القائمة الرئيسية

الصفحات

جهات إعجاز القرآن الكريم | الشيخ محمّد جواد البلاغي (قدّس سرّه)

وجوه إعجاز القرآن الكريم  الشيخ محمد جواد البلاغي
المعجز هو الذي يأتي به مدّعي النبوّة بعناية الله الخاصّة خارقاً للعادة وخارجاً عن حدود القدرة البشريّة وقوانين العلم والتعلّم ليكون بذلك دليلا على صدق النبيّ وحجّته في دعواه النبوة ودعوته

وجه شهادة المعجز

ودلالته على صدق النبيّ في دعواه ودعوته ليس إلّا أنّ مدّعي النبوّة إذا كان ظاهر الصلاح موصوفاً بالأمانة معروفاً بصدق اللّهجة والاستقامة لا يخالف العقل في دعوته وأساسيّاتها لم يجز عقلاً إظهار المعجز على يده إلّا إذا كان صادقاً في دعوى النبوّة ودعوتها. ألا ترى أنَّه لو كان مع صفاته المذكورة كاذباً في دعواه لكان إظهار المعجز على يده وتخصيص الله له بالعناية إغراء للناس بالجهل وتوريطاً لهم في متاهات الضلال. وهذا قبيح ممتنع على جلال الله وقدسه.
توضيح ذلك
هو أنّ الناس بحسب فطرتهم التي لا تدنّسها رذائل الأهواء والعصبيّة إذا ظهر لهم صلاح الشخص وصدقه وأمانته واستقامته فيما يعرفونه من أحواله وأطواره توسموا بباطنه الخير وأنّ باطنه موافق لظاهره في الصلاح. وكلّما زادت خبرتهم بصلاح ظاهره زاد وثوقهم بصلاح باطنه. إلّا أنّه مهما يكن من ذلك فإنّه لا يبلغ بهم مرتبة العلم وثبات الاطمئنان بعصمته عن الكذب في دعواه وتبليغات دعوته فلا ينتظم تصديقهم له ولا يدوم انقيادهم إلى تبليغاته في دعوته. بل لا يزال اختلاج الشكوك يميل بهم يميناً وشمالاً. لكن إذا خصّته العناية الإلهية بكرامة المعجز وخارق العادة حصل العلم الثابت واطمأنت النفوس السليمة بصدقه وعصمته في دعواه وما يأتي به في دعوته. ويثبت اليقين وينتظم امره بالنظر إلى أنّه يمتنع على جلال الله وقدسه في مثل هذه المزلقة ان يُظهر المعجز وعنايته الخاصة على يد الكاذب المدلّس بصلاح ظاهره. فإنّ إظهار المعجز حينئذ يكون مساعدة للمدلّس على تدليسه ومشاركة له في اغوائه وإغراء للناس في الجهل الضار المهلك. وذلك لما ذكرناه من مقتضى فطرة الناس السليمة. فالمعجز الشاهد بصدق النبيّ في دعواه ودعوته هو ما يقوم بما ذكرنا من الفائدة في مثل ما ذكرناه من المقام والوجه.

حكمة تنوّع المعجز

ولا يخفى أنّ حصول الفائدة المذكورة من تنوّع المعجز المذكور يختلف كثيراً بسبب اختلاف الناس في أطوارهم ومعارفهم ومألوفاتهم. فرُبّ خارق للعادة يعرف بعض الشعوب أنّه خارق للعادة لا يكون إلّا بإرادة إلهيّة خاصّة ويكون في بعض الشعوب معرضاً للشكّ او الجحود لإعجازه وخرقه للعادة.
كان في عصر موسى النبي (ع) من الرائج بين المصريين صناعة السحر المبتنية على قوانين عاديّة يجري عليها التعليم والتعلم. فكانوا يعرفون ما هو جارٍ على نواميس هذه الصناعة وما هو خارج عنها وعن حدود القدرة البشرية. ولأجل ذلك اقتضت الحكمة أن يحتجّ عليهم بمعجزة العصا التي ألقاها موسى (ع) أمام أعينهم فصارت ثعباناً تلقف ما يأفكون ويسحرون به الناس من الحبال والعصي ثم رجعت بعد ذلك عصاً كحالها الأوّل ولم يبقَ لحبالهم وعصيّهم عين ولا أثر فإنّهم بسبب معرفتهم لحدود السحر عرفوا أنّ أمر العصا خارج عن صناعة السحر وعن حدود القدرة البشريّة ولذا آمن السحرة بأنّ أمرها من الله تعالى.
وكانت فلسطين وسوريا في عصر المسيح مستعمرة لليونان وفيها منهم نزلاء كثيرون. فكان للطبّ فيها رواج ظاهر وكان في الفصل الثالث عشر والرابع عشر من سفر اللاويين من التوراة الرائجة تعليم طويل في تطهير القرع والبرص والقوبا بنحو يختص بروحانية الكهنوت ويوهم أنّه من بركات الكهنة والآثار الرّوحية وإن كان من نحو الحَجْر الصحّي فلأجل ذلك كانت معجزات المسيح بشفاء الأبرص والأعمى والأكمه ممّا يعرفون أنَّه خارج عن حدود الطبّ ومزاعم الكهنة وقدرة البشر ومن خارق العادة التي لا يكون إلّا بقدرة الله تعالى.

