لمحة عن التربية في الاسلام
بقلم محمد رضا الشبيبي رحمه الله
مضى على العالم الاسلامي ردح من الزمن وهم معنيون بتربية نشئهم وتعليمه وفقا لنُظم مختلفة ، بعضها قديم متحجر لا يصل بالأمة الى أهدافها ومُثلها العليا المنشودة في هذا العصر وبعضها حديث قلّدنا فيه نُظُم الغرب حذو القذة بالقذة ، وبعضها يشبه أن يكون وسطاً بين هذا وذلك . وقد بالغ بعض الأقطار الاسلامية في اصطناع نوع من النظم الأجنبية البحتة وقطعوا كل صلةٍ لهم بماضيهم في التربية ، حتى إذا عاد الى الشرق بعض الدارسين في الجامعات الغربية عادوا وهم أعرف بتلك البلاد الأجنبية منهم ببلدهم ، وأدرى بتاريخ الأمم الأجنبية منهم بتاريخ أمتهم وأبرع بالعمل تحت قيادة الأجنبي منهم تحت قيادة المواطنين .
ظنّ بعض المقلدين الظنون بقيمة الجهد الذي بذله المسلمون في هذا المضمار ، وزعموا أنّ القوم ناقلون وأنّ حظهم من الابداع والابتكار أقلّ من القليل ، وتوهموا أنّ التعليم في العصور الاسلامية القديمة آليٌ عقيمٌ يستند الى الحفظ والتكرار ، ولا يخلق مقدرة ما على التفكير والتنظيم وتحمّل أعباء المسؤوليات , وبعدُ فهذه محاولة لتفنيد بعض تلك الظنون الباطلة ، محاولة للدفاع عن بعض الجهد الذي بذله قدامى المربين المسلمين في سبيل غرس أسمى المبادئ والأخلاق في نفوس النشئ وتلقين أدق الآراء والأفكار . وهي الى أن تكون محاولة تأريخية متواضعة أقرب من أن تكون شيئا آخر ، ومع ذلك فمحاولتنا لا تخلو من الموازنة بين مختلف النظم والطرائق التعليمية والتربوية التي عُرِفَت في شطري العالم الاسلامي القديم شرقا وغربا ، فلم تكن أساليب التربية والتعليم في العالم المذكور واحدة ، بل كانت هناك فوارق تميز أساليب المشارقة عن أساليب المغاربة ، وإن لم تكن فوارق أساسيّة في كثيرٍ من الأحيان ، فهذه طريقة عملية واقعية ، وتلك طريقة نظريّة أو مثاليّة ، وههنا نظام ضروري مستقر للتعليم في مرحلته الابتدائية . وهناك منهج للبحث العلمي الدقيق الواسع في مرحلته الجامعية العالية .
قام مجد الإسلام وحضارته على دعائم من التربية هي التربية الاسلامية بمباديها ومقوماتها التي ثابر المربون من المسلمين على غرسها في النفوس . فأخذوا الناس بالصدق في القول والاخلاص في العمل والاستقامة في السلوك ، ودعوا الى الرجولة وضبط النفس والى التعاون والبذل والمفاداة ومجدوا الحرية والمساواة وأكبروا التطلع الى النور والمعرفة فعاشت الأمّة كريمة مرهوبة الجانب ، محبة للنظام تعمل إذا دُعيت للعمل وتقول معلنة رأيها إذا طُلِب منها القول وتبذل إذا أُريد منها البذل والمفاداة .
كانت درجات التعليم في الاسلام كما هي اليوم ثلاثة : ابتدائية واعدادية وجامعية . وعُنِيَ بالعمل في هذه الدرجات وبوضع البرامج والمناهج واختيار الكتب والمواد جهابذة تأصّل فيهم الميل الى ممارسة فن التربية ، وكانت لهم رسالتهم في هذه الناحية ، فمنهم المشارقة الذين نشأوا في العراق والشام والجزيرة وفي فارس وخرسان وما وراء النهر ، ومنهم المصريون والاندلسيون والمغاربة من أهل قرطبة وأفريقية والقيروان ، ولم تكن القيروان دون قرطبة في عصورها الذهبية ، وكانت إليها الرحلة قبل قرطبة والقاهرة من الأقطار المغربية .
هذا ولكلٍ من أهل المشرق وأهل المغرب مجهوده وأثره في التعليم ولكلٍ منهجه واتجاهه الخاص .
