأما المطلب الثاني فقد تكفل بدراسة أدلة حجية الاستصحاب وما يتفرع عليها من كونه أمارة شرعية او أصلا عمليا، في حين تكفل المطلب الثالث بالبحث في تنبيهات الاستصحاب، وجاء بعد ذلك الخاتمة التي لخص الباحث فيها أهم نتائج هذه الورقة البحثية .
وقد اعتمد بالحث على مؤلفات الشيخ العراقي في توضيح مبانيه ولاسيما كتاب مقالات الأصول الذي هو من تأليفه قدس سره، وكتاب نهاية الأفكار والذي هو تقريرات بحث الشيخ العراقي بقلم الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي.
وينبغي التنويه هنا أنّ كلمة (الشيخ) اينما وردت في هذه الورقة المعني بها هو الشيخ ضياء الدين العراقي حيث سيكتفي البحث بها اختصارا .
وختاما لا أدعي تمامية هذا البحث بل الكمال لله وحده وليس للانسان سوى النقصان والغقلة والنسيان فمنه سبحانه اطلب العون وله الشكر في كل الأحوال .
الباحث
المطلب الأول: بيان مفردات الموضوع
نلقي في هذا المطلب نظرة سريعة على أهم تعاريف الاستصحاب بما يكفي لرفع اللبس وبيان المراد منه والذي يختلف باختلاف المباني ولا شك في انّ له أثر واضح في التطبيقات والفروع ، وأيضا نقف في المقصد الثاني من هذا المطلب على ترجمة موجزة للشيخ العراقي للتعريف به قبل الخوض في مبانيه في موضوع الاستصحاب .
المقصد الأول: تعريف الاستصحاب لغة واصطلاحا.
أولاً: الاستصحاب لغة
ذكر اللغويون أن الاستصحاب من طلب المصاحبة أو من الصحبة والملازمة (2) فيقال : (استصحب الرجل : دعاه إلى الصحبة, وكل ما لازم شيئاً فقد استصحبه ) (3) .
و ( اصطحب القوم : صحب بعضهم بعضاَ, واستصحب الشيء : لازمه, واستصحب الكتاب وغيره, حملته صحبتي, ومن هذا قيل استصحب الحال, إذا تمسكت به بما كان ثابتاً, كأنك جعلته تلك الحال مصاحبة غير مفارقة ) (4) .
وعلى هذا يكون الاستصحاب استفعال من (صحِب) (5) ، وهو متحد مع ظاهر العرف العام أيضاً, وهي حالة بين أمرين باعتبار أن احدهما ملازم للأخر, وهي طلب الصحبة من الشيء، بمعنى أخذ الشيء مصاحبا (6) .
ويرى الشيخ العراقي بناءً على ذلك أن استعمال الاستصحاب بمعنى ( إبقاء الشيء على ما كانَ) ضرب من الاستعمال المجازي ،فانما يُطلق الاستصحاب على هذا المعنى بالعناية لا بالوضع (7) .
ثانياً: الاستصحاب اصطلاحا
ذكروا للاستصحاب عدة تعاريف تفاوتت من حيث القيود المأخوذة فيها تبعا لتفاوت المباني في الاستصحاب ومديات حجية وبطبيعة الحال لكل تعريف ذكروه للاستصحاب مجموعة من المناقشات التي يطول بها المقام ، فلا يكاد يخلو واحد منها من النقض والابرام وانما نكتفي ههنا بذكر جملة من تلك التعاريف ولا سيما تعريف الشيخ ضياء الدين العراقي.
1- عرفه المحقق الحلي ( ت : 676 هـ ) بأنه: " ( استصحاب حال الشرع كالمتيمم يجد الماء في إثناء الصلاة ) (8) .
ويلاحَظ انه أخذ الاستصحاب في تعريفه وهو دور غير أنه يمكن أن يُجاب بأنَّه أخذ كلمة الاستصحاب في التعريف بمعناها اللغوي وهو غير المراد بيانه فلا دورَ، وكيف كان فان هذه التعاريف في الغالب تعاريف لفظية لأنها في صدد بيان حقائق اعتبارية، وانما الحدود والرسوم المنطقية من شأن ما يكون بأزائه في الواقع ولا حظَّ للاعتباريات في ذلك ، لذا سيتجنب البحث التعرض لمثل هذه الملاحظات على التعاريف الآتية على الرغم من ان الإشكال بعينه وارد فيها أيضا .
2- تعريف المحقق القمي ( ت 1231 هـ ) حيث قال فيه بأنه: ( كون حكم أو وصف يقيني الحصول في الآن السابق، مشكوك البقاء في الآن اللاحق ) (9) .
وهو كما ترى يشترك مع سابقه في أنه تعريف للاستصحاب من خلال بيان محله وأركانه فهو تعريف لفظي أيضا .
والمراد من الحكم في التعريف هو الوجوب أو الحرمة وغيرهما, أي الأمور الشرعية من الأحكام التكليفية مطلقاً, والمراد من الوصف الأمور الخارجية, كرطوبة الثوب وكرية الماء وكالحياة والزمان وما شابهما .
وذكر أن المقصود من المشكوك هنا ليس الشك المنطقي, الذي هو يتساوى فيه احتمال الوقوع واحتمال العدم (10) ، بل المراد الأعم منه ليشمل التعريف الاستصحاب المستند في حجيته إلى الأخبار .
3- تعريف الشيخ العراقي (1361هـ): قد اتضح من البحث اللغوي للاستصحاب انه (قدس سره) يرى ان الأصوليين قد اخرجوه عما وضع له لغة ليستعملوه في عدة معان في علم الأصول وهذه المعاني ثلاثة وهي كالتالي.
أ- هو " المعاملة مع الشيء معاملة بقائه تعبّدا " وبهذا يكون الاستصحاب هو نفس فعل المكلف حيث أخذ في تعريفه المعاملة ويرى الشيخ العراقي أن هذا التعريف يناسب اشتقاقات الاستصحاب وأن (المستصحِب) بالكسر هو المكلَّف لا الحاكم الشرعي (11) .
ب- هو " الحكم ببقاء الشيء تعبّدا" وبهذا يكون الاستصحاب من الأحكام الشرعية التعبدية حيث أخذ الحكم جنسا في تعريفه، ويرى الشيخ أنّ هذا التعريف يناسب المبنى القائل بعدِّ الاستصحاب من الأحكام الظاهرية، في قبال سائر الأصول العملية التي لا تفيد سوى تحديد الوظيفة (12) .