حكمة كون المعجز للعرب هو القرآن الكريم

وأمّا العرب الذين ابتدأت بهم دعوة الإسلام في حكمة سيرها في الإصلاح فقد كانت معارفهم نوعاً منحصرة بالأدب العربي وكانوا خالين من سائر العلوم والصنائع الخاضعة للعلم والتعلم. فلم يكونوا يميزون حدودها العاديّة بحسب موازين العلم والتعلّم وأسرار الطبيعيات المنقادة بقوانينها للباحث والممارس والمتعلم والمجرّب والمكتشف والداخلة تحت سيطرة العلم والتعلم. فلا يعرفون من الأعمال ما هو خارج عن هذه الحدود وخارق للعادة ولا يكون إلا بإعجاز إلهيّ.
فكل عملٍ معجز من غير الأدب العربي بمجرد مشاهدتهم له او سماعهم به يسبق الى أذهانهم ويستحكم في حسبانهم أنّه من السحر او من مهارة اهل البلاد الأجنبية في الصنائع وتقدّمهم في العلوم واسرار الطبيعيات وقوانينها. ولا يذعنون بأنّه معجز إلهي بل يسوقهم شك الجهل الى الجحود خصوصاً إذا كان ذلك يحتجّ به النبيّ على دعوى ودعوة ثقيلتين على ضلالتهم باهظتين لعاداتهم الوحشية وأهواء الجهل.
نعم برعوا بالأدب العربي وبلاغة الكلام التي تقدّموا فيها تقدّماً باهراً حتّى قد زهى في عصر الدعوة روضه الخميل وأينعت حدائقه وفاق مجده وقرّروا له المواسم وعقدوا المحافل للمفاخرة بالرقيّ فيه. فرَقت بينهم صناعته إلى أوج مجدها وزهرت بأجمل مظاهرها وأحاطوا بأطرافها وحدّدوا مقدورها. فعاد المرء منهم جدّ خبير بما هو داخل في حدود القدرة البشرية وما هو خارج عنها ولا يصدر على لسان بشر ابتداءً إلّا بعناية إلهيّة خاصّة خارقة للعادة البشرية لحكمة إلهية شريفة
ولذا اقتضت الحكمة الإلهيّة «ولله الحكمة البالغة» أن يكون القرآن الكريم هو المعجز المعنوَن والذي عليه المدار في الحجّة لرسالة خاتم النبيين وصفوة المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين. فإنّه يكون حجّة على العرب باعجازه ببلاغته وبعجزهم عن الإتيان بمثله أو بسورة من مثله. وبخضوعهم لإعجازه وهم الخبراء في ذلك يكون أيضاً حجّة على غيرهم في ذلك. وأنَّه هو الذي يدخل في حكمة المعجز والاعجاز في شمول الدّعوة للعرب وابتدائها بهم بحسب سيرها الطبيعي على الحكمة وبه تتمّ فائدة المعجز على وجهها.

امتياز القرآن الكريم عن غيره من المعجزات

مضافاً إلى أنَّه امتاز عن غيره من المعجزات وفاق عليها بأكبر الأمور الجوهرية في شؤون النبوّة والرّسالة ودعوتها «فمن ذلك» انه باقٍ مدى السنين ممثل بصورته ومادّته لكل من يريد أن يطّلع عليه ويمارس أمره وينظر في أمره ويعرف كنهه وحقيقته. فهو باد في كل آن ومكان لكل من يطلب الحجّة على النبوّة والرسالة ويريد النظر في حقيقة معجزها الشاهد لصدقها. ماثل لكل من يريد النظر في الحقائق ولا تحتاج معرفة حقيقته ووجه اعجازه الى أساطير النقل ومماراة قال او قيل. فلا يحتمل أمره. إنّه دُبِّرت دعواه بليل. ولا يُستراب من أمره باحتمال التمويه بل ينادي هو بنفسه في كلّ زمان ومكان (هذا جناي وخياره فيه) وكلّه خيار فائق متفوق «ومن ذلك» انه بنفسه ولسانه وصريح بيانه قد تكفّل بالاثبات لجميع المقدّمات التي تنتظم منها الحجة على الرسالة الخاصة وشهادة اعجازه لها. ولم يوكل أمر ذلك الى غيره ممّا يختلج فيه الرّيب وتعرض فيه الشبهات وتطول فيه مسافة الاحتجاج وتكثر صعوباته : فالتفت واعرف ذلك من أمور:
(الأول) إنَّه تكفّل ببيان دعوى النبيّ للنبوّة والرّسالة كما في سائر النبوّات .
(الثاني) انه تكفل في صراحة بيانه بالشهادة للنبوّة والرّسالة فلم تبق حاجة لدلالة العقل ودفع الشبهات عنها.
(الثالث) انه تكفل في صراحته المتكررة ببيانه لكمالات مدّعي رسالته وأطرى بصلاحه وأخلاقه الفائقة كما هو معروف. فمهد المقدمات اللازمة في البيان وصورة الاحتجاج بأنَّه لو كان كاذباً لكان ظهور المعجزة له من الإغراء بالجهل القبيح الممتنع لقبحه على جلال الله وقدسه تعالى شأنه.
وإليك فاسمع بعض ما جاء في القرآن في بيان هذه الأمور الثلاثة:
ففي سورة الأعراف /157 : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) وسورة النجم المكية من الآية الثانية الى الخامسة (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) وفي سورة الفتح / 29 : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) وفي سورة الأحزاب / 40 : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) وفي أوائل سورة القلم المكية (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) الى قوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) وقوله تعالى (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) وفي سورة الأعراف / 156 : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) وفي سورة الأحزاب / 44 : و 45 (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً).
(الأمر الرابع) انّه تكفّل بنفسه دفع الموانع عن الرسالة والنبوّة إذ بيّن مواد الدّعوة وأساسياتها ومعارفها وقوانينها الجارية بأجمعها على المعقول من عرفانيّها وأخلاقيّها واجتماعيّها وسياسيّها فلا يوجد فيها ما يخالف المعقول ليكون مانعاً عن النبوّة وفي سورة الاسراء المكية / 9 : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) ودونك القرآن الكريم وحقق وتبصَّر وتنوَّر فيما تضمَّنه من هذه المواد الشريفة (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ).

