القائمة الرئيسية

الصفحات

التقية في زماننا : تعريفها ، موارد وجوبها وحرمتها ، وآلية تشخيصها

التقية في زماننا : تعريفها ، موارد وجوبها وحرمتها ، وآلية تشخيصها

أسئلة زوار المدونة / السؤال 4
الاسم: محمد الجنوبي
الدولة: الكويت
السؤال: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته،
في موضوع التقية عند الطائفة الامامية -أعزها الله تعالى- فإنه من المعروف أن التقية مشروعة بنص الكتاب الشريف والسنة الثابتة عند الرسول الأعظم وأهل البيت - عليهم الصلاة والسلام-، إلا أنني أود الاستفسار عن معناها في زمن غيبة الإمام - عجل الله تعالى فرجه الشريف- وعن وظيفة المؤمن إلى حين الظهور الشريف. بمعنى آخر، أود الاستفسار عن الآتي:
١- بما أن ظروف الشيعة في هذا الزمن قد تغيرت فما عاد الشيعي يخشى من إظهار عقائده وشعائره كما كان الحال في زمن الأئمة عليهم الصلاة والسلام، فهل مازالت التقية مطلوبة وواجبة، بكل تفاصيلها كما كان في عهد الأئمة؟
٢- هل يشتمل معنى التقية في زمن الغيبة حرمة السعي لإقامة دولة إسلامية تسعى لتطبيق فقه آل محمد -(ع) - في الأرض؟
٣- قد يرى بعض المؤمنين أن مغالاة بعض العلماء والمعممين - أجلهم الله تعالى- في تطبيق التقية وتحريم السعي لإقامة دولة إسلامية في زمن الغيبة أدى بهم إلى مهادنة الحكام الظلمة في البلدان التي يعيشون فيها. ونتيجة ذلك، أن التيارات الفكرية المناوئة للدين (كالشيوعية والعلمانية المتطرفة) تتقوى بمواقف أولئك العلماء والمعممين لتأكيد نظرتهم للدين بأنه يشجع على الخنوع والخضوع للظلمة وأن فتاوى العلماء بوجوب التقية بهذا المعنى أدى إلى تقوية أنظمة الظلم والقهر وزيادة تسلط الظلمة وزيادة ظلمهم وعدم ارتداعهم عن الإفساد في الأرض. باختصار، هذا المعنى للتقية -الذي ظاهره مهادنة الظلمة- أصبح مطية للظلم والظالمين وأدى إلى عزوف الشباب عن الدين ولجوئهم إلى التيارات المناوئة للدين لأن الدين وعلماءه صاروا السند للظالمين والجدار الذي يمنع الأمة من الانقضاض على الظلم. فما تعليقكم، وجزاكم الله تعالى خير الجزاء.
الجواب: (مدونة صدى النجف)
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
نتكلّم في ستّ نقاط يتّضح على ضوئها الجواب عن الأسئلة التي تفضّلت بها وهي كما يلي:

أولاً: ما معنى التقية في زمن الغيبة ؟

التقيّة في اللغة إمّا مصدر ميمي أو اسم مصدر من (اتقى – يتقي) بمعنى الاختفاء والحفظ والابتعاد.. 
وأمّا في الاصطلاح فقد عرّفها الشيخ المفيد (قدّس سرّه) بأنّها: " كتمان الحق وستر الاعتقاد فيه ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراً في الدين أو الدنيا ". (تصحيح اعتقادات الإماميّة: ص137).
وعرّفها الشيخ مرتضى الأنصاري (قدّس سرّه) بأنهّا: " التحفّظ عن ضرر الغير بموافقته في قولٍ أو فعلٍ مخالف للحق". (التقيّة، الأنصاري: ص37)
وعرّفها الشيخ مسلم الداورّي (حفظه الله) بأنّها: " التحفّظ عن ضرر الغير بموافقته في القول والعمل". (التقيّة في فقه أهل البيت: ج1/ ص59)
وهذا المعنى للتقيّة ليس خاصّاً بزمان دون غيره بل هو عام لجميع الأزمنة ويظهر ذلك بلحاظ أمرين:
1- استعملت النصوص القرآنيّة والروائية التقيّة بهذا المعنى كما سيأتي في الفقرة الثانيّة، فحتى مع فرض وقوع التطور الدلالي لهذه المفردة – وهو أمر لم يقع فعلاً – تبقى كاصطلاح شرعي محمولة على المعنى الذي استعملت فيه في عصر النص.
2- جاءت أدلّة التقيّة مطلقة لا تختص بزمان دون غيره بل تشمل عصر الحضور وعصر الغيبة معاً وهو ما ننقّحه في الفقرة التاليّة.