ت- هو "التصديقي الظني ببقاء الشيء على حاله بقاء حقيقياً" وبهذا يكون الاستصحاب من الأحكام العقلية غير المستقلة، ويرى الشيخ أن هذا التعريف يناسب ما ذهب إليه القدماء من جعل الاستصحاب في زمرة الأدلة العقلية التي هي عبارة عن الأحكام الظنية للعقلية غير المستقلة من قبيل القياس والاستحسان (13) .
تعريف الاستصحاب المختار عند الشيخ العراقي
وأما التعريف المختار عند الشيخ العراقي للاستصحاب فهو تعريف استاذه الشيخ الأنصاري (ت1281هـ) حيث قال في تعريفه بأنه: " إبقاء ما كان" (14) ، فهو أسدّ التعاريف وأخصرها كما وصفه الشيخ العراقي (15) .
أما كونه مختصرا فأوضح من أن يحتاج الى بيان، وأما كونه أسدّ التعاريف فمن جهة كونه: " حاويا لجميع المسالك في الاستصحاب على اختلافها في وجه حجيته (فان الابقاء) الذي هو مدلول الهيئة عبارة عن مطلق الحكم بالبقاء والتصديق به أعم من حكم الشارع وتعبده بالبقاء، أو حكم العقل وتصديقه الظني به ، أو حكم العقلاء وبنائهم (والاستصحاب) المصطلح المقابل للأصول الثلاثة عند القوم برمتهم على اختلاف انظارهم في وجه حجيته، عبارة عن الحكم ببقاء ما كان من حيث إنه كان ( حيث إنه ) على التعبد واخذه من مضامين الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشك ، عبارة عن الحكم الانشائي من الشارع في مرحلة الظاهر وتعبده ببقاء ما علم حدوثه سابقا وشك في بقائه لاحقا (وعلى اخذه) ومن العقل ، عبارة عن ادراك العقل وتصديقه الظني ببقاء ما كان للملازمة الغالبية في الأشياء بين ثبوتها في زمان وبقائها في زمان لاحق عليه ، إذ لا نعني من حكم العقل إلا دركه الوجداني وتصديقه قطعيا أو ظنيا ( كما ) انه بناء على اخذه من بناء العقلاء عبارة عن التزامهم على الجري العملي على بقاء ما كان بملاحظة كينونته في السابق ما لم يظهر لهم ارتفاعه ( فعلى جميع ) المسالك ينطبق التعريف المزبور على الأصل المذكور" (16) .
وبهذا يتضح ان المعاني التي ذكرها اللغويون للاستصحاب وسبق التعرض لها لا شيء منها يماثل المعنى الاصطلاحي له نعم قد تقترب منه بلحاظ بعض الحيثيات لكنها في الجملة ليست نصا فيه، لذا يمكن القول ان المعنى الاصطلاحي للاستصحاب مغاير لمعناه اللغوي ومن هذه الجهة عدّ الشيخ استعمال الاستصحاب بمعنى ( ابقاء ما كان) انما هو استعمال بعناية (17) ، بمعنى أنه استعمال للكلمة في غير ما وُضعت له وبالتالي هو استعمال مجازي.
المقصد الثاني: المحقق العراقي، نشأته وجهوده العلمية.
أولاً: نشأته :
هو الشيخ ضياء الدين ابن محمد كبير العراقي، واسمه (علي) غير انه غَلَب عليه اسم لقب (ضياء الدين) فلم يُعرف باسمه (18) .
وقد وُلِد الشيخ العراقي في بلدة سلطان آباد العراق وهي مدينة (آراك) والتي تقع شرق مدينة قم المقدسة (19) والمعروفة أيضا في أيامنا باسم (عراق العجم).
وكان والده من الفقهاء الأجلاء في عصره فترعرع على يديه برهة من الزمن ثم درس المقدمات على جمع من فضلاء بلاده وهاجر بعدها الى أصفهان وأقام فيها مدة من الزمن ليست بالقليلة حضر خلالها دروس أفاضل علمائها في علوم مختلفة من فقه وأصول وكلامٍ وغيرها (20) .
هاجر بعد ذلك – تحديدا في سنة (1311هـ) الى حاضرة مدينة النجف الأشرف ليُكمل دراسته للعلوم الدينية فيها، وكان لهذه الهجرة أثرها الكبير عليه لما للنجف من مكانة علمية وحضارية، فحضر فيها أبحاث جمع من أعاظم العلماء في الفقه والأصول وعلوم الحديث، والرجال والفلسفة والكلام وغيرها من العلوم الدينية، ومن جملة اساتذته في النجف الأشرف:
- أساتذة الشيخ ضياء الدين العراقي :
1- الميرزا حبيب الله الرشتي ( ت: 1312 هـ ).
2- السيد محمد الفشاركي الأصفهاني ( ت: 1316 هـ ).
3- الميرزا حسين الخليلي ( ت: 1326 هـ ).
4- الشيخ محمد كاظم الخراساني ( ت: 1329 هـ ).
5- السيد محمد كاظم اليزدي ( ت: 1337 هـ).
6- الشيخ شيخ الشريعة الأصفهاني ( ت: 1339 هـ ) (21) .
ثانياً: جهوده وآثاره العلمية
كان المحقق ضياء الدين العراقي معروفا بالنبوغ والذكاء وسعة الاطلاع حتى اعترف له بذلك أعاظم العلماء سواء ممن عاصروه او من تأخروا عنه (22) .
وبعد وفاة شيخه الآخوند محمد كاظم الخراساني (1329هـ) استقل الشيخ العراقي بالتدريس وقد حفل مجلس درسه بعدد كبير من فضلاء عصره لأكثر من ثلاثين سنة، حتى وافاه الأجل في سنة (1361هـ)، وقد رجع إليه في هذه الفترة بعض الناس بالتقليد، فكتب تعليقة على الرسالة العملية للشيخ عبد الله المازندراني (1331هـ) ليأخذ مقلدوه منها فتاواه (23) .
وقد تتلمذ عليه في هذه المدة جماعة من فضلاء عصره منهم:
- تلامذة الشيخ ضياء الدين العراقي :
1- السيد محمد جعفر الجزائري (1350هـ) .
2- الشيخ عباس الطهراني (1360هـ) .
3- السيد محمد تقي الخونساري (1371هـ) .
4- الشيخ محمد حسين المظفر (1381هـ).
5- السيد عبد الهادي الشيرازي (1382هـ) .
6- الشيخ محمد رضا المظفر (1383هـ) .
