القائمة الرئيسية

الصفحات

ما هو سبب غيبة الإمام المهدي (ع) ؟ وما الفائدة من وجوده المبارك غائباً ؟ السيد محمد باقر السيستاني

 

ما هو سبب غيبة الإمام المهدي (ع) ؟ وما الفائدة من وجوده المبارك غائباً ؟  السيد محمد باقر السيستاني

السؤال: ما هي الحكمة في غَيبة الإمام المهدي (عليه السلام) لهذه الفترة الطويلة، وما الفائدة التي تترتب على وجوده (عليه السلام) غائبا عن الأنظار؟

الجواب: لا شكّ - على الإجمال - في أنَّ تغييب الإمام المهدي (عليه السلام) إنَّما كان مجازاةً من الله سبحانه للأمّة بمجموعها على تعاملها مع أهل البيت (عليهم السلام)، كما أنّ فيها امتحاناً واختباراً للمؤمنين الذين يكونون بحقٍ ملتزمينَ بالحقِّ ومستعدّين للتضحية لأجله .

وذلك أنّ الله سبحانه اصطفى من هذه الأمّة مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل بيته (عليهم السلام)، ونبَّه الأمّة على دلائل هذا الاصطفاء في كتابه الكريم المبيَّن بالسنّة النبويّة فقال سبحانه: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } (1) ، وقد جاء عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في السُنّة المتَّفَق عليها أنّه جمع الإمام علي وابنته فاطمة والحسنين (عليهم السلام) ولم يَضمَّ إليهم أحداً من أزواجه أو غيرهن وقال اللّهم هؤلاء أهل بيتي فطهرهم تطهيراً، كما خصّهم - تخصيصاً ذا مغزى - بالمباهلة مع النصارى من دون سائر قرابته وذويه وأصحابه في قوله تعالى: { قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } (2) ، وخَصَّ الإمام علي (عليه السلام) بالتمييز في قوله تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } (3) .

كما أنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أوضح ذلك بالحجة البالغة حيث قرن في حديث مُتَّفَقٍ عليه جاء في خطبة الغدير - قد عُرِف بحديث الثقلين - أهل البيت (عليهم السلام) بالقرآن الكريم، وجعل التمسك بهما معاً صيانة من الضلالة، وقرن أهل بيته بنفسه في الصلاة الخاصّة عليه آمراً بالدعاء له ولهم أن يبارك الله فيهم كما بارك في إبراهيم وآل إبراهيم، حيث آتاهم الله الملك والنبوة والكتاب والحكم.

وأعلَنَ عن الولاية الخاصّة للإمام علي (عليه السلام) على الأمة قُبيل وفاته بشهرين ونصف تقريباً في يوم الغدير في خطبته على الملأ العام ، وأراد أن يكتب ذلك للأمّة في مرض موته فحِيل بينه وبين ما أراد حتى اتُهِم بالهجر فيما عُرِف برزيّة يوم الخميس، كما أبرز مكانة ابنته فاطمة وابنيها الحسن والحسين في أحاديث معروفة مُتّفَق عليها .

ولكن الذي اتفق خارجاً أنّ الأمّة أبعدت أهل البيت (عليهم السلام) عن الصدارة في الحكم والعلم والقدس، وتنكّروا لاصطفائهم، بل صادروا حقوقهم الشخصيّة و اضطهدوهم حتى وقع على الزهراء (عليها السلام) ثمّ على الإمام علي (عليه السلام) ثمّ على الإمام الحسن (عليه السلام) ثمّ على الإمام الحسين (عليه السلام) سيد شهداء هذه الأمّة، ولم يزل الأئمة (عليهم السلام) بعد الحسين (عليه السلام) مقهورين مضطهدين خائفين محبوسين تحت رقابة السلطة حتّى ينتهي بهم الأمر إلى القتل .

حتى إذا بلغ الأمر إلى آخر الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) الذين قدَّرهم الله سبحانه أئمةً هداةً لهذه الأمّة، غيَّبه الله سبحانه جزاءً لجمهور هذه الأمّة على كفرانها بهذه النعمة وظلمها للمصطَفين من عباده واختباراً للقلّة من أهل الصلاح فيهم.