ثانياً: هل تشمل أدلّة التقيّة زماننا (عصر الغيبة)؟

التقيّة في نفسها حكم ثانوي وليس حكماً أوَّليّاً بمعنى أنّها وكما ظهر من تعريفها إنّما يتمّ اللجوء إليها في حالة توفّر ظروف موضوعية توجب ذلك من الخوف على النفس أو ما شابهه مما سيأتي في الفقرة التالية، وأمّا مع عدم تحقق ذلك فلا موضوع للتقيّة حتّى يؤخذ بها.
إذا اتضح هذا يأتي السؤال عمّا إذا كانت أدلّة التقيّة – كحكم ثانويّ - مطلقة بحيث تشمل جميع الأزمنة والأمكنة في حال تحقّق موضوعها أو أنّها مقصورة على حقبة دون أخرى كأن تكون مقصورة على زمن الحضور من جهة الحفاظ على حياة الإمام فقط دون زمن الغيبة؟
والجواب: إنّ ما يُستدلُّ به لمشروعيّة التقية على ثلاثة أنواع (أدلة عقليّة (أو عقلائيّة) ، نصوص قرآنيّة ، ونصوص روائيّة) وعند استقرائها يلاحَظ أنَّها بأجمعها مَسُوقة لتشريع التقية مطلقاً لجميع الأمكنة والأزمنة وذلك من جهة عدم وجود ما يصلح لتقييدها او تخصيصها كما أنّها أناطت مشروعيتها بمناط عام وهو الخوف على النفس او ما ضارعه مما سيأتي، والعلَّة تُعمِّم وتُخصّص كما ثبت في محلّه من علم الأصول.
ونذكر هنا نُتَفاً من تلك الأدلّة للوقوف على عمومها:

من أدلة مشروعية التقيّة

1- من الأدلّة القرآنية قوله تعالى: { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } آل عمران/ 28 فهي واضحة الدلالة في جوازها وعدم تقييدها من حيث الزمان والمكان في حال تحقق موضوعها، وكذلك قوله تعالى: { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } القصص/ 20 فهي صريحة أيضا في جواز إظهار خلاف الحق عند الإكراه على ذلك والاضطرار إليه، ولم تقيده أيضاً بزمان أو مكان بل هي مطلقة من هذه الناحيّة.
2- الروايات الدّالة على مشروعية التقيّة والتأكيد عليها في موردها كثيرة متواترة بل قال السيّد الخوئي (قدّس سرّه): " الاخبار في ذلك بلغت فوق حد التواتر كقولهم عليهم السلام : ولا دين لمن لا تقية له او ان التقية ديني ودين ابائي... " (كتاب الحج 5 /153) وهو (قدّس سرّه) يشير بهذا إلى صحيحة المعلّى بن خنيس عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: " يا معلّى إنَّ التقيّة ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقيّة له، يا معلّى إنّ الله يُحبُّ أن يُعبد في السر كما يحب ان يعبد في العلانية" .
ويُلاحَظ أنَّها مطلقة أيضاً من حيث الزمان والمكان .
3- إنّ العقل يقطع بوجوب دفع الضرر، حتى الضرر المحتَمل ولا فرق عنده في ذلك بين زمانٍ وآخر وكذلك بالنسبة إلى المكان. ومن ثمّ إنّ التقية تعدُّ طريقاً لحفظ الحق لئلا يناله أو حَمَلَتُه الضرر وهذا أمرٌ يوجبه العقل السليم إلّا في الموارد التي تتسبب التقية فيها بضياع الحق واندثاره فهنا ينقلب الموقف إلى الحرمة كما سيأتي.
ومن كلّ ما سبق يتضّح أنّه بمراجعة أدلة التقية من قرآن وروايات وعقل نلاحظ أنّها بأجمعها مطلقة تشمل زمان الحضور والغيبة معاً فلا فرق في الحكم من هذه الناحية مع توفر مناط التقيّة كحفظ النفس أو ما شابهه مما سيأتي، ويؤكد هذا الإطلاق عدّة روايات دالة على سريان التقية إلى يوم خروج الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) كما في رواية الحسين بن خالد عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال: " ... إنّ أكرمكم عند الله أعملكم بالتقية . فقيل له : يا ابن رسول الله إلى متى ؟ قال : إلى يوم الوقت المعلوم وهو يوم خروج قائمنا أهل البيت" (كمال الدين، الشيخ الصدوق: 371) وروايات أخرى بمضمون مماثل ولا يقال أنّها ضعيفة السند لأني لستُ في مَعرَض الاستدلال بها وإنّما ذكرتها كمعزز للإطلاق المستفاد من أصل أدلة مشروعية التقيّة.

