القائمة الرئيسية

الصفحات

أهميّة الاطلاع على بيئة القرآن الكريم في فهمه الصحيح | السيد محمد باقر السيستاني (دام عزه)

أهميّة الاطلاع على بيئة القرآن الكريم في فهمه الصحيح | السيد محمد باقر السيستاني (دام عزه)
 

أهميّة الاطلاع على بيئة القرآن الكريم في فهمه الصحيح | السيد محمد باقر السيستاني

الأمر السادس: في أنّ تفسير القرآن الكريم يقتضي الاطلاع على بيئة نزول القرآن، وذلك بالنظر إلى أنّ كل نص يتفاعل مع السياق الذي يولد فيه هذا النص ويتفاعل معه، وتمثل العناصر المكوّنة لهذا السياق من جملة العناصر الدلاليّة الحافّة بالكلام والتي تُكوِّن معه وحدة متكاملة، ويسمّى مثلها بالقرائن الحاليّة والمقاميّة، وهذه القاعدة تنطبق بطبيعة الحال على القرآن الكريم، فلا بدَّ في تفسير القرآن الكريم من الوقوف على البيئة التي نزل فيها.

وتتكون تلك البيئة من عناصر عامّة وأخرى خاصّة..

[ العناصر العامة في بيئة نزول القرآن الكريم ]

أما العناصر العامّة: فهي الاعتقادات والتشريعات والأعراف السائدة في الوسط الاجتماعي الذي نزل فيه القرآن الكريم؛ لأنّ هذا النص كلام نزل مخاطِباً هذا الوسط مصحِّحاً ومعلِّقاً على ما كان سائداً في تلك البيئة الاجتماعية، ومن ثمَّ فإنَّ من الطبيعي أن يتوقَّف فهم كثيرٍ من العناصر الدلاليّة للنص والخصوصيات التعبيرية فيه ومقتضيات سَوق الكلام على الالتفات إلى ما كان رائجاً آنذاك، ولن يُفهَم الكلام حقَّ فهمه إلّا بالانتقال إلى تلك الأجواء.

وقد تضمَّنت كتب التفسير واللغة والتاريخ شيئاً كثيراً من العقائد والأعراف الرائجة في الجزيرة العربية التي هي مهد نزول القرآن الكريم، كما يجده الباحث في كتاب (المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام)(1).

والواقع أنَّ القرآن الكريم بنفسه هو أهمُّ مصدرٍ يكشف عن تلك العقائد والتشريعات سواءً من خلال الحكاية الصريحة لتلك الأمور السائدة في مقام مناقشتها وتصحيحها وترشيدها، أو بدلالة غير صريحة؛ لأنَّ في لحن الكلام القرآني دلالة على الفكرة التي كان القرآن الكريم ناظراً إليها، خصوصاً مع الالتفات إلى بلاغة القرآن؛ لأنَّ الكلام البليغ يأتي مطابقاً لمقتضى الحال، ويُقدِّر الأمور بقدرها وينبِّه بخصائصه بطبيعة الحال على ما كان يجري في بيئته.

وأما المعلومات التي ترد من طرق أخرى فهي ليست بتلك الدرجة من الثقة ؛ بل فيها من الأساطير والمبالغات والموضوعات شيء غير قليل.

ومن ثَمَّ فإنّنا نستطيع أنْ نكتشف ما كان في بيئة القرآن الكريم - من العقائد والأعراف والتشريعات السائدة - من خلال القرآن الكريم نفسه إلى حدٍ كبير، وفي حالاتٍ أخرى يكون انسجام المعلومة التاريخية التي ترد من الطرق الأخرى - مع النَفَس القرآني واللحن القرآني موجباً للوثوق بتلك المعلومة

ولذلك نلاحظ أن الباحث المذكور عوَّل في كتابه المفصّل في مقام استكشاف كثير من المعلومات المتعلقة ببيئة العرب قبل الإسلام على نفس القرآن الكريم وشروحه وتفاسيره وما احتفَّ به من الأحاديث النبويّة؛ فكان القرآن بذلك أهم مصدر حافظ لتاريخ العرب بشكل موثوق و ممثِّلاً لما كان يسود في البيئة العربية من عقائد و أفكار.

