القائمة الرئيسية

الصفحات

عناصر صناعة الحياة وجدليّة العلم والنفس | السيّد جعفر الحكيم دام عزّه

عناصر صناعة الحياة وجدليّة العلم والنفس السيد جعفر الحكيم دام عزّه

عناصر صناعة الحياة وجدليّة العلم والنفس | السيد جعفر الحكيم دام عزّه

المحور الأوّل من محاضرة تمّ إلقاؤها ضمن برنامج مجلس العزاء السنوي لممثليّة المرجعية الدينية في بغداد - مسجد آل ياسين
المحاضر: سماحة السيد جعفر الحكيم (دام عزّه)
المكان: بغداد - الصحن الكاظمي الشريف
التاريخ: ليلة 9 محرم الحرام 1442هـ

[ عناصر صناعة الحياة ]

صناعة الحياة تتكفّلها أربعة عناصر:
العنصر الأوَّل: هو العلم 
العنصر الثاني: هو السلوك
العنصر الثالث: عالم الطبيعة
العنصر الرابع: النفس
وكلّ واحدٍ منها له مقوّماته كما أنّه يخضع كلّ منها لمنهجيّة معيّنة والتي يمكن أن تنحرف باتجاه الافراط أو التفريط، فالعلم له منطقه ومنهجيّته ومحدداته، وتجاوز هذه المحددات يجعله جُربزة، كما أنَّ عدم الالتزام بالمنهجيّة يُصيّره فوضى، لذا نجد اليوم ثمَّة مؤسسات ضخمة تؤسس وتراقب منهجيّة العلم وترسم له قوانينه ليكون نافعاً ومُجدياً، وإلّا فمن دون المنهجيّة يتحوَّل العلم الى ظاهرةٍ ضارة وفي أقلّ الأحوال يكون غير نافع.
وأمّا عالم المادة (الطبيعة) فهو عالم صامت (لا يفكر) ليس له منهجيّة معيّنة يتمكّن من خلالها من إدارة نفسه بنفسه نعم ثمَّة قوانين طبيعية تحكم حركته ولكن الاستفادة من مفرداته والتطور من خلاله لا يأتي من خلال العالَم نفسه وإنما الانسان هو الذي يستفيد من ظاهرة عالم الطبيعة فيقوم بتجزئتها واعادة تركيبها وبالتالي يصنع منها شيئاً جديداً.
وأمّا السلوك (الحركة التي يقوم بها الإنسان) فأيضاً هو صامت وإنَّما يكتسب الكثير من سِماته من الداخل الإنسانيّ، فتجدنا مثلاً نقسِّم السلوك إلى واعٍ ولا واعي، وشعوري وغير شعوري، واختياري وغير اختياري، وكلّ هذه التصنيفات إنَّما تأخذ أساسها من داخل الإنسان كالشعور والوعي والاختيار وغيرها فهذه كلها عبارة عن أمور مرتبطة بداخل الإنسان.
وأمّا العنصر الرابع وهو النفس فهي أيضا لها محدداتها ولها منهجيتها الخاصة المختلفة تماماً عن منهجيّة العلم وهنا تبدأ الاشكاليّة العظمى في حياة الانسان.