[ تحدّي القرآن الكريم للعرب وعجزهم عن الإتيان بمثله ]

(الأمر الخامس) انّه زاد على كونه معجزاً بنفسه بأن كرّر النداء والمصارحة في الاحتجاج باعجازه وتحدّي الناس وأعلن بالحجة وهتف بهم هتافا مكررا مؤكدا بأن يعارضوه لو لم يكن معجزا ويأتوا بمثله أو بعَشر سور أو سورة واحدة من مثله ان كان ممّا تناله قدرة البشر المحدودة وقد نادى بقرار الإنصاف والمماشاة وجعل لهم ان أتوا بعشر سور او سورة من مثله أن تسقط عنهم هذه الدعوة ويستريحوا من ثقلها الباهظ لضلالهم ويدعوا من يستطيعون عقلا ان يدعوه من دون الله لو استطاعوا أو وجدوا إلى ذلك من المعقول سبيلا.
جعل لهم ذلك من باب المماشاة والمجاراة في الحجة تعليقا على المستحيل ولهم في ذلك المهلة والأناة ليعدّوا عدّتهم في المظاهرة والتعاون ففي سورة هود المكية / 16 : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) 17 : (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) وفي سورة يونس المكية / 39 : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وفي سورة البقرة / 21 : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فيما تدعونهم وتصفونهم به /22 (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي) وفي سورة الاسراء المكية / 90 : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).
هذا وقد مضت لهم عدة أعوام ودعوة الرسالة والإعذار والإنذار والاحتجاج بإعجاز القرآن دائمة عليهم وهم في أشد الضجر من ذلك والكراهية له والخوف من عاقبته. وفي أشد التألم من آثار الدعوة وتقدّمها وظهورها. وفي أشد الرغبة في أهوائهم وعاداتهم الوحشية ورئاساتهم والعكوف على معبوداتهم ومع ذلك لم يستطيعوا أن يعارضوا شيئا من القرآن الكريم ولو بأن يأتوا بسورة من مثله لكي تظهر حجتهم وتسقط عنهم حجة الرسول ويستريحوا من عناهم وقلقهم وآلامهم من دعوته التي شتتت جامعتهم الأوثانية وهدّدت رئاساتهم الوحشية وتشريعاتهم الأهوائية وفرّقت بين الأب منهم وبنيه والأخ وأخيه والزوج وزوجه والقريب وقريبه وكدّرت صفائهم ونافرت بين عواطفهم.
وقد سامعهم في دعوته إصلاحا وخضوعا لم يكونوا يحتسبونه ولم يجدوا لذلك حيلة إلا الجحود السخيف والعناد الشديد وقساوة الاضطهاد والاستشفاع بأبي طالب في ترك الرسول لدعوته أو تمرّدهم بالمثابرة الوحشية فاقتحموا فيها الأهوال وتجشموا المصاعب وقتال الأقارب والاخوان ومقاساة الشدائد وذلة المغلوبية.
فلماذا لم يتظاهروا بأجمعهم عشر سنوات او اكثر ويأتوا بشيء من مثل القرآن الكريم ولو سورة واحدة ويفاخروا الرسول (ص) ويحاكموه في المواسم والمحافل التي أعدّوها لمثل ذلك فتكون لهم الحجة والانتصار في الحكومة وقرار النصفة وينادوا بالغلبة ويستريحوا من عناء هذه الدعوة وتهديدها لضلالهم. فلما ذا لم يفعلوا ذلك والقرآن والرسول قد دعواهم إلى ذلك تعجيزا وهم هم وينابيع فصاحتهم وبلاغتهم غزيرة. وغرائزهم في الأدب العربي متدفقة. وقرائحهم سيالة ومواد القرآن في مفرداته وتراكيبه من لغتهم. وأسلوبه من نحو صناعتهم التي لهم فيها الممارسة التامة والمهارة الفائقة والرّقي المعروف ولله الحجة البالغة .
ولو كان هناك أقلّ قليل من المعارضة والإتيان بسورة واحدة من مثل القرآن لرفعه الضلال ناراً على علم. واحتفلت فيه ألوف الألوف من أضداد الإسلام والقرآن. ولسجّلته دواوينهم في أقطار الأرض وأجيال الأمم. وتلقوه بأحسن ابتهاج. وصالوا به أكبر صولة لأنه الفيصل السلمي والحجة الأدبية التي ما فوقها حجة لهم في الجدل والبرهان. ولكن هل سمعت أن أحدا نبس في ذلك ببنت شفة أو أجري فيه قلم. وإن أمر ذلك بمعزل عن داخليّة الإسلام لكي يقال أنّه أخفته شوكة المسلمين او دسائس تواطيهم. بل إنَّ بذرته ومغرسه وسوره وحفظه وحياطته ترجع إلى ألوف الألوف في كل جيل من أنصاره أضداد الإسلام والقرآن سواء كان ذلك قبل الهجرة أو بعدها أو بعد زمان الرسول (ص).
ألا ترى أنّه بعد أن ضرب الإسلام بجرانه في جزيرة العرب بقي في اليمن وسوريا والعراق كثير من اليهود والنصارى وأمثالهم وهم الألوف أو ألوف الألوف من العرب أو من يعرف اللغة العربية ويتكلم بها ويتأدب بآدابها. وأضف إلى ذلك المنافقين الذين كانوا يكيدون الإسلام جهد وسعهم في عصر الرسول وبعده. فهل يخفي هؤلاء ما هو ضالّتهم المنشودة. وسلاح سطوتهم. وعدّة صولتهم وأقطع حجة لهم واكبر مدافع عن أديانهم. فإنّه لا عطر بعد عرس ولكن ماذا يصنعون بالعدم. وعدم القدرة من المتأخر على الاختلاق.
ومما يشهد لما ذكرناه ويجلو تمثيله لبداهة الاعتبار أن اليد الأثيمة غلبت بسنوح الفرصة حتى على المحدثين والمفسرين فدّست في كثير من كتب التفسير خرافة الغرانيق وخرافة سبب النزول في آية التمنّي من سورة الحج كما نجده في اكثر التفاسير. فلوّثت قدس رسول الله (ص) بما شاءت وسنحت به لها الفرصة. وكذا قدس جميع الأنبياء والمرسلين في حديثهم. وتلاوتهم بحيث لا يبقى بهم ادنى وثوق في ذلك (1).

