الدليل الفلسفي على وجود الله تعالى | السيد الشهيد محمد باقر الصدر
يُعرَّف الدليل الفلسفيّ بأنّه: الدليل الّذي يُعتمَد لإثبات واقعٍ موضوعيّ في العالَم الخارجيّ على معلومات عقليّة - أي المعلومات العقليّة التي لا تحتاج إلى إحساسٍ وتجربة - إضافة إلى اعتماده على مبادىء الدليل الرياضيّ (1) الذي يُستعمل في مجال الرياضيّات البحتة، ويقوم على مبدءٍ أساس وهو مبدأ عدم التناقض (2).
وهذا لا يعني بالضرورة أنَّ الدليل الفلسفيّ لا يَعتمد على معلوماتٍ حسّيّة أو استقرائيّة، وإنَّما يعني أنَّه لا يكتفي بها، بل يعتمد إلى جانب هذا أو بصورة مستقلّة عن ذلك على معلومات عقليّة أخرى في إطار الاستدلال على القضيّة التي يُريد إثباتها، لذا يختلف الدليل الفلسفيّ عن الدليل العلميّ - السابق الذكر - في تعامله مع معلومات عقليّة لا تدخل في نطاق مبادىء الدليل الرياضيّ.
ولكنّ السؤال الّذي يطرح نفسه: هل بالإمكان الاعتماد على المعلومات العقليّة بدون حاجة إلى إحساس وتجربة أو استقراء علميّ؟
والجواب عن ذلك بالإيجاب، فإنّ هناك في معلوماتنا ما يحظى بثقة الجميع (كمبدأ عدم التناقض)، القائل: إنّ (أ) هي (أ) ولا يُمكن أنْ لا تكون (أ). هذا المبدأ تقوم عليه كلّ الرياضيّات البحتة، ويقوم إيماننا به على أساس عقليّ، وليس على أساس الشواهد والتجارب في مجال الاستقراء العلميّ.
وبكلمة أخرى: إنّ رفض الدليل الفلسفيّ لمجرّد أنّه يعتمد على معلومات عقليّة لا ترتبط بالتجربة والاستقراء, يعني رفض الدليل الرياضيّ أيضاً, لأنّه يعتمد على مبدأ عدم التناقض الّذي لا يرتبط اعتقادنا فيه بالتجربة والاستقراء (3).
القضايا الثلاث المكوّنة للدليل الفلسفيّ
يعتمد هذا الدليل على القضايا الثلاث التّالية:
أوّلاً: إنّ كلّ حادثة لها سبب، وهذه قضيّة يُدركها الإنسان فطريّاً، ويؤكّدها الاستقراء العلميّ.
ثانياً: كلّما وُجدت درجات متفاوتة من شيء ما، بعضها أقوى وأكمل من بعض، فليس بالإمكان أنْ تكون الدرجة الأقلّ كمالاً والأدنى محتوى، هي السبب في وجود الدرجة الأعلى، فالحرارة (مثلاً) لها درجات بعضها أشدّ وأكمل من بعض، فلا يُمكن أنْ تنبثق درجة أعلى من الحرارة عن درجة أدنى منها, لأنّ كلَّ درجة أعلى تُمثِّل زيادة نوعيّة وكيفيّة على الدرجة الأدنى منها، وهذه الزيادة النوعيّة لا يُمكن أنْ يمنحها من لا يملكها.
ثالثاً: إنّ اختلاف درجات الوجود في هذا الكون وتطوّرها يعني تنوّع أشكاله كيفيّاً مع ارتفاع كلّ درجة، فمثلاً: إنّ المادّة في تطوّرها المستمرّ تتّخذ أشكالاً مختلفة في درجة تطوّرها، فالجزئيّ من المادّة الّذي لا حياة فيه ولا إحساس يُمثِّل شكلاً من أشكال الوجود للمادّة، بينما نطفة الحياة الّتي تُساهم في تكوين النبات والحيوان تُمثِّل شكلاً أرفع لوجود المادّة، هذا في حين أنّ (الإنسان) الكائن الحيّ والحسّاس، يُعتبر الشكل الأعلى من أشكال الوجود في هذا الكون.