7- السيد محسن الطباطبائي الحكيم (1390هـ).
8- السيد شهاب الدين المرعشي النجفي (1411هـ) .
9- السيد ابو القاسم الموسوي الخوئي (1413هـ) .
وغيرهم الكثير من الأفاضل مما يرشد الى عظمة هذا الرجل من الناحية العلمية، وفضلا عن كل ذلك للشيخ العراقي مجموعة من الآثار العلمية التي لا تزال تُمَّثلُ مرجعا مهما في علم الأصول لا ينفك يراوده العلماء جيلا بعد جيل ومن جملة تلك الآثار: كتاب روائع الأمالي في فروع العلم الاجمالي، وكتاب الصلاة ، وشرح التبصرة ، ورسالة في اللباس المشكوك، وكتاب أوائل المقالات في علم الأصول، وكتاب استصحاب العدم الأزلي، وحاشية على كفاية الأصول وتعليقات على فوائد الأصول، بالإضافة الى تقريرات بحوثه والتي أهمها كتاب نهاية الأفكار وهو تقريرات بحثه في علم الأصول بقلم تلميذه الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي، وآثار علمية أخرى كثيرة في مختلف العلوم الدينية طُبع بعضها ولا يزال البعض الآخر مخطوطا (24) .
ثالثاً: وفاة الشيخ ضياء الدين العراقي
توفي الشيخ العراقي في ليلة الإثنين الثامن والعشرين من شهر ذي القعدة سنة (1361هـ)، عن عمر ناهز الأربع وسبعين سنة، ودفن في الروضة الحيدرية المشرفة (25) .
المطلب الثاني: حجية الاستصحاب ،حقيقتها وأدلتها .
وقع البحث في حجية الاستصحاب بلحاظ كان التامة تارة وبلحاظ الناقصة تارة أخرى أمّا الأولى فيتم البحث فيها عن أصل ثبوت الحجية للاستصحاب من عدمها، وأما الحيثية الثانية فالبحث فيها يقع من جهة هل حقيقة حجية الاستصحاب هل هي مجعولة من قبل الشارع نظير خبر الآحاد أم أنها ثابتة بدليل عقلي فعلى الأول يكون الاستصحاب أمارة شرعية وبالتالي يكون مفاده حكما ظاهريا، وعلى الثاني يكون امارة عقلية وبالتالي يكون مفاده تحديد الوظيفة العملية للمكلف عند تعذر التوصل للحكم الواقعي او الظاهري.
المقصد الأول: أدلة حجية الاستصحاب
استدل الأصوليون على حجية الاستصحاب بعدة أدلة بعضها لبي يُقتصر فيه على القددر المتيقن كالاجماع وبناء العقلاء والعقل وبعضها الآخر لفظي يمكن العمل ينبغي النظر في اطلاقه وعمومه وما الى ذلك من خواص الأدلة اللفظية ويتمثل بمجموعة من الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وتفصيل الكلام في هذه الأدلة كما يلي (26) :
أولا: دليل الاجماع على حجية الاستصحاب
استدلّ العلامة الحلي على حجية الاستصحاب بالاجماع قائلا في تقرير دلالته: " الاجماع منعقدٌ على أن الانسان لو شكّ في وجود الطهارة ابتداء لا تجوز له الصلاة ولو شك في بقائها جازت له الصلاة، ولو لم يكن الأصل في كل متحقق دوامه لزم إمّا جواز الصلاة في الصورة الأولى، أو عدم الجواز في الصورة الثانية، وهو خلاف الاجماع " (27) .
- مناقشة الشيخ العراقي في دليل الاجماع :
بعد إن نسب الشيخ للعلامة الاستدلال بالاجماع (28) ، ناقش في دلالته على حجية الاستصحاب بنفي أصل تحقق الاجماع في المسألة بتقرير: أن حجية الاستصحاب تمثل معركة للآراء حلفاء عن سلف بين نافٍ للحجية مطلقا ومثبتٍ لها مقيدة او مطلقة، فلا مجال لتوهم قيام الاجماع على الحجية (29) .
نعم يمكن دعوى قيام الشهرة على الحجية أو ما يقرب من الاجماع على حجيته في الجملة أي في خصوص الشبهات الموضوعية في باب الطهارة بل يمكن دعوى اتفاقهم على ذلك إذ حتى القائل بالنفي المطلق من المستبعَد جدا أن يريد عدم الحجية حتى في المورد المذكور (30) ، وذلك لمكان الأخبار الكثيرة الناهية عن نقض اليقين بالشك كما سيأتي لاحقا.
وبهذا يتضح ان الشيخ لم يبتعد كثيرا عمّا ذكره العلامة إذ طبّق الثاني دعوى الاجماع على المورد المذكور بعينه كما سبق من كلامه، نعم عمم الحجية بدعوى نفي الخصوصية وهذا دليل آخر كما لا يخفى، وإلا فالعلامة على دراية بالخلاف الذي ذكره الشيخ العراقي حيث ذكر في أول بحث الاستصحاب من النهاية أن حجيته مثار للاختلاف بين الناس وممن نفى الحجية مطلقا السيد المرتضى (31) .
ثانياً: الاستدلال ببناء العقلاء على حجية الاستصحاب
استدل العلامة أيضا وأكثر من تأخرّ عنه (32) على حجية الاجماع بسيرة العقلاء وذلك بتقرير " أن العقلاء بأسرهم إذا تحققوا وجود شيء أو عدمه وله أحكام مختصة، سوّغوا القضاء بها في المستقبل حتى جوّزوا انفاذ الودائع الى من عرفوا بوجوده قبل ذلك بمدد متطاولة..." (33) ، بل قد يقال أن البناء على الحالة السابقة امر فطري مركوز في نفوس ذوي الشعور من الانسان وسائر الحيوانات (34 ) .
- مناقشة الشيخ العراقي في دليل السيرة .
تابع الشيخ العراقي استاذه الآخوند الخراساني (35) (1329هـ) في المنع من دلالة مثل هذه السيرة على حجية الاستصحاب وذلك لثلاثة نكاتٍ:
الأولى: ان دعوى كون هذه السيرة من فطريات ذوي الشعور من غير الانسان حتى وإن سُلِّمت غير نافعة في المقام من جهة بداهة ان هذه المتابعة منها ليست تعبدية ولا هي بسبب الالتفات الى الاستصحاب انما هي من جهة الاعتياد او الغفلة عن الجهات المزاحمة لقصورها عن ادراكها (36) .