ثالثاً: موارد التقية بحسب حكمها من الوجوب أو الإباحة أو الحرمة

ذكرنا فيما سبق أنّ ّالتقيّة من الأحكام الثانوية التي لا يُصار إليها إلّا عند تحقق مناطها ويختلف حكمها باختلافه مع لحاظ مجموعة من العوامل الموضوعية الأخرى ونسلّط الضوء في هذه الفقرة على هذه النقطة كمدخل لمعرفة آليّة تشخيص موارد التقية وحكمها:
1- موارد وجوب التقيّة
تجب التقيّة إذا خاف الإنسان على نفسه وانحصر دفع الضرر بها أي أنّه اضطر إليها من أجل حفظ نفسه لا مطلقاً، بل بشرط أن لا يكون المورد من موارد حرمة التقيّة التي ستأتي في النقطة الرابعة، ويُضاف إلى الخوف على النفس الخوف على الأهل والأقارب وكل من يعود عليه بالإضافة إلى حفظ ماء الوجه فالتقية واجبة فيها جميعاً بالشروط الآنفة.
2- موارد استحباب التقيّة
ذكر الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) أن مورد استحباب التقيّة هو معاشرة المخالفين من المسلمين من خلال الصلاة معهم وزيارة مرضاهم وكما تكون مع المسلمين تكون أيضاً مع غير المسلمين وتُعرف بالتقيّة المداراتية، فالمداراة ضرب من التقيّة، ويأخذ بها بعض أكابر المراجع المعاصرين (حفظهم الله تعالى).
3- موارد إباحة التقيّة
ذكر الشيخ المفيد (قدّس سرّه) في تصحيح اعتقادات الإماميّة: أنّ من موارد إباحة التقية إذا كان خوف الإنسان على أمواله فقط دون نفسه فهو هنا بالخيار. وضابطته كما سيأتي عن الشيخ الأنصاري (قدّس سره) أن تتساوى كفتي التحرز عن الضرر وتحمّله في نظر الشارع.
4- موارد حرمة التقيّة
ذهب الفقهاء إلى حرمة التقيّة إذا أدّت إلى سفك الدم ورواج الباطل أو الإفساد في الدين قال الشيخ محمد رضا المظفر (قدّس سرّه) في عقائد الامامية ص 85 : " قد تحرم التقية في الاعمال التي تستوجب قتل النفوس المحترمة او رواجا باطلا او فسادا في الدين او ضررا بالغا على المسلمين بإضلالهم او افشاء الظلم والجور فيهم".
وفي صحيحة أبي حمزة الثمالي عن الإمام الصادق (عليه السلام): " إنّما جُعلت التقيّة ليُحقن بها الدم فإذا بلغت التقيّة الدم فلا تقيّة.." ومثلها صحيحة محمّد بن مسلم عن الإمام الباقر (عليه السلام).
والضابطة في هذه الأقسام الأربعة كما ذكر الشيخ مرتضى الأنصاري (قّدّس سرّه) أنّ : " الواجب منها ما كان لدفع الضرر الواجب فعلاً والمستحب ما كان فيه التحرز عن معارض الضرر بأن يكون تركه مفضياً تدريجياً إلى حصول الضرر كترك المداراة مع العامّة وهجرهم في المعاشرة في بلادهم فإنّه ينجرّ غالباً إلى حصول المباينة الموجب لتضرره منهم والمباح ما كان التحرز عن الضرر وتحمله مساوياً في نظر الشارع والمكروه ما كان تركه وتحمل الضرر أولى من فعله والمحرم كان في الدماء "