أمام هذه القضايا الثلاث للدليل الفلسفيّ يُطرح سؤالان:
السؤال الأول: هل الفارق بين التراب والإنسان - الّذي تكوّن منه - عدديّ فقط أو هو الفارق بين درجتين من الوجود ومرحلتين من التطوّر والتكامل، كالفارق بين الضوء الضعيف والضوء الشديد؟
ينطلق الفكر المادّيّ – الميكانيكيّ، في جوابه عن هذا السؤال، من نظرته الميكانيكيّة في تفسير الكون، والقائلة بأنّ العالَم الخارجيّ يتكوّن من جسيمات صغيرة متماثلة، تؤثّر عليها قوى بسيطة متشابهة جاذبة وطاردة ضمن قوانين عامّة, أي أنّ عملها يقتصر على التأثير بتحريك بعضها لبعض من مكان إلى مكان، وبهذا الجذب والطرد تتجمّع أجزاء وتتفرّق أجزاء وتتنوّع أشكال المادّة، بالتّالي لا يحصل تطوّر جديد في المادّة، فالمادّة لا تنمو في وجودها، ولا تترقّى في تطوّرها، وإنّما تتجمّع وتتوزّع بطرق وأشكال مختلفة.
ولكنْ بالرغم من استناد ذلك الجواب إلى علم الميكانيك، وما قدّمه من نجاح في اكتشاف قوانين الحركة الميكانيكيّة وتفسير الحركات المألوفة للأجسام الاعتياديّة على أساسها، إلّا أنّ استمرار تطوّر هذا العِلم في مجالات الحياة المختلفة أثبت بطلان الجواب المادّيّ الميكانيكيّ وتفسيره لكلّ حركات الكون تفسيراً ميكانيكيّاً. بل أكّد العِلم ما أدركه الإنسان بفطرته - منذ زمن بعيد - من أنّ تنوّع أشكال المادّة لا يعود إلى مجرّد نقلة مكانية من مكان إلى آخر، بل إلى ألوان من التطوّر النوعيّ والكيفيّ.
إذاً، فالجواب الإسلاميّ عن السؤال، هو ما يتطابق مع فطرة الإنسان، الّتي تؤمن بأنّ الأشكال المختلفة في الوجود هي عبارة عن درجات ومراحل من التكامل. فالحياة درجة أعلى من الوجود للمادّة، وهذه الدرجة نفسها ليست حدّيّة وإنّما هي أيضاً درجات، وكلّما اكتسبت الحياة مضموناً جديداً عبّرت عن درجة أكبر، ومن هنا كانت حياة الكائن الحسّاس المفكّر أغنى وأكبر درجة من حياة النبات وهكذا.
السؤال الثاني: إذا كان الفارق (أو الاختلاف) بين أشكال الوجود في هذا الكون هو فارق نوعيّ وكيفيّ، بما يُعبّر عن وجود تطوّر ونموّ وزيادة في وجود هذه الأشكال، فمن أين جاءت هذه الزيادة الجديدة - في المادّة - وكيف ظهرت ما دام أنّ لكلِّ حادثة سبباً كما تقدّم؟.
توجد بهذا الصدد ثلاث إجابات:
الأولى: أنّ هذه الزيادة الجديدة الّتي تُعبّر عنها المادّة من خلال تطوّرها، قد جاءت من المادّة نفسها, أيّ أنّ الشكل الأدنى من وجود المادّة كان هو السبب في وجود الشكل الأعلى درجة.
ولكنّ هذه الإجابة تتعارض مع القضية الثانية من قضايا الدليل الفلسفيّ، الّذي يُقرِّر أنّ الشكل الأدنى درجة لا يُمكن أنْ يكون سبباً لما هو أكبر منه درجة، وأغنى منه محتوى من أشكال الوجود.
الثانية: أنّ هذه الإجابة ذهبت - أيضاً - إلى أنّ الزيادة الجديدة الّتي تُعبّر عنها المادّة من خلال تطوّرها، قد جاءت من المادّة نفسها، ولكنْ لا كما هي في الإجابة الأولى من الأدنى إلى الأعلى بما يتعارض مع القضيّة الثانية من الدليل الفلسفيّ، بل إنّ ذلك يتمّ على أساس أنّ كلَّ أشكال التطوّر ومحتوياته موجودة في المادّة منذ البدء، فمثلاً: الدجاجة موجودة في البيضة في وقت واحد، ويعني ذلك أنّ كلَّ شيء يحتوي على نقيضه - ضدّه - في أحشائه وهو في صراع مستمرّ مع هذا النقيض، وبهذا الصراع بين النقيضين ينمو النقيض الداخليّ، حتّى يبرز ويُحقّق تحوّلاً في المادّة، كالبيضة تنفجر في لحظة معيّنة ويبرز فرخ الدجاجة من داخلها، وعن هذا الطريق تتكامل المادّة باستمرار.