[ وجوه إعجاز القرآن الكريم العامّة لجميع البشريّة ]

هذا في وجهة الاعجاز الذي تقوم به الحجة على العرب. وإنّ للقرآن المجيد أيضاً وجوها من الإعجاز مما يشترك في معرفتها كل بشر ذي رشد إذا اطلع عليها. وهي عديدة نشير إلى بعضٍ منها في هذا المختصر.

إعجاز القرآن الكريم من وجهة التاريخ

لا نقول بذلك بمحض إخباره عن الحوادث الماضية والأمم الخالية وإن كان رسول الله الذي جاء به لا يقرأ ولا يكتب ولم يدخل مدرسة ولم يمارس تعلّماً. كما هو المعلوم من تاريخ حياته (ص). فإنه يمكن أن يُقال أنّ هذا الإخبار المذكور ممكن في العادة لنوع البشر وان كان معرَّضاً للعثرات التي لا تُقال. بل نقول إنَّ القرآن الكريم اشترك في تاريخه في بعض القصص مع التوراة الرائجة التي اتفق اليهود والنصارى على أنّها كتاب الله المنزَل على رسوله موسى فأوردت هذه التوراة تلك القصص وهي مملوءة من الخرافات أو الكفر أو عدم الانتظام الذي تشابه فيه كلام المبتلى بالبرسام :
فمن ذلك قصّة آدم في نهي الله له عن الأكل من الشجرة وما فيها من الخرافات والكفر بنسبة الكذب والخداع إلى الله جلّ وعلا وسائر شؤون القصّة على ما جاء في الفصل الثالث من سفر التكوين.
ومن ذلك ما جاء في الفصل الخامس عشر منه من شك ابراهيم في وعد الله له بإعطائه الأرض في سوريا ومن ذكر العلامة في ذلك.
ومن ذلك ما جاء في الفصل الثامن عشر والتاسع عشر في مجيء الملائكة إلى ابراهيم بالبشرى باسحاق واخباره بأمر هلاك قوم لوط ومن حكاية ذهابهم إلى لوط وخطابهم معه.
ومن ذلك ما جاء في الفصل الثالث من سفر الخروج في خطاب الله لموسى من الشجرة وفي أواخره ما حاصله: إنّ الله جل شأنه افتتح الرسالة لموسى بالتعليم بالكذب.
ومن ذلك ما جاء في الفصل الثاني والثلاثين في سفر الخروج في أنَّ هارون هو الذي عمل العجل ليكون إلهاً لبني إسرائيل ودعا لعبادته وبنى له رسوم العبادة فانظر إلى هذه القصص في مواردها المذكورة من التوراة الرائجة ـ والقرآن الكريم أورد القصة الأولى في سورتي الأعراف وطه ـ والثانية في أواخر سورة البقرة ـ والثالثة في سورتي هود والذاريات ـ والرابعة في سور طه والنمل والقصص - والخامسة في سورتي طه والأعراف فجاءت هذه القصص بكرامة الوحي الإلهي منزّهة عن كل خرافة وكفر وعن كل ما ينافي قدس الله وقدس أنبيائه، جارية على المعقول، منتظمة الحجة، شريفة البيان. وذلك مما يقيم الحجة ويوجب اليقين بأنّه لا يكون إلّا من وحي الله ولا يكون من بشر بما هو بشر مثل رسول الله الذي لم يمارس تعلما في المعارف الإلهية ولم يتخرج عن مدرسة ولم يتربّ إلّا بين أعراب وحشيين وثنيين على أوحش جانب من الوحشية والوثنية. بل لو مارس جميع التعاليم وتخرّج من جميع الكليّات لما أمكنه أن يتنزّه ويُنزّه معارفه وكلامه من أمثال هذه الخرافات الكفريّة.