المدرسة المغربية
مشارقة ومغاربة . وظهرت دراسات وتعاليق على تلك الرسائل والبحوث ولاشكّ أن عدد منّا اطلع عليها ، ويلاحَظ أنّ جل المربّين المعنيين بالنظر في تعليم الأحداث والصبيان أو بالتعليم في مرحلته الابتدائية أو الأساسيّة ينتسبون الى المدرسة المغربية مدرسة الأندلس والقيروان وافريقيا ثمّ المدرسة المصريّة بعد ذلك ، ونستطيع أن نقول أنّ هذه المدرسة تميّزت بعناية بالغة في هذه الناحية ، وأنّ التوفيق حالف اساتذتها في مجهودهم الذي تجردوا له ، وتخصصوا به في مرحلة أساسيّة ثابتة من مراحل الدراسة وإن أُخِذت عليها – أي على المدرسة المغربية – عيوب منها العناية بالحفظ والتكرار وحشو الذهن بالمحفوظات أكثر من العناية بالبحث والتتبع والاستقراء الى غير ذلك ممّا قد يجعل هذه الطريقة في التربية آليّة عقيمة في كثير من الأحيان وقد لاحظ غير واحد من المعنيين بالبحث في التربية هذا الضعف في منهج المدرسة الغربية وندد بعضهم بالطريقة المتبعة في الأندلس والمغرب من حيث اعتمادها على حشو الذهن بالمحفوظات ، وفضَّل عليها طريقة المشارقة . ومن خصائص مذهب المشارقة التأكيد على الفهم ودقّة الملاحظة وخلق نوع من النشاط والكفاية الذهنية .
هذا مع العلم بأنّ بعض المعنيين بالبحوث النفسية يرون في الاكثار من المحفوظات ما فيه من الفائدة خصوصا بعد نسيانها فإنّ رواسبها باقية لا محالة في العقل الباطن وهي تعمل عملها في تكوين المَلَكَة خصوصا في الفنون الادبية بل في المجالات الثقافية اجمالا . ولابن خلدون ملاحظاته اللطيفة في ذلك وله أيضا مذهبه المعروف في إحراز مَلَكة الأدب والبلاغة والتمكن من ناحية النظم والنثر ، وخلاصته ان قوانين العربية نحوها وصرفها وبلاغتها وبيانها لا تكفي في ذلك وانما تتحصل الملكة بكثرة المحفوظ من مختار كلامهم نثرا ونظماً ثمّ بالمران والممارسة فإنّ ذلك أجدى على الطالب من تعلّم الأصول والقواعد أكثر من الحاجة ، ولذلك نجد كثيرا من جهابذة النحاة ، والمهرة في صناعة العربية المحيطين علماً بتلك القوانين إذا سُئِل في كتابة سطرين الى ذي مودّة او شكوى ظلامة أخطأ وجه الصواب . هذا ما قاله ابن خلدون وقد دلّت التجربة على صحّة ما ذهب إليه في هذه الناحية .
مقارنة بين منهجي مدرسة المغاربة ومدرسة المشارقة
عُنيَت مدرسة المغاربة غالباً بتربية الولدان وتعليم الأحداث وشُغِلَت بوضع واختيار الكتب والمواد لمرحلة الدراسة الابتدائية وهي أمور عُنِيَ بها المشارقة أيضاً ولكن دون عنايتهم بالمراحل الجامعية العالية فإنّ عناية المشارقة بالتعليم الجامعي لا تدانيها عناية .
وضع محمد بن سحنون وهو من أعلام المغاربة في أواسط المائة الثالثة كتاباً مشهوراً سمّاه " آداب المتعلمين " وقد عوّل عليه من جاء بعده ، أو ألَّف في تعليم الأحداث ، فلابن سحنون فضل السبق في هذا الشأن ، وتلاه القابسي القيرواني من أعلام أواسط المائة الرابعة في المغرب ، وهو مؤلف كتاب سمّاه ، " الرسالة المفصّلة لأحوال المعلمين والمتعلمين " نقل فيه عن ابن سحنون .
ويتميز كتاب القابسي بالتبسيط فهو أوسع الكتب المصنَّفة في تعليم الأحداث بل هو الأصل الذي يعوّل عليه في فهم المنهج المتّبع في تعليم الولدان خلال المائة المذكورة . ومن رأي بعض الباحثين انه أكْمَلُ كتابٍ أُلِّف في التربية الاسلامية . والكتاب عبارة عن أسئلة وأجوبة في علم القرآن وتعليمه وكيف ينبغي أن يُعلَّم الصبيان ، وفيما ينبغي أن يُضاف الى تعليم القرآن من مواد أخرى إذ أنّ للمربّين المسلمين في المواد التي تُضَاف الى تعليم الكتاب الكريم أقوالاً مختلفة ومناهج منوَّعة ، فالمربون الاندلسيون لا يرون حرجا في أخذ حصّة من الشعر والأدب والكتابة والحساب مع ذلك ، وبعض محدثي القيروان وأفريقية وخصوصاً الطبقة القديمة منهم يفضّلون الاقتصار على القرآن أوّلاً ثمّ بعد ختمه وتعلّمه يشرعون في تعليم الشعر والأدب والكتابة . وقد ناقش ابن خلدون هذا الموضوع وقارن بين الرأيين وخرج من ذلك بترجيح مذهب القائلين بالاقتصار على تعليم القرآن في مرحلة الحداثة .