ولكنّ السؤال الّذي يرد هنا: ماذا يُقصد بالضبط من أنّ الشيء يحتوي على نقيضه أو ضدّه؟ وبالتحديد أيّ المعاني التّالية هو المقصود؟
أ- فهل يُراد بذلك أنّ الميّت(أي البيضة) يلد الحيّ (أي فرخ الدجاجة) ويسبغ عليه الحياة، وهذا ما يتعارض مع الفقرة الثانية من الدليل الفلسفيّ، وهي أنّ الأدنى درجة لا يُمكن أنْ يُعطي الأعلى درجة؟
ب- أو يُراد بذلك أنّ البيضة لا تلد الفرخ، بل تُبرزه بعد أنْ كان كامناً فيها, لأنّ كلّ شيء يكمن فيه نقيضه. فالبيضة حينما كانت بيضة هي في الوقت نفسه فرخ دجاجة. ولكنْ من الواضح أنّ البيضة إذا كانت في الوقت نفسه فرخ دجاجة، فلا توجد هناك أيّ عمليّة نموّ أو تكامل عندما تُصبح البيضة دجاجة, لأنّ كلَّ ما وجد الآن كان موجوداً منذ البدء، تماماً كالشخص يُخرج نقوده من جيبه فلا يزداد بذلك ثراء، لأنّ كلَّ ما بيده الآن من نقود كان في جيبه.
ج- أو يُراد بذلك أنّ البيضة نفسها تُعبّر عن ضدّين أو نقيضين مستقلّين، لكلٍّ منهما وجوده الخاص، فأحدهما: يتمثّل في النطفة الّتي سببها في داخل البيضة اللقاح، والآخر: سائر ما تحتويه البيضة من موادّ؟
وهذان الضدّان وحّدتهما معركة في داخل قشر البيضة، وأبرز ذلك الصراع انتصار أحد الضدّين وهو النطفة، فتحوّلت البيضة إلى فرخ دجاجة.
ولكنّ السؤال: هذا التناقض، أو الاندماج، أو التوحّد بين الضدّين ـ مهما تكن تسميته ـ فإنّه يؤديّ إلى نتيجة أكبر، إلى عملية نموّ، إلى شيء جديد يزيد على المجموع العدديّ لهما، فمن أين جاءت هذه الزيادة؟
فهل جاءت من الضدّين المتصارعين الفاقدين معاً لها، مع أنّ فاقد الشيء لا يُعطيه، بحكم القضيّة الثانية من الدليل الفلسفيّ المتقدّم؟
الثالثة: ترى هذه الإجابة، أنّ الزيادة الجديدة الّتي تُعبّر عنها المادّة من خلال تطوّرها، قد جاءت من مصدر خارجيّ يتمتّع بكلِّ ما تحتويه تلك الزيادة الجديدة من حياة، وإحساس، وفكر، وهو الله ربّ العالمين. وليس نموّ المادّة إلا تربية وتنمية يُمارسها ربّ العالمين بحكمته، وتدبيره، وربوبيّته: "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ"(4).
وهذه هي الإجابة الوحيدة الّتي تنسجم مع القضايا الثلاث المتقدّمة، وتستطيع أنْ تُعطي تفسيراً معقولاً لعمليّة النموّ والتكامل في أشكال الوجود على ساحة هذا الكون الرحيب.
وبعد أنْ ثبت لدينا وجود الصانع الحكيم لهذا الكون والحياة من خلال الدليلين العلميّ (الاستقرائيّ) والفلسفيّ، فإنّنا نختم هذا المبحث مع مسألة عدالة هذا الصانع الحكيم سبحانه وتعالى.
المصدر : كتاب المرسل والرسول والرسالة، تأليف السيد الشهيد محمد باقر الصدر
الهوامش
(1) يقسم الدليل إلى ثلاثة أقسام: الدليل الفلسفيّ، الدليل الرياضيّ، الدليل العلميّ.
(2) الدليل الرياضيّ الّذي يعتمد على مبدأ عدم التناقض، يحظى بثقة الجميع، كما سيأتي في بيان ذلك لاحقاً.
(3) للمزيد من التفاصيل والتعمق يراجع كتاب: الأسس المنطقيّة للاستقراء، لمؤلّفه الشّهيد السّعيد السّيد محمّد باقر الصّدر قدس سره
(4) سورة المؤمنون، الآية 12-14