لم يكن في ذلك العصر وما قبله إلّا تعاليم اليهود والنصارى. وأساسها في الديانة مبنيّ على ما أشرنا اليه من خرافات التوراة الرائجة فهم عكوف عليها في عبادتهم ومواسمهم وتعاليمهم ومدارسهم. أو تعاليم الوثنيين ومنهم قومه. تلك التعاليم الجهلية الخاسئة. او تعاليم المجوس المتشعبة من كلا التعليمين المذكورين فإنه صلوات الله عليه لو كان أخذ القصص المذكورة من ذات التوراة الرائجة بالإتقان أو من الروحانيين المسيطرين على تعليمها وأراد أن يتقوّل بها على الوحي تزلفاً أو مخادعة لهم ليستجيبوا إلى اتباع دعوته لأتى بها على ما في التوراة من الخرافة والكفر.
ولو كان أخذها سطحياً من أفواه الرجال كما يأخذ الأميّ من ألسن العامّة لزاد عليها أضعاف خرافاتها وكفرها كما تستلزمه وتوجبه أميّته وتربيته وجهل قومه وبلاده ووحشيّتهم ووثنيتهم لكن (إن هو إلّا وحيٌ يوحى) إلى رسولٍ لا تأخذه في تبليغ الحقائق لومة لائم أو مخالفة أمم. فانظر إلى تفصيل ذلك في الجزء الأول من الرحلة المدرسية (2).
وعلى هذا النحو يجري الكلام فيما ذكر في العهد القديم الذي يعدّه أهل الكتاب من الوحي الصادق حيث نسب إلى أيوب أشنع الاعتراض على الله والجزع من قضائه ونسبة الظلم اليه جلّ وعلا وطلب المحاكمة معه حتى أنَّه صار يوبّخ واعظيه والناهين له عن هذه الجرأة ويسفّه رأيهم. ونسب الزنا إلى داود بأشنع وجه. ونسب إلى سليمان أنّه تمادى في تأييد الشرك بالله والعبادة الأوثانية وكثر منه بناء المباني لعبادة الأوثان.
وقد كثرت مصائب الأناجيل في القدح بقدس المسيح مع صغر حجمها وقلة مكتوبها فنسبت الى قدسه شرب الخمر وتكرّر الكذب والأحوال المنافية للعفة وانتهاره لوالدته وقدحه في قداستها والقول بتعدد الآلهة والأرباب وغير ذلك مما سنشير اليه.
وجاء رسول الله (صلى‌ الله ‌عليه ‌وآله) بوحي قرآنه منزِّهاً لهؤلاء الأنبياء ومبرّءاً لهم عن هذه الوصمات الشنيعة فانظر إلى تفصيل ذلك في الجزء الأول من كتاب الهدى (3).
وعلى هذا النحو يجري الكلام أيضاً فيما ذكر في التوراة والعهد القديم من القصص الخرافية المنافية لجلال الله وقدس أنبيائه وشرفهم وشرف عائلاتهم كما في خرافات اختباء آدم عن الله. وبرج بابل. وشأن لوط مع الخمر وابنتيه والمصارعة مع يعقوب ومخادعة يعقوب لأبيه وتكرر كذبه عليه. وقصة يهوذا مع كنّته ثامار وولادة سبط يهوذا الذي منهم داود وسليمان وكثير من الأنبياء. وقصّة امنون بن داود وابن عمه مع أخته ثامار وملاعب شمشون. ومشورة الله جل شأنه مع جند السماء في إغواء آخاب ملك إسرائيل (4) وكثير من ذلك.
ولأجل انّ القرآن الكريم كلام الله القدّوس ووحيه لم يذكر شيئا من ذلك ولو كان من اختلاق رسول الله (ص) كما يزعم الظالمون لامتنع في العادة على البشرية وأغراضها وتزلفاتها أن لا يذكر شيئا من ذلك مع ما فيها من القعقعة التاريخية. وإنَّ البشر الذي يتطلب قصص العهدين ويذكرها في كلامه وأغراضه لا يفوته ما أشرنا اليه.

