القائمة الرئيسية

الصفحات

بحث في حجية توثيقات علماء الرجال و تضعيفاتهم - آية الله السيد محمد رضا السيستاني (حفظه الله)


حجية توثيقات الرجاليين وتضعيفاتهم - السيد محمد رضا السيستاني
حجية توثيقات الرجاليين وتضعيفاتهم - السيد محمد رضا السيستاني (حفظه الله)

تنويه: هذا البحث مستل من كتاب (قبسات في علم الرجال، أبحاث السيد محمد رضا السيستاني، جمعها ونظمها السيد محمد البكاء، دار البذرة، 1436هـ : ج1/ 9- 20) .

 توثيقات الرجاليين و تضعيفاتهم (1)

إنَّ معظم من قالوا بحجية ما ورد في كلمات الرجاليين ــ كالشيخ والنجاشي وغيرهما ــ من التوثيق والتضعيف قد سلكوا في ذلك مسلكين..

المسلك الأول: حجية توثيقاتهم و تضعيفاتهم من باب حجية خبر الثقة في الموضوعات

وكبرى هذه المسألة يبحث عنها غالباً في الفقه في كتاب الطهارة (2)، كما أن البحث عن كبرى حجية خبر الثقة في الأحكام محله علم الأصول.

وقد ذهب كثير من المتأخرين ــ ومنهم السيد الأستاذ (قدس سره) ــ إلى حجية خبر الثقة في الموضوعات الخارجية خلافاً لما نسب إلى المشهور من عدم حجيته، وهذا بحث طويل الذيل لا يتسع المقام له، ولكن لا بأس بالإشارة إلى أن عمدة ما استدل به للحجية هي السيرة العقلائية، وقد سلّم ثبوتها غير واحد وإنما بحثوا عن ورود الردع عنها وعدمه، ولكن من يتتبع سيرة العقلاء في مواردها المختلفة ربما لا يحصل له العلم بجريان سيرتهم على التعبد بخبر الثقة ولا سيما في الموضوعات، بل كون العمل بمقتضاه منوطاً عندهم بحصول الاطمئنان، أو بكون المخبر عنه من الأمور المهمة التي يكتفى فيها بما دون الاطمئنان، فليتأمل.

هذا بالنسبة إلى كبرى حجية خبر الثقة في الموضوعات.

وأما كون توثيقات الرجاليين وتضعيفاتهم من صغرياتها فقد يناقش فيه بأن الوثاقة والضعف ليسا من الأمور الحسية ــ أي مما ينال بإحدى الحواس الخمس ــ ليكون الإخبار عنهما من قبيل الإخبار عن الموضوع الخارجي.

ولكن يمكن الجواب عن هذه المناقشة بأن الوثاقة ــ مثلاً ــ وإن لم تكن بنفسها من الأمور الحسية ولكن مبادؤها كذلك، أي أنها مبذولة لكل من يملك الحواس السليمة، فهي ــ أي الوثاقة ــ ملحقة بالأمور الحسية من حيث إن إدراكها لا يحتاج إلى تخصص معين أو إعمال نظر واجتهاد.

وبعبارة أخرى: إن من يقول بحجية خبر الثقة في الموضوعات لا يفرق فيه بين ما يكون المخبر عنه بنفسه من المحسوسات وبين ما تكون مبادؤه القريبة كذلك، والوثاقة ونحوها من النحو الثاني، فلا محل للمناقشة الصغروية في المقام.

هذا بالنسبة إلى توثيق الشخص لمعاصره المعاشر معه كتوثيق الفضل بن شاذان لمحمد بن عيسى العبيدي.

وأما بالنسبة إلى توثيق من كان بينه وبين من وثقه فاصل زمني ــ كتوثيق ابن نوح لمحمد بن عيسى ــ فهل يعدّ من قبيل الخبر الحسي ليندرج في كبرى حجية خبر الثقة في الموضوعات أم أنه من قبيل الخبر المستند إلى الحدس في المحسوسات الذي لا إشكال في عدم حجيته؟ فيه وجهان.

ويمكن البناء على الوجه الأول مبنياً على مقدمتين..

المقدمة الأولى: أن إخبار ابن نوح ــ مثلاً ــ بوثاقة العبيدي يحتمل أن يكون منتهياً إلى الحس بأحد وجهين..