الثانية: أما سيرة العقلاء على متابعة الحالة السابقة فقد منع الشيخ العراقي من كونها من باب الاستصحاب والأخذ بأحد طرفي الشك تعبداً، بل هذه المتابعة ناشئة عن الغفلة عمّا يوجب زوال الحالة السابقة في الغالب، او من جهة حصول الاطمئنان لهم بالبقاء او مجرد الاحتياط ورجاء البقاء او غيرها من المناشىء الأخرى غير الاستصحاب (37) ، ولكن هذه المناقشة لا تخلو من أخذ ورد فالانصاف أن متابعة العقلاء للحالة السابقة مبني على رجوعهم الى الاستصحاب ويظهر ذلك من استقراء حالاتهم .
الثالثة: على فرض تسليم وقوع مثل هذه السيرة واستنادها للاستصحاب دون غيره من مقتضيات المتابعة يبقى من غير المعلوم امضاء الشارع لها بل يكفي في منع اطلاقها لتشمل حتى ما يرجع الى امور الدين والمعاد التشبث بالعمومات الناهية عن العمل بغير علم (39) .
ثالثاً: الاستدلال بالعقل على حجية الاستصحاب
وتقريره بأنّ العلم بتحقق أمر وثبوته في السابق موجب للظن به في اللاحق، لأن البقاء لا يحتاج الى علة جديدة بينما الحادث يفتقر الى ذلك، والمستغني عن العلة الجديدة راجح الوجود بالنسبة الى المفتقر (40) .
- مناقشة الشيخ العراقي في الدليل العقلي
تابع الشيخ العراقي استاذه الآخوند أيضا في المناقشة في هذا الدليل ومنع دلالته على حجية الاستصحاب وذلك من جهة منع اقتضاء مجرّد الثبوت السابق للظن لاحقا، فانه لا وجه عقلي له انما منشأه، أن الغالب فيما ثبت أن يدوم مع إمكان ان لا يدوم (41) .
بل عدّ الشيخ العراقي أن جواب ذلك، صار من قبيل البديهيات الأولية؛ لاشتهار أنّ ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم (42) .
ومن كل ذلك يتضح أنّ الأدلة اللبية التي ذكروها لاثبات حجية الاستصحاب لم يسلم شيء منها من المناقشة والنقض لذي يرى الشيخ العراقي انه لا دليل على حجية الاستصحاب "غير الأخبار الخاصة المشتملة على بعض التعليلات الموجبة للتعدي الى غير موردها" (43) ، وهو ما سيتكفل به البحث في الدليل الرابع.
رابعاً: الاستدلال بالروايات على حجية الاستصحاب
وهي أخبار كثيرة تبلغ حد الاستفاضة وهي العمدة عند الشيخ العراقي (44) ، في اثبات الحجية للاستصحاب يقتصر هذا البحث المختصر على ذكر أهمها:
1- صحيحة زرارة قال: قلت له : " الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء ؟ فقال يا زرارة : قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن فإذا نامت العين والاذن والقلب فقد وجب الوضوء ، قلت فان حرك إلى جنبه شئ ولم يعلم به قال : لا حتى يستيقن انه قد نام حتى يجيئ من ذلك أمر بين وإلا فإنه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك ولكن ينقضه بيقين آخر" (45) .
ولا يضرُّ بها الإضمار لأنّ مضمرها زرارة ومعلوم أنه لا يروي الا عن المعصوم (46) ، والاهتمام بالسؤال عن التفاصيل الدقيقة قرينة أخرى على انّ المسؤول هو المعصوم عليه السلام فمن المستبعد أن يهتم زرارة بالاستفتاء عن التفاصيل من غيره (47) .
وتقريب الاستدلال بها يمكن بيانه من خلال عدة أمور هي:
أ- إن قوله (عليه السلام): " فإنه على يقين..." ظاهرٌ في التعليل، وقضية العلية مناسبة لتعميم اليقين غير المنقوض لكل يقين (48) .
ب- ظهور النص بما يكوِّن قياسا منطقيا من الشكل الأول المقتضي لكلية الكبرى بالنسبة للتطبيق المذكور، بضميمة ظهور الصغرى في بيان حكم كلية اليقين في الوضوء لا خصوص وضوءه الشخصي الجزئي (49) .
2- صحيحة زرارة الأخرى قال: "قلت أصاب ثوبي دم رعاف أو شئ من منيٍ فعلَّمت أثره إلى أن أصيب له الماء فأصبت وحضرت الصلاة ونسيت أنَّ بثوبي شيئا وصليت ثم إني ذكرت بعد ذلك قال: تعيد الصلاة وتغسله، قلت: فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت انه قد أصابه فطلبته فلم أقدر عليه فلما صليت وجدته؟ قال: تغسله وتعيد الصلاة قلت: فإن ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فرأيت فيه قال: تغسله ولا تعيد الصلاة، قلت: ولم ذاك، قال : لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا، قلت: فاني قد علمت أنه قد أصابه ولم ادر أين هو فأغسله قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى انه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارته، قلت : فهل علي إن شككت في أنه أصابه شىء ان انظر فيه، فقال: لا ولكنك إنما تريد ان تذهب الشك الذي وقع في نفسك، قلت: فان رأيته في ثوبي وانا في الصلاة قال: تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع فيه ثم رأيته، وإن لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت وغسلته ثم بنيت على الصلاة لأنك لا تدري لعله شىء أوقع عليك فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك" (50) .
ولا يضر بها الإضمار كما في سابقتها لمعلومية عدم رواية زرارة عن غير المعصوم، وأما تقريب الاستدلال بها على حجية الاستصحاب فخلاصته: ان صدر الرواية وذيلها ظاهر أيضا في تطبيق الاستصحاب على المورد، ولاسيما مع قرينة ابداء الامام (عليه السلام احتمال وقوع نجاسة جديدة حين رؤيتها في الصلاة، فهي ظاهرة في تطبيق الاستصحاب على المورد المقتضي لعدم الإعادة.
وهناك روايات أخرى كثيرة استدل بها الشيخ العراقي تبعا لسلفه من الأصوليين على حجية الاستصحاب لا يتسعها هذا المختصر (51) .