إعجاز القرآن الكريم في وجهة الاحتجاج

نهض رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله) لتعليم البشر وتنوير بصائرهم في عصر الظلمات والجهل والعمى. ولإرشادهم الى حقائق المعارف التي حجبتها ظلمات الضلال المتراكمة في تلك العصور المظلمة تلك الظلمات التي استولت على ارجاء العالم بحيث لم تدع أن ينقدح من نور الحق للعقول المغلوبة أقلّ بصيص فجاء (ص) في قرآنه بكثير غزير من الحجج الساطعة على أهمّ المعارف وأشرفها. تلك الحجج الجارية على أحسن نهج وأعمه نفعاً في الاحتجاج والتعليم. جاء بها على ارقى نحو يستلفت العامي الى نور الغريزة الفطرية فيمثله لشعوره. والى سناء البديهيات فيجلوه لإدراكه. ويجري بمؤدّى تلك الحجج مع الفيلاسوف في قوانين المنطق وتنظيم قياساته على أساسيات المعقول. فاحتجّ على وجود الإله ولوازم إلهيته. وعلمه وقدرته. وتوحيده. وعلى المعاد الجسماني. وعلى أنّ القرآن وحي إلهي. وعلى صدق الرسول في دعوته فلا يكاد يوجد في شيء من هذه الحجج خلل عرفاني او وهن أدبي او شائبة اختلاف او شائنة من تناقض.
فإذا فرضتَ أيّ بشر يكون في ذلك العصر المظلم ومثلت نشأته وتربيته بين الأعراب الوحشيين الوثنيين في تلك البلاد الماحلة من كل تعليم والقاحلة من كل فضيلة في المعارف وانه لم يتعاط تعلما ولا تأدّبا على معلم ولا قراءة مكتوب ولا دراسة كتاب علمت انه يمتنع عليه في العادة بما هو بشر وبلا وحي إلهي إليه أن يأتي ببيان المعارف الصحيحة والمناقضة للجهل العام في عصره وبيئته وقومه ويحتجّ عليها بتلك الحجج النيّرة القيّمة على ذلك المنهاج الممتاز بفضيلته.
وإن شئت أن تزداد بصيرة فيما ذكرناه فانظر الى ما في الأناجيل مما نسبته الى احتجاجات المسيح وحاشا قدسه منه ومما ذكرته من الحجج الساقطة الفاسدة على أمور أكثرها ضلال او غلط كالاحتجاج على تعدد الآلهة وعلى تعدد الأرباب. وعلى المنع من الطلاق. وانظر الى ما اشتملت عليه من الغلط والتحريف. نعم ذكرت الاحتجاج على القيامة من الأموات ولكن ماذا جاءت به من الغلط والخبط في الحجة واحوال القيامة. وإن شئت الاطلاع على شيء من ذلك فانظر في الجزء الأوَّل من كتاب الهدى صفحة 112 ـ 116 و 197 و 205 والجزء الأوَّل من الرحلة المدرسية صفحة 73 و 32 ـ 39.

إعجاز القرآن الكريم من وجهة الاستقامة والسلامة من الاختلاف والتناقض

قد خاض القرآن الكريم في فنون المعارف والإصلاح مما يتخصص فيه الممتازون بالرقيّ في أبواب الفلسفة والسياسة والخطابة والإصلاح من علم اللاهوت او الأخلاق او التشريع المدني والتنظيم الإداري او الفن الحربي. او البشري والترغيب بالجزاء او الإنذار والتهديد بالنكال. او الحجج والأمثال. او تذكرة المواعظ والعبر.
وجرى من ذلك في الميادين الشريفة بأحسن أسلوب وأقوم منهج وبلغ في جميع ذلك أكرم الغايات وأعلاها في الرقي وهو يكرر بحسب الحكمة كثيرا من قصصه ومقاصده وفي جميع ذلك لم تشنه زلة اختلاف ولا عثرة تناقض ولا وهن اضطراب ولا سقوط حجة ولا فساد مضمون ولا سخافة بيان.
وها هو بارِزٌ في جميع العالم لكلّ من يريد الهدى والفحص والتدبّر ينادي بأبَّهة الافتخار وجمال السداد وشوكة الاستظهار (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (5) (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)(6) منتشراً في أبوابه ومقاصده.
فهل يمكن في العادة أن يكون كل هذا من بَشَرٍ قد ذكرنا لك عصره ونشأته وتربيته وبلاده وقومه وجهلهم الوحشي الوثني ولك العبرة بكتب العهدين وهي التي منذ قرون عديدة يصفّق لاستحسانها اكثر العالم المفتخر بالعلم والتمدّن وينسبونها بكمال الاحتفال الى كرامة الوحي ـ فكم وكم يوجد فيها من الوهن والسقوط والاختلاف والتناقض وقد ذُكِر شيء من ذلك في كتب اظهار الحق والهدى. والرحلة المدرسية.
واعتبر ايضا بأن كل واحد من الأناجيل لا يزيد على صحيفة اسبوعية وقد كثر فيها الخبط والتناقض والاختلاف الى حد مهول مدهش وقد ذُكِر شيء منه في الجزء الاول من كتاب الهدى صفحة 196 ـ 234 وأيضاً إنَّ الأناجيل وكتب العهد الجديد مؤسَّسَة على أنَّ كتب العهدين الرائجة هي كتب وحي إلهي صحيحة. إذن فاعتبر بأنَّه كم وقع الاختلاف والتناقض بين الأناجيل والعهد الجديد وبين العهد القديم وقد ذُكِر شيء ممَّا ذكرنا في الجزء الأول من الرحلة المدرسية صفحة 132 ـ 184.