رابعاً: آليّة تشخيص موارد التقيّة

1- إنَّ تشخيص ضرورة التقيّة من عدمها يبتني على أساس مجموعة من العوامل والظروف الموضوعية (الخارجيّة) والتي ليس بالضرورة تكون عامّة بل يمكن أن تكون شخصية أو خاصة بمكان دون غيره وبالتالي يمكن القول أن إصدار الأحكام الكليّة في هذا الموضوع من قبيل (أنّ زماننا ليس بزمن تقية) وتعميمه على جميع أصقاع العالم يُعدّ ضرباً من المجازفة.
2- إنّ العلماء وطلاب العلوم الدينيّة وجميع المتصدّين للشأن العام – ممّن يحترم عقله وعقول الناس - لا يقصرون نظرهم على بضعة أمتار يعيشون فيها ومن ثمّ يعمّمون تجربتهم الضيقة هذه - كما يتخيل أو يريد بعض الكتّاب - بل لهم رؤيتهم الشموليّة والتي تخضع لحسابات دقيقة، فلعلّ كلمة تصدر من النجف أو سائر المراكز العلميّة لن تظهر تبعاتها في بلداننا بينما يكون لها آثارها الكبيرة في بلدان أخرى من البلدان التي يتواجد فيها المؤمنون.
3- وممّا سبق يتضّح أنّ تشخيص موضوع التقية (تحديد إذا ما كان الظرف يقتضي التقيّة أو لا) بشكل عامّ ودقيق إنّما يتسنّى لمن هو عارف بزمانه وله من النظرة الشمولية لظروف المؤمنين في عموم البلدان قدرٌ يُعتدّ به ولا يتسنى ذلك لجميع الناس كما لا يخفى نعم يمكن لكل فرد أن يشخّص ظرفه الخاص ومقتضياته لا عموم ظروف المؤمنين.
ومنه يتضح جواب دعوى أنّ زماننا ليس بزمان تقيّة.

خامساً: التقيّة وقيام الحكومة الاسلاميّة ومهادنة الظالم

والكلام في محورين:
المحور الأوَّل: التقية ومشروع الحكومة الإسلاميّة
إنّ مَن يكون ظرفه ظرف تقيّة (يخشى ضرر الآخرين الذين يملكون القدرة على الإضرار به) فمن باب أولى هو غير قادر على إقامة حكومة اسلاميّة وإنّما يُعرِّض بذلك نفسه والناس للخطر فحسب؛ إذ مثلُ هذا المشروع الكبير يتطلَّب أقصى درجات بسط اليد وهو ما لا يجتمع مع التقيّة بحالٍ من الأحوال. وهنا نذكر عدة أمور:
1- إنّ قيام حكومة إسلامية في أي بلدٍ لا يتوقف على عدم التقيّة وإن كانت من لوازمه وإنّما يتوقف مثل هذا المشروع بالدرجة الأساس على مديات بسط يد المؤمنين والفقهاء في تلك البلاد ومدى مقبولية مثل هذا النظام عند سكانها.
2- موضوع بهذه الخطورة يجب أن يخضع لدراسات وحسابات دقيقة ومعمّقة قبل المبادرة وإلّا ستكون تبعات المجازفة غير المحسوبة كبيرة جداً تتناسب مع حجم المشروع ويمكن أن نعتبر في هذا من بعض الحركات التي قامت في غير بلد من بلدان المنطقة.
3- حتّى إذا كان الفقيه مبسوط اليد وكانت ثلة من الناس تسعى باتجاه التأسيس لحكومة إسلامية لا يعني هذا وجوب التصدّي كما لا يُعدّ ذلك ضماناً لنجاح المشروع بل يخضع كلّ ذلك لمؤثرات نظريّة وموضوعية قد لا يلتفت لها بعض الناس فليس كلّ من لم يتصدّ يعني أنه يعمل بالتقيّة.
ومن هذا يتضّح أنّ الفقهاء أو طلاب العلوم الدينيّة الذين ذكرتَهم في السؤال لا يصحّ محاكمتهم بهذه الطريقة السطحية ما لم يكن هناك دراسة استقصائية دقيقة للعوامل الموضوعية التي تحيط بهم وتؤثر في مثل هذا المشروع فضلاً عن النظر في مبانيهم الفقهية ومدى انسجامها مع مثل هذا الدور الذي يُراد لهم.
المحور الثاني: التقيّة ومهادنة الظالم
يبدو أنّ الأخ السائل (محمد) قد خلط في هذا الموضع بين التقيّة والمهادنة والمداهنة، فمن يعمل بالتقيّة لا يُتصوَّر في حقّه أن يكون سنداً للظالمين أبداً بل هو على النقيض من ذلك، خلافاً للمداهن وللوقوف على ذلك نلقي نظرة على معاني هذين المفردتين ومقارنتهما بما سبق من معنى التقيّة:
1- معنى المهادنة : جاء في لسان العرب: " هادَنه مُهادنَةً : صالحه ، والاسم منهما الهُدْنَة " وقال أيضاً: " وأَصل الهُدْنةِ السكونُ بعد الهَيْج . ويقال للصلح بعد القتال والمُوادعة بين المسلمين والكفار وبين كل متحاربين : هُدْنَة " (يُنظر: ج13/ 434 – 435).
2- وأمّا المداهنة فهي في اللغة تعني (المصانعة) (يُنظر: الصحاح: ج5/ 2116؛ لسان العرب: 13/ 162) وقيل: " هي إظهار خلاف ما يُضمِر" (يُنظر القاموس المحيط: ج4/ 224).
ومن الوضوح بمكان أنّ التقيّة لا ينطبق عليها عنوان المهادنة إلّا من باب التسامح والتجوّز في الألفاظ لأنّ التقية ليست صلحاً وإنّما هي دفع ضرر الآخر بالتظاهر بعدم الخلاف، وشتان بين الاثنين.
وأمّا المداهنة فهي الأخرى لا تنطبق على التقية لأنّها تعني محاولة التقرّب ممّن يُراد مُدَاهَنَتَه بينما التقيّة ليس غايتها التقرّب بل غايتها دفع الضرر قال الشهيد الأوَّل ( شمس الدين العاملي) (قدّس سرّه) في القواعد والفوائد : ج3/ 155: " المداهنة في قوله تعالى: ( ودّوا لو تدهن فيدهنون ) معصية .والتقية غير معصية .والفرق بينهما ، أن الأوَّل تعظيم غير المستحق ، لاجتلاب نفعه ،أو لتحصيل صداقته ، كمن يثني على ظالم بسبب ظلمه ، ويصوره بصورة العدل ، أو مبتدع على بدعته ، ويصورها بصورة الحق . والتقية : مجاملة الناس بما يعرفون ، وترك ما ينكرون ، حذرا من غوائلهم . كما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) وموردها غالبا الطاعة والمعصية . فمجاملة الظالم فيما يعتقده ظلماً ، والفاسق المتظاهر بفسقه ، اتقاء شرهما ، من باب المداهنة الجائزة ولا يكاد يسمى تقية ".
إذاً مهادنة ومداهنة الظالم هذه عناوين أخرى وليست من التقيّة حتى تصحّ مؤاخذة من يقول بالتقية بها، بل هي عناوين مستقلة لكلٍ منها مقتضياته وظروفه الموضوعيّة التي يُحاكَم على ضوئها. فلو صحّ افتراض وجود من هو سند للظالمين فليُعلم أنّها ليست تقيّة وإنّما موضوع آخر يحتاج إلى محاكمة ومقاربة تخصه بعيداً عن التقيّة.