إشكالية المرجعية النهائية بين العلم والنفس

تعدّ هذه الاشكالية إحدى أهمّ الجدليات في حياة الإنسان وتتمثّل في أنّ المرجعية النهائيّة هل هي للعلم أو للنفس؟ وبعبارة أخرى: مَن منهما يصنع الحضارة والتطور وبه يتقدم الانسان؟.
القدر المتيقّن الذي لا اختلاف فيه أنّ كلاً من العلم والنفس له دور مهمٌ في صناعة السلوك وفي الاستفادة من عالم الطبيعة وتطويره ولكن السؤال ليس عن دورهما من حيث المبدأ، وإنّما عن المرجعيّة النهائيّة والذي له الكلمة الأخيرة هل هو العلم بقانونه ومنهجه أو أنّها للنفس؟
هذه اشكاليّة حقيقيّة؛ إذ نجد كثيراً من الناس يركّز على العلم ويَخُصّه باهتمامه كأنّه كلّ شيء، بينما يُهمل النفس ودورها، في الوقت الذي نجد النفس في الواقع تضطلع بمهمتين أساسيتين:
الأولى: إنّ النفس هي الفاعل وليس العلم فالذي يفعل وبيده المبادرة إنَّما هو النفس، فهي التي تخطو وليس العلم، نعم العلم هو شرط في حركة النفس يترك فيها أثره الايجابي حتماً ولا نقاش في هذا فلسنا هنا في صدد التقليل من أهميّة العلم الكبرى ولكنّه لا يمثّل كلّ شيء.
الثانية: إنّ النفس هي القابل والمؤثر، فهي التي تلتذ وهي التي تكره، هي التي تريد وهي التي ترفض، هي التي تتألّم وهي التي تفرح، وهكذا الحب والتصميم والقرار هذه كلها عبارة عن ظواهر نفسيّة، وليس شيء منها ممّا يقوم به العلم.
فالنفس هي التي تؤسّس وتبادر وهي التي تتأثر فإذا بادرت مثلاً بخطوة من قبيل شرب الماء يعود ذلك عليها بالشعور بالإلتذاذ والارتواء، فهي التي تبادر وتفعل وهي التي تتأثر وتنفَعِل وهكذا، فالمردودات العمليّة سواء الايجابية او السلبية إنَّما هي على النفس.
فمثلاً الإنسان في حالة البكاء مشاعره هي التي تتحرك بحيث يجد نفسه بحاجة إلى البكاء ولا يكفي العلم لوحده في إيصاله الى تلك الحالة وإنّما لابدّ من وضع النفس في بيئة معيّنة بحيث تتأثر وتظهر انفعالاتها على الجسد والعين فتظهر بصورة البكاء كما نلاحظ في الفرق بين واقعة عاشوراء كقضية علميّة قبل محرم عند مقارنتها بالبيئة المحفزة والمؤثرة في محرم.
من هنا ينبثق هذا السؤال الحقيقيّ عن المرجعيّة النهائيّة بينهما، فهل العلم يفرض كلمته على النفس أو العكس؟ وحتماً لا يمكن أن نؤسّس لحركة النفس مع الجهل وإلّا ستكون النتيجة هي التخلُّف والتراجع واللااستقرار والفوضى و... لهذا أوْلَتْ الأمم عنايتها للعلم والتعليم فهذا لا نقاش فيه وإنَّما النقاش في أنّنا إذا تحوّلنا الى علماء ومثقفين هل تكون هنا نهاية المطاف؟ أو أنَّ النفس لها أثرٌ أيضاً؟
في الحقيقة النفس قد تعيق المعلومة، فالإنسان أحياناً يعرف الحقيقة ولكن يكابر عليها، والمكابرة ظاهرة نفسيّة، قال النبي نوح (عليه السلام): ربي {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} سورة نوح/ 7، فالإشكاليّة كانت نفسيّة، استكبارهم هو الذي أعاق دعوة نوح (عليه السلام) التي لا نقاش في حقانيتها، وهذه الإعاقة بطبيعة الحال إعاقة غير منهجية ولا ترتبط بالجانب العلمي، وإنَّما هي إعاقة نفسيّة تتمثل بحالة العناد والمكابرة التي تكفي لجعل الانسان يتمرَّد على أوضح الواضحات حتى تبلغ به مبلَغاً عظيما بحيث يقوم بتسخير الجهاز الإدراكي من أجل التنظير للباطل الذي هو في بطلانه بمستوى عالي من الوضوح، وهذا بخلاف ما عليه النفس السليمة السويّة فهي تستقبل الحق وتتأثر به بل تُعيد إنتاجه ليتمظهر في سلوكها الذي يأتي متوازنا مع النفس وترجمةً للمعلومة الصحيحة، فالنفس الهادئة المستقرة تتفاعل مع العقلائيات والبداهات والفطريات و... ثم تترجمها في سلوكها.

[ الجواب المختار في جدليّة العلم والنفس ]