إعجاز القرآن الكريم في وجهة التشريع العادل ونظام المدنية

قدّر رسول الله (ص) بَشَراً عادياً في مثل ما ذكرناه مراراً في عصره ونشأته وتربيته وبلاده وقومه وجهلهم وعاداتهم الوحشية. ثم انظر هل يمكن في العادة لمثل هذا البشر إذا لم يكن موحى إليه أن يأتي من عنده ومن بشريّته بمثل ما أتى به في القرآن الكريم من الشريعة الحقوقيّة العادلة والقوانين القيّمة والأنظمة المعقولة الجارية بأجمعها على ما هو الصالح للبشر في المدنيّة والاجتماع والسياسة والحرب ومقدّماتها ونتائجها. وجرت في عنايتها بالإصلاح من ادارة جميع العالم إلى الإدارة العائليّة والبيتية والزوجية بل وإلى شؤون الكاتب والشاهد كما في سورة البقرة آية 282 فمنعت فيها من مضارة الكاتب والشاهد ونهت عن أن يُحمَّلا من أجل الكتابة والشهادة وأدائها ضرر المشقّة والعناء وتضييع وقت اكثر من الوقت الطبيعي لمحض الأداء. وفي ذلك عبرة لأولي الألباب.
وإليك فانظر ما في القرآن الكريم من الشرائع والقوانين العامة والخاصة واعتبر بكرامتها ومجدها في التشريع الفائق والإصلاح الحميد. ولا تحتاج معرفة مجدها وكرامتها إلى المقايسة والاعتبار بشرائع قطره وقومه تلك الشرائع الجائرة الوحشية الوثنية. نعم تزداد بصيرة إذا نظرت إلى شرائع التوراة الرائجة التي يعتبرها اليهود والنصارى في اجيالهم في اكثر من خمسة وعشرين قرناً ويعدّونها كتاب وحي إلهي مقدّس فانظر فيما فيها من شريعة تقديس هارون وبنيه وتفصيل ثيابهم وأوضاعها. وشريعة امرأة الأخ الميّت. وتفلتها وولدها البكر من الأخ الثاني. وشريعة من ادعى زوجها أنّه لم يجد لها عذرة. وشريعة قتل الأطفال والنساء من البلاد المفتوحة بالحرب فإنّك تعرف أنّ هذه الشرائع لا تكون إلّا من بشرٍ سخيفٍ قاسٍ وتزداد بصيرة بمجد القرآن الشريف في تشريعه وإنّه لا يكون الّا من وحيٍ إلهي وقد أشير الى شيءٍ ممّا ذكرنا في أواخر الجزء الثاني من كتاب الهدى صفحة 280 ـ 292 والجزء الأوَّل من الرحلة المدرسية صفحة 29 و 79 ـ 82.
وانظر إلى العهد الجديد وإلغائه لنظام المدنيّة والأخذ أمام الظلم والعدوان بحيث ترك العالم بلا نظام رادع ولا شريعة تأديب عادلة فإنّك تزداد بصيرةً بأنّ المتقوِّل على الوحي في أمر التشريع لا بدّ له من أن يسقط سقطةً تشوِّه التاريخ وتئنُّ منها الحقائق جزعاً. فاعرف إذن اعجاز القرآن في تشريعه الممتاز بفضيلة الوحي الإلهي.

إعجاز القرآن الكريم من وجهة الأخلاق

وإذا نظرت إلى ظلمات العصر والقطر والتربية وشيوع الجهل في الأمّة وسوء الأعمال وعدم الدراسة في العلم أو التخرج في الفضيلة على الحكماء الصالحين فإنّك ترى هذه الأمور لها أثر كبير في الجهل بالأخلاق الفاضلة والانحراف عن جادَّتها والخبط في معرفتها وتمييز حدودها. فلا تَرُدُّ البشرَ إلى الاستقامة في ذلك تكلفات الفكر المحاط بالجهل العام والجيل المظلم والقطر الوبيء من نزغات الأهواء. ولئن حاول الرجل المريد للصلاح حينئذ شيئا من تهذيب الأخلاق لم يهتدِ السبيلَ في قوله وعمله إلّا إلى شيءٍ يشير اليه التداول بين جملة من الناس ولئن تكلَّف المتفلسف شيئاً من التعليم بالأخلاق خبط فيها خبطاً غلب فيه الجهل والزلل وتتابعت فيه العثرات.
ومن بين تلك الظلمات المذكورة بزغ القرآن الكريم بأنواره وأتى بما لا تسمح به العادة بأن يأتي به في تلك الظلمات بشرٌ من عند نفسه وتقوُّلاً على الوحي فجاء في إجماله وتفصيله مستقصياً للأخلاق الفاضلة على حدودها بالحثِّ على التزيُّن بها بما توجبه الحكمة من البعث والترغيب. ومُحصياً للأخلاق الرذيلة بالزجر عن التلوُّث بها بما يوجبه الإصلاح من الإرهاب والتنفير. وأقامَ لذلك في العالم أشرف مدرسة زاهرة وأعلى فلسفة مرشدة وأبلغ خطابة واعظة.
وإليك بعضاً من جوامعه في ذلك كقوله تعالى في سورة النحل : 92 (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). ومن سورة الفرقان ما في الآية الرابعة والستين الى الخامسة والسبعين. ومن سورة المعارج ما في الآية الثالثة والعشرين الى الثالثة والثلاثين. ومن سورة الحجرات ما في الآيات العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة. وغير ذلك ممّا لا يكاد أن تخلو منه سورة او يتخطاه تعليم او يحابى به قوم دون قوم او يتجاوز بالإفراط الى التفريط والإخلال بنظام المدنية وراحة الاجتماع ولك العبرة بأنّ التوراة الرائجة فيها وشل من تعاليم التوراة الحقيقيّة ولكن لأنّها تلفيق واختلاق بشريٌ كدّرت ما فيها من ذلك الوشل وذهبت بصفاء التعليم الإلهي. فأمرت بني إسرائيل بالحكم بالعدل لقريبهم ونهتهم عن الحقد على أبناء شعبهم وعن السعي بالوشاية وعن شهادة الزور على قريبهم وأن يغدر أحدهم بصاحبه. ويا للأسف على شرف هذا الأمر والنهي إذ شوّهت جماله بتخصيص تعليمها لبني إسرائيل وبتخصيص المأمور به والمنهي عنه بالقريب والشعب والصاحب.
ولك العبرة ايضاً بأنَّ الأناجيل الرائجة قد أفرطت بتصوّفها البارد فنهت عن ردع الظالمين بالانتصاف من الظالم وقطع مادة الفساد بالحدود الشرعيّة ودفاع الظالمين بل علَّمت بأنَّ من لطمك على خدّك الأيمن فأدر له الآخر أيضاً ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً ومن أخذ الذي لك فلا تطالبه، فلوَّثت بإفراطها البشري قُدس تعاليم المسيح المتلقاة من الوحي الإلهي.