سادساً: النفور من الدين بسبب التقيّة

سبق أن ذكرنا أن مناط الحكم بالتقيّة ليس تعبديّاً محضاً بل العقل يدرك وجوب العمل بها لدفع ضرر الغير ولا فرق في هذا بين شيعي وغيره من سائر البشرية مسلمين كانوا أو غير مسلمين، فحتى هذا الذي يريد الخروج من الدين بسبب التقية – على فرض وجود مثل هذه الحالة – إذا رجع قليلاً إلى نفسه وحاكمها بإنصاف سيجد أنّه يعمل بالتقية فطرياً في مواطن كثيرة بغض النظر عن موقف الدين بإزائها وهذا هو حال تلك الجماعات التي من المفترض أن يلتحق بصفوفها هي الأخرى لا تخلو في تفاصيل عملها من الأخذ بالتقيّة عند الاضطرار إليها، لأنّ العقل مؤسِّس هنا والنصّ إرشاديٌ.
نعم قد تلتبس الأمور على الانسان أحيانا بسبب الشبهات التي تتقاذف المجتمع ويأتي هنا ضرورة أن يطلب كلّ إنسان من العلم ما يُحصّن به نفسه بالإضافة إلى ضرورة الرجوع إلى العلماء .
وأمّا إذا كان الإنسان واقفاً على كلّ ذلك ومع ذلك يريد الخروج من الدين فلا حاجة للدين في مثله ولا يسع علماء الدين أن يُحرِّفوه ليرضى به هذا وأمثاله، يقول المرجع الديني السيد محمد سعيد الحكيم (دام ظله): " ليست وظيفة المرجعيّات الدينيّة البشريّة من الأنبياء، ثم الأوصياء، ثم العلماء إلّا التعرّف على الدين وأخذه من مصادره وتراثه الأصيل، ثم التعريف به وبيانه للجمهور بحقيقته من دون تحوير ولا تغيير، مهما كلّف ذلك من ثمن، ومن دون اهتمامٍ بإرضاء الناس ولا مراعاةٍ لضغوطهم أو عواطفهم ‏فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ. ولا يهمهم تكثير المنتسبين للدين ولا كسب إعجاب الآخرين به على حساب تحويره وتحريفه " (فقه الاستنساخ البشري وفتاوى طبية: ص133).