المقصد الثاني: حقيقة حجية الاستصحاب
وقع الاختلاف بين الأصوليين في هل ان الاستصحاب أمارة أم أنه أصل عملي بمعنى هل هي مسألة أصولية أم فقهية (52) ، ولهذا الاختلاف ثمرة مهمة للغاية، حيث على الأول يكون الاستصحاب أمارة شرعية مجعولة الحجية نظير خبر الواحد وبالتالي يكون مؤداه حكما ظاهريا، بينما على الثاني يكون غير مجعول الحجية ويكون مؤداه تشخيص الوظيفة العملية للمكلف عند تعذر التوصل للحكم الشرعي بأمارة شرعية، وبعبارة اخرى على الأول يكون الاستصحاب في عرض سائر الامارات الشرعية بينما على الثاني يكون في طولها.
ومرَدُّ هذا الاختلاف الى أنه لو كان جعل الاستصحاب بمعنى ان الشارع جعل الحكم في فرض الشك المسبوق بالعلم على طبق الحكم الثابت حين العلم فالاستصحاب حينئذٍ يكون أصلاً لان جعل الاستصحاب بناء على ذلك يكون من جهة الجري العملي وبيان الوظيفة العملية في فرض الشك. فلم تكن الجهة الملحوظة والمجعولة هي الكاشفية كما هو الشأن في الإمارات. بل حتى لو قلنا إنَّ الكاشفية كانت ملحوظة ولكنها لم تكن وحدها منشأً للجعل وإنما كان لها دخل في جعل الوظيفة على طبق المتيقَّن السابق فالاستصحاب رغم ذلك يكون من الأصول ولكنه يكون من الأصول المحرزة.
وبعبارة أخرى: " مَن لاحظ في الاستصحاب جهة ما له من إحراز وأنه يوجب الظن واعتبر حجيته من هذه الجهة عده من الأمارات. ومن لاحظ فيه أن الشارع إنما جعله مرجعا للمكلف عند الشك والحيرة واعتبر حجيته من جهة دلالة الأخبار عليه عده من جملة الأصول. وسيأتي - إن شاء الله تعالى - شرح ذلك في محله مع بيان الحق فيه" (53) .
وبصورة عامة قد برز عن هذا الاختلاف ثلاثة آراء في المسألة:
الرأي الاول: أمارية الاستصحاب
وهو مختار بعض المتأخرين من المحققين فقد اختاره السيد الخميني في بعض كتبه وإن عَدلَ عنه لاحقا، قال في كتاب (أنوار الهداية): "أن الاستصحاب فيه جهة كشف عن الواقع، فإن القطع بالحالة السابقة فيه كاشفية عن البقاء، حتى قيل: ما ثبت يدوم، وهذا في الشك في الرافع مما لا مجال للتأمل فيه، نعم في الشك في المقتضي يمكن الترديد والتأمل فيه وإن كان قابلا للدفع، وبالجملة: أن الاستصحاب مطلقا قابل لأن يجعل أمارة وكاشفا عن الواقع بملاحظة اليقين السابق، وليس من قبيل الشك المحض الغير القابل" (54) .
وأيضا ذهب المحقق المشكيني الى أن الاستصحاب قاعدة فقهية محلّ بحثها علم الفقه وليس الأصول، فقال في حاشيته على الكفاية: " اعلم أنّ في إدراج الإستصحاب بمعنى الحكم الباقي في الأصول قولين، الأقوى العدم، وأنّه مسألة فقهيّة يبحث عنه فيها استطرادا، لكثرة مباحثه" (55) .
وفي الجملة هذا الرأي مردود بالمنع من كاشفية الاستصحاب عن الواقع، "لأن اليقين لا يعقل أن يكون كاشفا عن شئ في زمان زواله والمفروض أن زمان الشك زمان زوال اليقين، فكيف يمكن أن يكون كاشفا عن الواقع في زمان الشك؟، نعم الكون السابق - فيما له اقتضاء البقاء - وأن يكشف كشفا ناقصا عن بقائه لكن لا يكون كشفه عنه أو الظن الحاصل منه بحيث يكون بناء العقلاء على العمل به من حيث هو من غير حصول اطمئنان ووثوق" (56) .
نعم لمكان الروايات المتكاثرة التي ترشد للأخذ بالاستصحاب فهو من الاصول الشرعية التعبدية وبهذا يفترق عن الأصول العقلية كالبراءة العقلية مثلاً.
الرأي الثاني: التفصيل
وهو مبنى الشيخ النائيني (1355 هـ) حيث ذهب الى التفصيل بين الاستصحاب الجاري في الشبهات الحمية، وبين الجاري في الموضوعية بجعل الأول مسألة أصولية أما الثاني فقاعدة فقهية وبيَّن ذلك كما في تقريرات بحثه بقوله: " والحقّ هو التفصيل بين الإستصحابات الجارية في الشبهات الحكميّة والاستصحابات الجارية في الشبهات الموضوعيّة، ففي الأوّل يكون الإستصحاب من المسائل الأصوليّة، وفي الثاني يكون من القواعد الفقهيّة" (57) .
الرأي الثالث: أصولية الاستصحاب
بمعنى انها أصل عملي يُبحث في علم الأصول وهو مذهب مشهور الاصوليين ومنهم الآخوند الخراساني وتلميذه الشيخ العراقي، حيث قال: "والتحقيق كونها – مسألة الاستصحاب – من المائل الأصولية .." (58) .
فالاستصحاب عند الشيخ العراقي ليس بأمارة شرعية، وذلك لانه لم يُلاحَظ فيه الحكاية والكشف عن الواقع ولو ناقصاً، هذا من جهة ومن أخرى يقع الاستصحاب وسطاً لإثبات ما ينتهي إليه الفقيه عند عدم انكشاف الواقع لديه بعلم او علمي، غير أنه كما سبق يُعد أصلا عمليا تعبديا نظرا لاستفادة حجيته من النصوص لا من محض العقل .
المطلب الثالث: تنبيهات الاستصحاب
جرت عادة الأصوليين على إلحاق أربعة عشر تنبيها أو أكثر (59) ببحث الاستصحاب يعالجون فيها مائل مهمة تتعلق ببحث الاستصحاب بشكل من الأشكال، وما من شكٍ في أن هذه الورقة المختصرة لا تسع التفصيل في مباني الشيخ العراقي في مسائل جمع تلك التنبيهات، انما سيقتصر البحث على ذكر أهمها وهو الكلام في استصحاب العدم الأزلي .