[ العناصر الخاصّة في بيئة نزول القرآن الكريم ]

وأمّا العناصر الخاصّة: فهي ما يتفق أحياناً من نظر النصّ إلى قولٍ أو حادثةٍ خاصة اتفقت فعلَّق النص عليها، وتلك ممّا يتّفق كثيراً؛ حيث يشير النص إلى قول أو حادث ويعلق عليه، فالاطلاع على ذلك يساعد على فهمٍ أدقّ للنصّ بطبيعة الحال، ويعبّر عن هذه العناصر في تعبير المفسرين بـ (شأن نزول الآية).

وقد ذكر مؤرّخو السيرة النبوية والمفسرون في كثيرٍ من الآيات القرآنية شأن نزولها، حتى أُلِّفت كتُب خاصّة في هذا السياق. وما جاء من ذلك ينفسم إلى قسمين

أحدهما: ما كان من قبيل الحوادث التاريخيّة المعروفة التي رُصدت في السيرة النبويّة، مثل الحروب والغزوات المعروفة.. وهذا القسم يكون موثوقاً عادةً.

وثانيها: ما يرد في بعض الأخبار الخاصّة من ذكر وقائع على أنّها كانت سبب نزول الآية

وينبغي الالتفات في شأن هذا القسم إلى أنّه لم يَرِد كثيرٌ ممّا يندرج فيه بإسناد موثوق ومضمون وملائم شيء، كما كان بعض ما أُثِر من ذلك على وجه الحدس والتظنّي دون الإخبار والنقل التاريخيّ، وربما اختلفت الأقوال في شأن تزول الآية.

والواقع: أنّ القرآن الكريم في كثير من الحالات هو أوثق کاشف عن سبب نزوله (کا ذکرنا مثل ذلك في الحديث عن بيئته العامة)؛ لأنّه - فضلاً عن اهتمامه بذكر ما يُعلِّق عليه صريحاً من حوادث وأقوال في كثيرٍ من الحالات بصيغة (قالوا) ونحوها بنوع تعليقه على الموقف - يشير إلى طبيعة ما اتّفق من حوادث أو قيل من أقوال؛ ومن ثمّ فهو نصّ شبه كامل من هذه الجهة في أغلب الحالات؛ لأنّ التمعّن فيه والتفطّن لخصوصيّاته وسَوقه يكشف عن مشهدٍ مكتمل لما كان يجري في حينه مما يغني من الاعتماد على مصدر آخر.

كما إنّه في حالات أخرى يوجب الوثوق بما رُوي في الأخبار في شأن النزول ولو على وجه تقريبي من جهة ملاءمته مع الآيات، وقد يوجب الريبة فيما يرد من جهة عدم ملاءمة خصائص الآيات مع ما جاء.

[ مديات مدخليّة بيئة النزول في فهم النص ]

هذا، والمقصود من هذا الحديث: أنّهُ لا بدَّ للمفسر من الالتفات إلى بيئة نزول النصّ القرآني، واستنطاق القرآن الكريم عمّا كان سائدا في بيئته، والاطلاع على المعلومات الملائمة التي تشرح العقائد الجارية في تلك البيئة.. فهذه - أيضاً - أداة من الأدوات التي تساعد على تفسير القرآن الكريم.

على أنّه ينبغي الالتفات إلى أنّ ملاحظة بيئة النصّ في مقام تفسيره لا تعني حصر مدلول النصّ بتلك البيئة بالضرورة، لوجهين:

الأوَّل: أنّه قد تضمّن النصّ فكرة عامّة وشاملة لغير موردها بمناسبة سبب يقتضي إلقاءها؛ ومن ثم قال الأصوليون: إنّ المورد لا يخصّص الوارد بالضرورة.. وهم يعنون بذلك: أنّ ورود النصّ في موردٍ خاصٍّ لا يقتضي محدوديّة مؤداه بذلك المورد.

الثاني: أنه يمكن الارتقاء من خصوصيّة النصّ بالنظر المَثَلي إلى مضمون الآية كما سبق شرح ذلك.

__________

الهوامش

(1) تأليف المؤرخ العراقي جواد علي، ويعتبر أضخم عمل أكاديمي في تاريخ العرب و الجزيرة العربية في فترة ما قبل ظهور الإسلام 

(ملاحظة1: تم استلال هذا البحث من مجموعة محاضرات ألقاها آية الله السيد محمد باقر السيستاني (حفظه الله) في النجف الأشرف في تفسير القراآن الكريم / المحاضرة الثانية / القسم 1 / ليلة الأربعاء /2 شهر رمضان المبارك /1440هـ)

(ملاحظة2: العناوين المحصورة بين القوسين المزدوجين [  ] وضعناها لتسهيل مراجعة البحث وليست في المصدر)