وفي عصر القابسي القيرواني أي في المائة الرابعة وجه المحدث ابن عبد البر القرطبي وهو مؤلف رسالة سمّيت " جامع اشتات العلم وفضله " . والمؤلف مقيّد بمنهج سلفه من أهل الحديث . ولا شكّ أنّ الالتزام بمنهج المحدثين في التربية أفضى الى نوعٍ من الجمود .
وجاء بعد هذه الطبقة برهان الدين الزرنوجي (1) وهو تركي النجّار من أهل ما وراء النهر بل هو الوحيد من المشارقة في انتهاجه ذلك النهج في تعليم الصبيان وقد خصّ هذا الموضوع برسالة سمّاها " تعليم المتعلّم طريق التعليم " استفاد منها المعلمون والمربون في الأقطار التركية الواقعة فيما وراء النهر وبقية البلدان الاسلامية . وتتضمن رسالة الزرنوجي هذه وصايا قيّمة للمتعلمين من ذلك قوله : " ينبغي لطالب العلم أن يكون مستفيدا في كل وقت ، وطريق الاستفادة أن يكون معه في كلّ وقت محبرة حتّى يكتب ما يسمع من الفوائد العلميّة ، قيل : ما حُفِظ فرَّ وما كُتِبَ قرَّ " . ومع ذلك لا نعرف شيئا يُعتدّ به عن سيرة الشيخ الزرنوجي ولم نعثر له على ترجمة وافية بالمرام ، ومردّ ذلك الى أنّه كان غاية في انكار الذات ميّالاً الى العزلة والخمول ، وخَطَرُ رسالة الزرنوجي يتأتى من ناحية استناده الى النصوص والى طريقته التطبيقية ، ويُلاحَظ أنّه يعزز آراءه بشواهد وأمثلة غير قليلة شأن المربي الحريص على الاستعانة بوسائل العمل والمشاهدة فإذا عزز رأيه بمثال من حكاية أو واقعة أراد أن يتمثّل الطالب أو القارئ تلك النماذج والأمثلة لينسج على منوالها في التعليم أو في التربية . والخلاصة هذه الرسائل عبارة عن برامج اسلاميّة ومناهج شرعيّة في التربية مضافا إليها وصايا وإرشادات وإفادات شتّى أسداها هؤلاء المؤلفون ، والواقع أنهم أجزل الله ثوابهم أصابوا الأهداف في برامجهم ، فهي برامج وضعها مربون بكلّ ما في هذه الكلمة من معنى بالنسبة الى العصور المذكورة وسدّوا بها حاجة السواد الأعظم من الناس ، وقد رُعِيَتْ فيها ولا شكّ بعض الحقائق المقررة في علم النفس ، فإنّ خبرة هذه الطبقة بدخائل النفس البشريّة اجمالاً ممّا لا شكّ فيه ولو كانت خبرة محدودة . ومن هذه الناحية رأيناهم يؤكدون على ضرورة التدرّج في مراحل التعليم واستخدام الرفق واللطف وتجنّب العنف مع الولدان وسائر المتعلمين ، وانتهاج طريقة ترغيب دون الترهيب ولهم في باب مراقبة أحوال الصبيان ، والمتعلمين وملاحظة استعدادهم ومواهبهم الفطرية نصائح حسنة هذا من جهة وفي وسعنا من جهة أخرى تقسيم جهابذة التربية في العالم الاسلامي الى ثلاث طبقات .
[ طبقات علماء نُظُم التربية والتعليم في العالم الاسلام ]
الطبقة الأولى : طبقة الفقهاء والمحدّثين وإليها ينتمي أكثر المربين من المغاربة وقد امتازت برامجها في تربية الأحداث ، الصبيان لكونها برامج واضحة مفهومة لا لبس فيها ولا تعقيد .
الطبقة الثانية : النُظَّار والفلاسفة وإليها ينتمي جمهرة المربّين المشارقة ، ولا تخلو بعض مناهجهم من تعقيد أو غموض .
الطبقة الثالثة : طبقة المتصوّفة وفي مناهجهم وطرقهم كثرة ، ويُعنَى المتصوّفة على علّاتهم بتربية الراشدين .
محمد رضا الشبيبي
بغداد
المصدر :
نُشر هذا المقال في مجلة الأضواء الاسلامية / السنة السادسة / العدد الأوّل / رجب 1385هـ / تشرين الثاني 1965م / ص 24 – 29 / وهي مجلة كانت تصدر في النجف الأشرف .
________
الهوامش
(1) زرنوج والمشهور في اسمه " زرنوق " بالقاف بلد مشهور بما وراء النهر بعد " خنجند " من أعمال تركستان ، هكذا قال ياقوت في معجم البلدان ، ولم يذكر السمعاني هذه الكلمة في كتاب الأنساب .