استصحاب العدم الأزلي (60)
لا إشكال بين الاصوليين في استصحاب العدم الثابت منذ الأزل كعدم زيد ، انما الاختلاف قد وقع في انَّه لو كان ثمّة موضوع مركب من جزءين أحدهما متعنون بعنوان وجودي والآخر متعنون بعنوان عدمي وكنَّا نحرز عدمهما معاً ثم علمنا بتحقق العنوان الوجودي بعد اليقين بعدمه ووقع الشك في ارتفاع العدم عن العنوان العدمي، هل يمكن استصحاب العدم الثابت من الأزل، وبهذا يتحقّق الموضوع المركب بواسطة الوجدان والأصل، فالجزء الاول والذي هو العنوان الوجودي أحرزناه بالوجدان والجزء العدمي أحرزناه بواسطة الإستصحاب، أو انَّ الإستصحاب لا يجري ؟
اختلف الاصوليون في ذلك على عدة آراء يمكن ايجازها بالتالي:
الرأي الاول: جريان استصحاب العدم الأزلي مطلقا
وهو مذهب الآخوند الخراساني والسيد الخوئي (61) ، فهو ظاهر عبارة الشيخ الخراساني في الكفاية حيث قال: " لا يخفى أن الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتصل، لما كان غير معنون بعنوان خاص، بل بكل عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاص، كان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعي في غالب الموارد - إلا ما شذ - ممكنا، فبذلك يحكم عليه بحكم العام وإن لم يجز التمسك به بلا كلام، ضرورة أنه قلما لم يوجد عنوان يجري فيه أصل ينقح به أنه مما بقي تحته، مثلا إذا شك أن امرأة تكون قرشية أو غيرها، فهي وإن كانت إذا وجدت اما قرشية أو غير قرشية، فلا أصل يحرز أنها قرشية أو غيرها، إلا أن أصالة عدم تحقق الانتساب بينها وبين قريش تجدي في تنقيح أنها ممن لا تحيض إلا إلى خمسين..." (62) .
أي إذا وقع الشك بنحو الشبهة المصداقية في ان المرأة المفروضة هل عندما وُجدت وُجد معها الانتساب الى قريش أيضا أولا؟ بمعنى آخر أن انعدام الانتساب الى قريش هل يُستصحب بعد وجود موضوعه استصحابا للعدم الأزلي أم لا يجري فيه الاستصحاب.
فظاهر عبارة الآخوند أن الاستصحاب يجري في المقام على الرغم من أنه لم يخصص له بحثا مفصلا في الفصل الحاص بالاستصحاب من الكفاية انما ذكر عبارته الآنفة استطرادا في بعض مباحث المفاهيم، ولكن هذا التطبيق منه كاف في اثبات المطلوب.
وناقش الشيخ العراقي في رأي استاذه مناقشة مبنائية حيث قال: إن " إلتزام استاذنا العلامة في جريان الاستصحاب وسلب اتصاف المرأة بالقرشية لا يكاد يناسب مبناه من اعتبارية مثل تلك الاضافات والارتباطات" (63) .
الرأي الثاني: عدم جريان استصحاب العدم الأزلي مطلقا
وهو ظاهر عبارة الشيخ النائيني "وذلك لأن العدم النعتى الذى هو موضوع الحكم لا حالة سابقة له على الفرض ليجرى فيه الأصل, وأما العدم المحمولى الأزلى فهو وأن كان مجرى الأصل فى نفسه إلا إنه لا يثبت به العدم النعتى الذى هو المأخوذ فى الموضوع" (64) ، فقد جاء في تقريرات بحوثه قوله: " كما لا يمكن التمسك بالعموم فى الشبهات المصداقية كذلك لا يمكن احراز دخول الفرد المشتبه فى افراد العام باجراء الاصل فى العدم الازلى خلافا لما ذهب اليه المحقق صاحب الكفاية من امكان ذلك حيث قال: ويرد عليه ان الباقى تحت العام بعد التخصيص اذا كان هى المرأة التى لا يكون الانتساب الى قريش موجودا معها على نحو مفاد ليس التامة فالتمسك بالاصل المذكور لادراج الفرد المشتبه كونها من قريش فى الافراد الباقية وان كان صحيحا الّا ان الواقع ليس كذلك لان الباقى تحت العام حسب ظهور دليله انما هى المرأة التى لا تكون قرشية على نحو مفاد ليس الناقصة وعليه فالتمسك باصالة العدم لاثبات حكم العام للفرد المشكوك فيه غير صحيح وذلك لان العدم النعتى الذى هو موضوع الحكم لا حالة سابقة له على الفرض ليجرى فيه الاصل واما العدم المحمولى الازلى فهو وان كان مجرى الاصل فى نفسه الّا انه لا يثبت به العدم النعتى الذى هو المأخوذ فى الموضوع الّا على القول بالاصل المثبت" (65) .
ويبدو والخلاف بين السيّد الخوئي والمحقّق النائيني صغروي حيث انّهما يتّفقان على عدم امكان جريان استصحاب العدم النعتي لإحراز الموضوع المركب من المعروض وعدم عرضه إذا كان عدم عرضه مأخوذاً بنحو العدم النعتي ولم تكن للعدم النعتي حالة سابقة متيقّنة .
انَّما الخلاف بينهما هو انَّ المحقق النائيني (رحمه الله) يدّعي انَّ الموضوع إذا كان مركباً من العرض ومحلِّه أي من المعروض وعرضه فلابدَّ أن يكون العرض قد اخذ بنحو النعتيّة لمعروضه، وهكذا إذا كان الموضوع مركباً من المعروض وعدم عرضه فإنه ظاهر في كون عدم العرض مأخوذاً بنحو النعتيّة، أي بنحو العدم النعتي للمعروض، فالقرشيّة عرض والمرأة معروضه، فإذا كان الموضوع مركباً من المرأة وعدم القرشيّة فلابدَّ من أن يكون عدم القرشيّة مأخوذاً على انَّه نعت للمرأة أي مأخوذ بنحو العدم النعتي، وإذا كان كذلك فلا يمكن احراز الموضوع بواسطة استصحاب عدم القرشيّة، لأنَّه عدم نعتي ليس له حالة سابقة متيقّنة.
وأمّا السيّد الخوئي (رحمه الله) فيدعي خلاف ذلك وانَّ عدم العرض المأخوذ في الموضوع ظاهر في العدم المحمولي أي بنحو مفاد كان التامة، وذلك لأنَّ أخذ عدم الوصف بنحو النعتيّة يحتاج إلى مؤنة زائدة وهي خلاف الظاهر.
الرأي الثالث: التفصيل في استصحاب العدم الأزلي
وهو مذهب الشيخ العراقي حيث فرّق بين نمطين من أنماط الاتصاف:
الاول: لوازم الماهية وذاتياتها، الداخلة في الجعل البسيط للماهية أي التي تكون نسبتها للماهية نسبة كان التامة .