فهمي أنّ المرجعيّة النهائيّة هي للنفس (الأخلاق)، فإننا إذا وضعنا العلم إلى جانب الأخلاق نستشعر بوضوح أنّ المرجعيّة النهائيّة للنفس، فهي بقدر ما تستقر وبقدر ما توضع في بيئة مستقرّة وهادئة ومتوازنة بقدر ما تتفاعل مع الحق والحقيقية، فلا تتمرد بل تتصف بحالة من التواضع فتستقبل المعلومة وتعيد انتاجها أو تترجمها إلى سلوك، وهكذا في الطرف المقابل بقدر ما النفس تضطرب وتُبتلى بأمراض ومشاكل بقدر ما نجد أنّ العلم يكون هو الضحيّة بالدرجة الأولى والسلوك بالدرجة الثانية والأمّة بالدرجة الثالثة وفي الدرجة الرابعة يكون عالم الطبيعة هو الضحيّة، هذا قانون.
ومنه يتضح أننا بقدر ما نوجّه اهتمامنا للعلم ومؤسَساته ومَظاهره ونشاطاته نحتاج وعلى أقلّ التقادير إلى الاهتمام بالأنشطة التي تهذّب نفوسنا وتُوَجِّهُهَا وِجهَتها الصحيحة اهتماماً مساوياً لاهتمامنا بالعلم؛ لأنّ النفس إذا اضطرَبت تختلّ كلّ الخارطة العلميّة، لأنّها كما بيّنا ستشكّل إعاقة غير منهجية حتى لأوضح الواضحات. فالعلم والسلوك وعالم الطبيعة والأمّة أيضاً كلها تحت رحمة النفس، هذا واقع يجب أن نفهمه.

[ موقعيّة النفس في النص الديني ]

في ضوء ما سبق عندما نراجع النص الدينيّ نجد توجّهاً وخطاباً وتوجيهاً وتعاليمَ موجَّهةٌ إلى النفس كما أنّه في الوقت ذاته هناك تعاليم توجهَتْ إلى العلم والتأكيد عليه وعلى التدبّر والتعقل والتفكر.
فمن تلك التعاليم مثلاً عندما رجعت السرية من الجهاد أطلق النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) كلمته إذ قال لهم: " مرحباً بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر وبقي الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس" الكافي: 5/ 12. فالقتل والقتال وجبهة المعركة وكلّ ما يرافقه من آثار ونتائج يبقى جهاداً أصغر في قبال جهاد النفس.
ومنها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " إنّما هي نفسي أروضها بالتقوى" نهج البلاغة: 746.
ولهذا قدَّم القرآن الكريم توصيفات متعددة للنفس كقوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} سورة القيامة/2. وقال تعالى أيضا: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} سورة يوسف/53.
وهكذا نجد الكتاب الكريم يقدِّم توصيفاً للنفس في الطرف المقابل كقوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} سورة الفجر/27.
فكما أنَّ هناك نفساً لوّامة وأخرى أمّارة هناك أيضاً النفس المطمَئنَّة، لذا نجد أن من صفات المؤمن التي تضعها النصوص أنّه " وقور عند الهزاهز" (ظ: الخصال، الشيخ الصدوق: 406) فهذا الوقار عند الهزاهز يُجَنِّب الإنسان المغامرات غير المحسوبة والمواقف المرتجَلَة لأنّ الإنسان المهزوز الذي يتصرَّف بمنطقٍ مضطَرِب قد تأتي نتائجه غير محسوبة ومُربكة ومن ثمّ تأتي التبعات أسوء ممّا لو بقي على حاله الأولى، لأنّ تصرفاته كانت غير محسوبة، بينما السكينة والوقار تمنح الانسان قُدرَة على اتخاذ موقفٍ صحيحٍ.
وفي االزيارة التي يُزار بها النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) تقول : " السلام على صاحب السكينة" (بحار الأنوار: 97/149) فالسَكينة ظاهرة من ظواهر النفس وهي صفة من صفات النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) .
والخلاصة أنَّ النصوص الدينية في هذا المجال تؤكِّد على التواضع والسَكينة والحِلم والوقار...
إذن المرجعيّة النهائيّة هي للنفس وهنا أؤكِّد على أننا لسنا في صدد التقليل من قيمة عالم الطبيعة بل هو يمثِّل المواد التي يتحرَّك بها الإنسان لتطوير حياته كما لسنا في صدد التقليل من قيمة السلوك، فالإنسان المشلول الفاقد للقدرة على السلوك والحركة يكون عديم الفائدة كما لسنا في صدد تقليل قيمة العلم بل هو كلّ شيء وفي الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " قيمة كلّ امرء ما يُحسنه"  إلا أننا في صدد التأكيد على محورية النفس وأنها هي مركز الاستقطاب فهي التي بإمكانها أن تتقبل المعلومة وتعيد انتاجها كما بإمكانها أن تُتلفها وتمسخها.

لمشاهدة المحاضرة على اليوتيوب : إضغط هنا