إعجاز القرآن الكريم في وجهة علم الغيب

وقد تكرّر في القرآن مُعجِزُه في إخباره بالغيب إخباراً يقتضي التكهُّن والفراسة خلافه من حيث النظر الى الحال الحاضر وطغيان الشرك وضعف الدعوة الإسلامية وما يجري من النكال والتشريد والجفاء على ملبيها.
فمن ذلك قوله في سورة الحجر المكية في الأمر لرسول الله (ص) بالإعلان بالدعوة والبشرى بنجاحها وإرغام معانديها ومعارضيها وكان ذلك عند طغيان الشرك واستفحاله وهيجان المشركين على رسول الله / 94 (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) /95 (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) / 96 (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) وقد كفاه الله اشرف كفاية لم تكن تعلق بها الآمال بحسب العادة. وقد بان للمشركين وعلموا ما في قوله تعالى في آخر الآية (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).
وقوله في سورة الصف المكيّة في الحال الذي وصفناه من طغيان الشرك والمشركين / 9 (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) فأظهره على الدين أعزّ إظهارٍ أُرغمَت به آناف المشركين.
ومن الإخبار بالغيب قوله تعالى في سورة الروم (غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ) فغلبت الروم فارس ودخلت مملكتها قبل مضي عشر سنين.
وقوله تعالى في سورة تبَّت في شأن أبي لهب وامرأته (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) وهو إخبار بأنَّهما يموتان على الكفر ولا يحظيان بسعادة الإسلام الذي يكفر عنهما آثام الشرك ويحطّ أوزاره فماتا على الكفر كما أخبر به إخباراً حتميّاً.
ولك العبرة في ذلك بأنّ إنجيل متّى ذكر إخباراً واحداً غيبياً للمسيح وهو أنَّه يبقى مدفوناً في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال. ولكن ما برح إنجيل متّى أن كذَّب في أواخره هذا الإخبار فوافق الأناجيل الثلاثة الأُخر على أنَّ المسيح في مساء ليلة السبت طلب بعض الناس جثته من بيلاطس فأنزلها عن الصليب وكفنها ودفنها وقبل الفجر من يوم الأحد قام المسيح من الموت وخرج عن قبره. وعلى ذلك لا يكون المسيح بقي في القبر الا ليلة السبت ونهاره وليلة الأحد وذلك نهار وليلتان
هذا وإنّي عند مقايستي للقرآن الكريم بما يُنسَب إلى الوحي الإلهي من كتب الأمم المتديّنة ومنهم البراهمة والبوذيون وغيرهم لم يحضر عندي الّا كتب العهدين فلا ينبغي أن يُجعل مقايستي بهما تحاملاً على خصوص اليهود والنصارى. ولي العذر في ذلك فإنّه لا يصحّ للإنسان أن تأخذه في خدمة الحقّ وإيضاح الحقيقة وتأييدها لومة لائم او يصدّه عذل عاذل. فإنّ خدمة الحقّ نصرة للبشر جميعاً والله المستعان
هذا شيء قليل من البيان في الوجهات المذكورة إذ لا يسع هذا المختصر أكثر من ذلك. وهب أنَّ الوساوس تتقحَّم على الحقائق وتغالط الأذهان بواهيات الشكوك في الإعجاز ببعض آحادها ولكن هل يمكن ذلك بالنظر إلى مجموعها. وهل يسوغ لذي الشعور أن يختلج في ذهنه الشك في اعجاز الكتاب الجامع بفضيلته لهذه الكرامات الباهرة وخروجه عن طوق البشر مطلقاً وخصوصا في ذلك العصر وتلك الأحوال وهل يسمح عقله إلّا بأن يقول (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى).
_______
المصدر: كتاب آلاء الرحمن في تفسير القرآن، الشيخ محمّد جواد البلاغي (قدّس سرّه): ج1.
_____
الهوامش
1- فانظر في الجزء الأوَّل من كتاب الهدى في صفحة 123 128 والجزء الأوَّل من الرحلة المدرسيّة في صفحة 37 و 38.
2- صحيفة 7 11 و 41 و 42 و 43 46 و 47 و 58. و 30 34.
3- صفحة 100 110 و 112 116 و 227 232.
4- انظر إلى ذلك في سفر (التكوين في الاصحاح الثالث. والحادي عشر. والتاسع عشر. والتاسع والعشرين. والثامن والثلاثين. وفي الثالث عشر من صموئيل الثاني. والرابع عشر إلى السابع عشر من سفر القضاة. والثاني والعشرين من الملوك الأول. والثامن عشر من الأيام الثاني.
5- سورة الاسراء : 9.
6- سورة النساء : 84.