فأشبه حال هذه الأمة بذلك حال بني إسرائيل الذين جعل الله سبحانه فيهم الأنبياء بعد الأنبياء (عليهم السلام)، ولكنهم كادوهم وقتلوهم، حتى كان من أمر يحيى بن زكريا و عيسى بن مريم (عليهما السلام ) ما هو معروف، فرفع الله النبوة عنهم كما رفع النبي عيسى (عليه السلام) إليه بعد أن كادوه وراموا قتله، وقد شُبِّه لهم في ذلك.

وقد أُصِيبَ بني إسرائيل بعد ذلك بالحيرة والشقاق والتفرق والشقاء على ما هو معروف في التاريخ، ولم يزالوا على هذا الحال حتى الزمان الحاضر.

وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض حديثه: ( لتتبعُنَّ سنن الذين مَن قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه ).

إلّا أنّه تعالى لم يرفع الإمام من أهل البيت (عليهم السلام) كما رفع عيسى بن مريم (عليهما السلام) لِمَا اقتضته حكمته من أنْ لا تخلو الأرض من إمامٍ من أهل البيت (عليهم السلام) حتى قيام الساعة على سنّة إلهية عامّة في أنْ ( لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة، إمّا ظاهراً مشهورا أو خائفا مغموراً ) (4) - كما في كلام الإمام علي (عليه السلام) لكميل بن زياد - .

إذن كانت غيبة الإمام (عليه السلام) وفق السنن الإلهيّة في الدين حيث إنه سبحانه إذا واتر حججه إلى الخلق، فجوبهوا بالتكذيب والظلم والاضطهاد، رفع حجته عنهم أو غيَّبها وأوكل الخلق إلى أنفسهم إلى أن يصطدموا بنتائج ما فعلوه فيفيقوا عن سباتهم ويتهيؤوا لاستقبال الحجّة إذا ظهر بينهم وفق مقاديره تعالى.

ولا يدفع ذلك عنهم اهتداء قلّة منهم وتبَصُّرَهم وصلاحهم؛ لأنّ السنن الإلهية في مثلها على النظر إلى الحالة الاجتماعية الغالبة، وقد قال عز من قائل: { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (5) .

ولذلك فإن من المتوقع أن تستمر غيبة الإمام (عليه السلام) - بإذن الله سبحانه . حتى يرى سبحانه تهيؤ الأمة للإذعان به والاستجابة لأمره إذا قَدِمَ إليهم، والتزامهم لنصرته إذا حلَّ فيهم.

وربما توقَّف ذلك على بلوغ نداء الإسلام ودعوته إلى عامَّة الأقوام في الأرض، وبلوغ دعوة أهل البيت (عليهم السلام) إلى جمهور المسلمين على وجهٍ حتى تتهيأ أرضية إقامة الإمام (عليه السلام) لدولته المبنيّة على الدعوة إلى الإسلام واصطفاء أهل البيت (عليهم السلام)، وذلك أمر قد يجد المرء شواهد على تحققه تدريجاً في العصر الحاضر، حيث نجد بلوغ نداء الإسلام بعد أن كان مغموراً في كثير من المِلَل والنِحَل، وبلوغ مذهب أهل البيت (عليهم السلام) إلى كثير من المسلمين كذلك بعد أن كان مغموراً في أوساطهم تماماً .

وقد يشبه ذلك الأمر بعض الشيء بحال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث بعثه الله سبحانه في مكة المكرمة وأمره بالتبليغ للتوحيد في مركز الجزيرة العربية بعد طول تجذّر الشرك حتى بلغت الدعوة وقرعت الأسماع طيلة ثلاثة عشر سنة، ثم أذن له (صلى الله عليه وآله وسلم) في إقامة دولته بالمدينة بعد أن وجد أنصاراً فيها يمكن أن يقوم بالأمر فكان ما كان.

ولعل لانتشار نداء الإسلام ودعوته في جميع الأقوام في الأرض، ومعروفيّة دعوة أهل البيت (عليهم السلام) إلى جميع المسلمين دَخْلٌ في تكوُّن الأرضية المناسبة لظهوره (عليه السلام)، وهو سبحانه أعلم بذلك .

وأما الفائدة المترتبة على وجوده (عليه السلام) غائباً عن الأنظار: فينبغي أن نعلم على الإجمال أن بقاؤه (عليه السلام) إنما كان لسُنَّة إلهيّة حسبما يظهر من مجموع النصوص في أن لا تخلو الأرض من خليفة له فيها منذ خلق آدم (عليه السلام) إلى بلوغ يوم القيامة، فوجود حجة له على الأرض هي سنة إلهية في أن يكون على الأرض من يكون مسددا من السماء، فلا تنقطع العناية الإلهية الخاصة بالنوع الإنساني بعد أن أسكنه في هذه الأرض، ولا يعرض سبحانه عن الإنسان تماما، بل يكون فيهم من هو مرعي منه سبحانه و محل لعنايته ومستوجب لرعايته.