الثاني: النعوت والاعتبارات المضافة للماهية بالجعل التأليفي المركب أي مفاد كان الناقصة.
فيرى الشيخ العراقي ان استصحاب العدم الأزلي يجري في الثانية دون الأولى وذلك لعدم معقولية معنى محصل لسلب الذاتيات ولوازم الماهية عن الماهية حيث لا قوام للماهية من دون قيودها ، وذلك خلافا للنعوت والاعتبارات الأخرى فانه يمكن القول ببقاء عدمها الازلي عند الشك في تلبس الذات الموجودة بها من عدمه أما الذاتيات واللوازم الذاتية فأصل تصور وجود الذات من دونها غير معقول فليس ثمة حالة سابقة يمكن فيها تعقل وجود الماهية دون لوازمها الذاتية .ويبيّن الشيخ ذلك بقوله: ان "ما يمكن سلبه عن الشيء ولو قبل وجوده انما هي اللوازم الزائدة عن حقيقة الشيء اللاحقة لوجوده، دون اللوازم الذاتية الثابتة للشيء في عالم تقرره ومن هنا لا يجري أصل العدم في لوازم الماهية لانها لا تنفك عنها ولو قبل وجودها فلا يكون لها حالة سابقة " (66) .
الخاتمة
1- يرى الشيخ العراقي ان المعنى اللغوي للاستصحاب لا يتوائم مع الاستعمال الاصولي وانما اطلق في الاصول على ابقاء ما كان تجوزاً واستعمالا للفظ في غير ما وضع له .
2- يعدُّ الاستصحاب من أبرز الاصول الشرعية التي يلجأ إليها المجتهد لتحديد الوظيفة العملية عند تعذر التوصل الى الحكم الواقعي بطريق شرعي كاشف قطعي او علمي، ففي حين تشتت المذاهب في الاستصحاب بين من جعله أمارة شرعية ومن جعله أصلا عمليا، يرى الشيخ العراقي انه أصل عملي ولكن تعبدياً وليس عقلياً وذلك من جهة المناقشة في جميع الأدلة العقلية التي سيقت لإثبات حجية الاستصحاب ما خلا الروايات لذا تكون متابعة الاستصحاب من جهة التعبد بالروايات فهي عمدة أدلة حجيته.
3- تعد مسألة استصحاب العدم الأزلي من جملة تنبيهات بحث الاستصحاب التي وقع فيها اختلاف كبير بين الاصوليين، فحيث ذهب البعض الى جريانه مطلقا، ذهب آخرون الى النقيض تماما بالقول بعدم جريانه مطلقا، أما الشيخ العراقي فقد فصّل بين ما اذا كان المشكوك لوازم الماهية او نعوت وإضافات الخارجية فلا يجري في الاول لانه لا يُتعقّل ثبوت الماهية من دونها بينما أجراه في الثاني لتعقل ذلك .
______
الهوامش
______
(1) وهم كلٌ من: الآخوند محمد كاظم الخراساني صاحب الكفاية (1255 هـ)، والشيخ محمد حسين النائيني (1936م)، والشيخ ضياء الدين العراقي (1361هـ) .
(2) ابن السكيت, أبو يوسف يعقوب بن إسحاق (244هـ), ترتيب إصلاح اللغة، ترتيب محمد حسن بكائي، مجمع البحوث الاسلامية، مشهد – ايران، ط1، 1412هـ : 37 .
(3) ابن منظور, جمال الدين محمد بن مكرم (711هـ), لسان العرب، أدب الحوزة، بلا: 1 /520, الزبيدي, محمد بن محمد بن عبد الرزاق (1205هـ), تاج العروس، تح: علي شيري، دار الفكر، بيروت – لبنان، 1414هـ: 2 / 140.
(4) الطريحي, فخر الدين بن محمد (1085هـ), مجمع البحرين، الناشر مرتضوي، طهران – ايران، ط2، 1362ش: 2/ 586.
(5) ظ: البروجردي، محمد تقي، نهاية الأفكار، تقريرات بحث الشيخ ضياء الدين العراقي، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم – ايران، بلا: 4 / 2 .
(6) ظ: المصدر نفسه .
(7) العراقي، ضياء الدين (1361هـ)، مقالات الأصول، تح: الشيخ مجتبى المحمودي – السيد منذر الحكيم، مجمع الفكر الاسلامي، قم – ايران، ط2، 1423هـ: 2 / 334.
(8) المحقق الحلي, جعفر بن الحسن (676هـ), المعتبر، تح: عدة من الافاضل/ اشراف ناصر مكارم الشيرازي، مؤسسة سيد الشهداء، قم المشرفة – ايران، بلا: 1 / 32 .
(9) القمي, أبو القاسم بن محمد حسن (1231 هـ), القوانين المحكمة في الأصول, الناشر إحياء الكتب الإسلامية, قم, إيران, ط1, 1430 هـ: 3 / 122 .
(10) المظفر, محمد رضا (1383هـ), المنطق، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم المشرفة – إيران، بلا : 18 .
(11) ظ: العراقي، ضياء الدين، مقالات الأصول: 2/ 333.
(12) ظ: المصدر نفسه.
(13) العراقي، ضياء الدين، مقالات الأصول: 2 / 333.
(14) الانصاري، مرتضى (ت1281هـ)، فرائد الأصول، تح: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، مجمع الفكر الإسلامي، قم – ايران، ط16، 1434هـ: 3 /9 .
(15) ظ: البروجردي/ محمد تقي، نهاية الأفكار: 4/ 2 .
(16) البروجردي، محمد تقي، نهاية الأفكار: 4/ 2.
(17) العراقي ضياء الدين، مقالات الأصول: 2/ 333 .
(18) الطهراني، آقا بزرك (1389هـ)، طبقات أعلام الشيعة، دار احياء التراث العربي، بيروت – لبنان، ط1، 1430هـ: 3/ 956 .
(19) محمد معين، فرهنك معين، طهران – ايران، بلا: 5/ 114.
(20) ظ: الطهراني، آغا بزرك، طبقات أعلام الشيعة: 3/ 956.
(21) ظ: الطهراني، آغا بزرك (1389هـ), نقباء البشر، دار احياء التراث العربي، بيروت – لبنان، ط1، 1430هـ: 956.
(22) الطهراني، آغا بزرك، طبقات أعلام الشيعة، 3/ 957 .