خلاصة الجواب مع توصيات ختاميّة

1- إنّ مناط التقية ليس حضور الإمام وغيبته ليصحّ التفريق بين الزمانين بل مناطها هو خوف الضرر على الحق وأهله وهذا ملاك عام من حيث الزمان والمكان فكما يتحقق في عصر الحضور يتحقق أيضا في عصر الغيبة.
2- إنّ أدلة مشروعية التقيّة مطلقة من حيث الزمان ولم تقيّد مشروعيتها بعصر حضور المعصوم دون غيبته.
3- إنّ التقية في بعض مواردها واجبة وفي بعضها الآخر محرَّمة وهذه مسألة فقهية يُرجع فيها للفقيه الأعلم.
4- إنّ تشخيص الظرف من حيث اقتضائه للتقية أو عدم اقتضائه يتطلب معرفة واسعة بالعوامل الموضوعية التي تحيط بالمؤمنين في مختلف البلدان وهذا أمر لا يتسنى لكلّ أحد أن يخوض فيه، بل مقصور على مَن له معرفة بزمانه وإلمام بظروف المؤمنين، نعم يمكن لكلّ شخص أن يحدد ظرفه الخاص إن كان على معرفة بما يحفّه من عوامل موضوعية.
5- إنّ مورد التقيّة هو خوف الضرر في حال عدم العمل بها وإلّا فلا يصح التمسك بها في حال عدم الضرر قال السيّد الخوئي (قدّس سرّه): " إنّ التقيّة متقوِّمة بخوف الضرر الذي يترتب على تركها ومع العلم بعدم ترتب الضرر على ترك التقيّة لا يتحقق موضوع للتقيّة" . فهذا المورد (عدم وجود الضرر) خارج عن التقية عنده (قدّس سرّه) تخصصاً لا تخصيصاً.
6- إنّ قيام الحكومة الاسلاميّة لا يتوقف على عدم التقية فحسب بل يخضع لحسابات نظرية وعملية ومحاكمات للظروف والعوامل الموضوعية أعمق بكثير من هذا التعامل السطحي مع الموضوع.
7- التقية ليست حكماً تعبدياً محضا بل للعقل القدرة على إدراك مناطها والحكم بها لذا لن تجد على وجه البسيطة من لا يُذعن بها ويلجأ إليها عند الاضطرار شيعياً كان أم غير شيعي، مسلماً كان أم غير مسلم ومن هنا كان افتراض نفور الناس من الدين بسبب التقية افتراض في غاية البعد.
8- ينبغي التفريق بين التقيّة وبين المهادنة والمداهنة فهذه الثلاثة لكلّ منها مفهومه الخاص وإن كان يُطلَق بعضها على بعض أحيانا تسامحاً وتجوزاً.
9- دعوى أنّ الشيعة أصبحوا أصحاب الكلمة العليا ولم تعد ظروفهم كما كانت في عصر المعصوم .. هذه الدعوى مجازفة لا يمكن الاستناد إليها في الواقع العملي لأنّا إذا سلّمنا بذلك في بضعة مناطق هنا أو هناك فالأمر قطعا ليس كذلك في كثير من المناطق التي يتواجد فيها الشيعة في مختلف بقاع العالم والذين تتفاعل وتنفعل أوضاعهم سلباً وإيجاباً بما يصدر عن المراكز العلميّة الشيعيّة كالنجف الأشرف وقم المقدّسة فهذا أمر يجب أن يُحسب له ألف حساب قبل ركوب مثل هذه المجازفات.
10- على فرض وجود من يتّخذ التقيّة غطاء لمساندته للظالمين فالعيب هنا ليس في التقية وإنمّا في التطبيق الملتوي لها وهذا كما قد يتفق وقوعه في موضوع التقية يقع في غيرها أيضاً، ولا يوجب رفع اليد عنها أبداً غاية ما في الأمر يوجب إعادة تقييم آلية تطبيقها . والله وحده وليّ التوفيق وهو المستعان.
ودمتم سالمين
يمكنكم التعقيب على الجواب في خانة التعليقات في الأسفل.

لإرسال سؤال جديد إضغط هنا