وفي هذا الأمر معانٍ لطيفة متعددة، فهو إكرامٌ للإنسان وإشعار له بعناية الله سبحانه به وعدم إعراضه عنه رغم كفران أكثر الناس لنعمه ومقابلتها بالإهمال والتضييع، كما أنّه تشويق لهم على تتبع الحجّة وإعلام لهم بأنهم متى تهيؤوا لاستقبال الحجة كشف عنه سبحانه الغطاء، فحجته لم يزل ماكثا فيهم ولكن جعل بينه وبينهم غطاء بسبب صنيعهم بحججه، فإذا تبصروا كشف الله عنهم هذا الغطاء، فيكون في وجوده وإبقائه مستمسَكُ رجاءٍ لهم ومحلُّ أملٍ في نفوسهم، ونحو تحفيز لهم على أن يُصلحوا أنفسهم حتى يقوم إليهم.

ولو أن الله سبحانه رفع الحجج المصطفَين من بين أظهر الناس وأعلنَ للإنسان أنّه قد أعرضَ عنه ولم يعد موضع عنايته لعمَّ اليأس وانقطع الرجاء وتوقع نزول الشر والعذاب، وكان ذلك أمراً مخيفاً ومؤلماً حقا.

فكان في إبقاء الحجة حفظاً للارتباط بين السماء والأرض ودلالة على بقاء عناية الله تعالى بالإنسان متى آب إلى رشده وانتهى عن غيّه، وتقويةً لقلوب المؤمنين وإبقاءً للأمل والرجاء وسبباً للانتظار وباعثاً على تحرّي الرشد والهدى .

ولا ضير في أن يكون أثر ذلك وجدواه في قلّة من المؤمنين، فقد غلب الضلال الخلق من قبل حتى قال سبحانه: { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } (6) ولكن الله سبحانه كره أن يَعُمَّ الشر والجهل، ورغِب في أن يكون هناك - بجنب الباطل المنتشر والضلال الغالب - ساقية عذبة تروي الظمآن وتغسل الأدران وتطهِّر النفوس وتحيي القلوب.

و بعد ففي وجود عبدٍ مصطفى من عند الله سبحانه بركاتٌ معنويّة لأهل الأرض، فإنّ العباد المصطَفين هم محلّ بركة الله سبحانه ومساقط غيثه ومنازلُ رحمته وبشائر عنايته وفق سننه سبحانه في خلقه.

ولو أنّ الله سبحانه رفع الإمام المهدي (عليه السلام) عن أهل الأرض بأن توفاه في حينه فإنّ ذلك يعني إعراضه سبحانه عن خلقه وإيكاله إياهم إلى أنفسهم، وانقطاع بركاته عنهم .

وما ذُكِرَ تَلَمُّسٌ لوجه الحكمة في صنع الله سبحانه وفق الاعتبارات التي تظهر من النصوص الشريفة أو تلائمها.

وأمّا تفاصيل الأمور فإنّ علمها عند الله سبحانه، وما كان لمؤمنٍ أن يحيد عمّا قدّرَه الله سبحانه بعد أن تقوم عليه الحجّة مهما صعب الأمر وضاقت الحياة، فإنّ ما يجهله الإنسان أكثر ممّا يعلمه حتى في الأمور الماديّة فكيف بالتخطيط الإلهي العام لحياة الإنسان، وقد قال عز من قائل: { وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً } (7) وقال سبحانه: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا } (8) .

والله الهادي 24 / ربيع2 / 1442.

_______

الهوامش

(1) سورة الأحزاب: آية 33.

(2) سورة آل عمران : آية 61

(3) سورة المائدة : آية 55 .

(4) نهج البلاغة (خطب الإمام علي ع) : 4/ 37 .

(5) سورة الأنفال : آية 25 .

(6) سورة يوسف : آية 103 .

(7) سورة الإسراء : آية 85 .

(8) سورة الأحزاب : آية 36 .

_____

نُشِرَ هذا المقال على قناة المعرفة الدينية على التيليجرام ، وهي قناة مهتمة بنشر كتابات آية الله السيد محمد باقر السيستاني (حفظه الله)