(23) الخلخالي، السيد مرتضى، قاعدة لاضرر ولا ضرار، تقريرات ابحاث الشيخ ضياء الدين العراقي، تح: السيد قاسم الحسيني الجلالي، مكتب الاعلام الاسلامي، قم المشرفة – ايران، ط1، 1418هـ: 115 (المقدمة).
(24) ظ: الآصفي، محمد مهدي، مقدمة مقالات الأصول: 1 / 24 .
(25) الطهراني، آغا بزرك، نقباء البشر، 3 / 957 .
(26) راعى البحث في ترتيب الادلة بتقديم الاجماع ثم بناء العقلاء ثم الادلة الأخرى ترتيب الشيخ العراقي لها في مقالات الاصول: 2 / 341 – 363، وفي نهاية الافكار: 4/ 33 – 76 .
(27) العلامة الحلي، الحسن بن يوسف (ت726هـ)، نهاية الوصول الى علم الاصول، مؤسسة الامام الصادق (ع)، قم المشرفة – ايران، ط1، 1428هـ: 4/ 366.
(28) ظ: العراقي، آغا ضياء الدين، نهاية الأفكار: 4/ 33.
(29) ظ: العراقي، آغا ضياء الدين، مقالات الأصول: 2/ 341.
(30) ظ: العراقي، آغا ضياء الدين، نهاية الأفكار: 4/ 33.
(31) ظ: العلامة الحلي، الحسن بن يوسف، نهاية الوصول الى علم الأصول: 4/ 363 .
(32) ظ: الشيخ الانصاري، مرتضى (1281هـ)، فرائد الأصول، تح: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، مجمع الفكر الاسلامي، ط16، 1434هـ: 3/ 94 ،حكاه عن الأكثر.
(33) العلامة الحلي، الحسن بن يوسف، نهاية الوصول الى علم الأصول: 4/ 366 .
(34) البروجردي، محمد تقي، نهاية الأفكار: 4/ 33 .
(35) ظ: الخراساني، محمد كاظم (1329هـ)، كفاية الأصول، تح: الشيخ مجتبى المحمودي، مجمع الفكر الاسلامي، قم المشرفة – ايران، ط3، 1433هـ: 2/ 203- 204 .
(36) ظ: الخراساني، محمد كاظم، كفاية الأصول: 2/ 203- 204؛ البروجردي، محمد تقي، نهاية الافكار: 4/ 34؛ العراقي، آغا ضياء الدين: مقالات الأصول: 2/ 341- 342 .
(37) البروجردي، محمد تقي، نهاية الأفكار: 4/ 34.
(38) المصدر نفسه.
(39) العراقي، آغا ضياء الين، مقالات الأصول، 2/ 342.
(40) ظ: العلامة الحلي، الحسن بن يوسف، نهاية الوصول الى علم الأصول: 4/ 367.
(41) الخراساني، محمد كاظم، كفاية الأصول: 2 / 204.
(42) العراقي، آغا ضياء الدين، مقالات الأصول: 2/ 342- 343 .
(43) المصدر نفسه: 2/ 343 .
(44) ظ: البروجردي، محمد تقي، نهاية الأفكار: 4/ 37 .
(45) الطوسي، محمد بن الحسن (ت1460هـ)، تهذيب الأحكام، تح: السيد حسن الموسوي الخرسان، دار الكتب الاسلامية، طهران – ايران، ط3، 1364ش: 1/ 8 .
(46) البروجردي، محمد تقي، نهاية الأفكار: 4/ 37 .
(47) الخراساني، محمد كاظم: كفاية الأصول: 2/ 205 – 206 .
(48) العراقي، آغا ضياء لدين، مقالات الاصول: 2/ 344 .
(49) المصدر نفسه: 2/344 .
(50) الطوسي، محمد بن الحسن (460هـ)، الاستبصار، تح: السيد حسن الموسوي الخرسان، دار الكتب العلمية، طهران – إيران، ط4، 1363ش: 1/ 183؛ تهذيب الأحكام: 1/ 321.
(51) ظ: العراقي، آغا ضياء الدين، مقالات الاصول: 2/ 343 – 360؛ البروجردي، محمد تقي، نهاية الأفكار: 4/ 37 – 87 .
(52) ظ: حيدر عيسى حيدر، المباني الأصولية عند المحقق العراقي دراسة فيما اشتهر به، (اطروحة دكتوراه): 159 .
(53) المظفر، محمد رضا (1383 هـ)، أصول الفقه، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم المشرفة – ايران، بلا : 3/ 18 .
(54) الخميني، روح الله (1410هـ)، أنوار الهداية، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، ط1، 1413هـ: 1/ 110- 111، وسجل في هامش الصفحة المذكورة انه عدل عن هذا الرأي لاحقا الى القول بأنّ الاستصحاب أصل تعبدي وليس أمارة شرعية .
(55) المشكيني الاردبيلي, أبو الحسن (1329هـ), كفاية الأصول، مع حاشية المشكيني، تحقيق الشيخ سامي الخفاجي، دار الحكمة، ط3، 1427هـ: 4/ 382.
(56) الخميني، روح الله، أنوار الهداية: 1/ 110، الهامش رقم 1 .
(57) الخراساني, محمد علي (1355هـ), فوائد الأصول ، تقريرات أبحاث المحقق محمد حسين النائيني، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين، 1404هـ: 4/ 308.
(58) البروجردي، محمد تقي، نهاية الأفكار: 4/ 6 .
(59) ظ: العراقي، آغا ضياء الدين، مقالات الأصول: 2 / 363- 445، البروجردي، محمد تقي، نهاية الأفكار: 4/ 105- 246، جعلها في الأول اربعة عشر وفي الثاني خمسة عشر تنبيها.
(60) بحثه الشيخ العراقي ضمن التنبيه التاسع من تنبيهات الاستصحاب، ظ: البروجردي، محمد تقي، نهاية الأفكار: 4/ 196 – 219 .
(61) ظ: الخوئي، ابو القاسم، أجود التقريرات، تقريرات بحوث الشيخ النائيني، منشورات مصطفوي، قم المشرفة – ايران، ط2، 1368ش: 1/ 465 – 467، الهامش .
(62) الخراساني، محمد كاظم، كفاية الأصول: 1/ 307- 308 .
(63) العراقي، آغا ضياء الدين، مقالات الاصول: 2/ 419 .
(64) حيدر عيسى حيدر، المباني الأصولية عند المحقق العراقي دراسة فيما اشتهر به: 164 .
(65) الخوئي، أبو القاسم، أجود التقريرات: 1 / 465 .
(66) البروجردي، محمد تقي، نهاية الأفكار: 4/ 200 .