إما بأن يكون قد بلغه على سبيل التواتر في جميع الطبقات، بأن يكون في كل طبقة عدد من المخبرين يمتنع تواطؤهم على الكذب عادة أو وقوعهم جميعاً في الخطأ والاشتباه، وهذا أمر محتمل بالنسبة إلى بعض الرواة المشهورين ومنهم محمد بن عيسى بن عبيد.

وإما أن يكون قد وصله عن طريق ثقة عن ثقة، والخبر المنقول بطريق الثقات في جميع الطبقات وإن كان حدسياً في الحقيقة ــ لأن كبرى حجية خبر الثقة كبرى اجتهادية نظرية ــ ولكن حيث إنها ــ كما يدعى ــ مما ثبتت ببناء العقلاء يكون الخبر المبني عليها ملحقاً بالخبر الحسي. وأما صغرى كون الراوي الفلاني ثقة فهي وإن كانت اجتهادية بالنسبة إلى قسم من الوسائط إلا أنها غير اجتهادية بالنسبة إلى قسم آخر منهم، لثبوت وثاقتهم بالاتفاق، ويحتمل أن يكون الوسيط المخبر عن وثاقة محمد بن عيسى ــ مثلاً ــ من هذا القبيل، أي من القسم الذي لا إشكال في وثاقته عند الجميع.

المقدمة الثانية: أن بناء العقلاء قائم على أن الإخبار في الأمور الحسية إذا شك في كونه مستنداً إلى الحس أو الحدس يعامل معه على أساس كونه مستنداً إلى الحس.

مثلاً: إذا أخبر أحد عن مجيء زيد أو أنه قال: كذا، واحتمل اعتماده في ذلك على غير حاسة البصر في المجيء أو على غير حاسة السمع في القول ــ بأن اعتمد على بعض القرائن والمناسبات ــ يبنى على كون خبره عن المجيء والقول حسياً لا حدسياً. وهذه الكبرى ذكرت في كلمات جمع منهم السيد الأستاذ (قدس سره) .

فإذا ضُمّت هذه المقدمة إلى المقدمة الأولى كانت النتيجة هي أن خبر ابن نوح بوثاقة محمد بن عيسى العبيدي إنما هو من قبيل الخبر الحسي فيندرج في كبرى حجية خبر الثقة في الموضوعات الخارجية.

وهذا هو الوجه الذي اعتمده السيد الأستاذ (قدس سره) (3) في حجية توثيقات وتضعيفات الرجاليين لمن لم يكونوا من معاصريهم من الرواة.

ولكن يمكن الخدشة في هذا الوجه من جهات..

أولاً: إن ما أدعي من بناء العقلاء على التعامل مع الخبر على أنه حسي إذا كان وارداً في الحسيات ما لم يثبت خلافه، إن صح فإنما يصح فيما إذا احتمل كونه بلا واسطة، وأما الخبر مع الواسطة المحتمل انتهاؤه إلى الحس بأحد الوجهين إما بالتواتر أو بنقل ثقة عن ثقة فلا تصح دعوى بناء العقلاء فيه على ذلك، فإنهم كما يعتمدون أحياناً ــ كما يدعى ــ على خبر الثقة عن ثقة في الإخبار عن الوقائع التي لا تكون محسوسة لهم كذلك يعتمدون أحياناً أخرى على الخبر الموثوق به وإن لم تثبت وثاقة راويه، فلا وجه لحمل الخبر على كونه واصلاً إليهم عن طريق الثقات طبقة بعد طبقة ليكون ملحقاً بالخبر الحسي.

وثانياً: إن وثاقة الوسائط لا تكون في الغالب واضحة تماماً بحيث لا تقع مورداً للإشكال من أحد، إذ كم من شخص ثقة عند كثير من الناس قد طعن فيه واحد أو اثنان من الأجلاء؟!

ودعوى أن بناء العقلاء في الخبر المروي مرسلاً بطريق الرواة الثقات قائم على كون جميع الرواة من المعروفين بالوثاقة ــ بحيث لا يكون مجال لأحد للطعن فيهم حتى فيما لو شك في كونهم من هذا القبيل ــ إنما هي دعوى باطلة لا شاهد عليها في سيرة العقلاء أصلاً.

وثالثاً: إنه لو غض النظر عما تقدم فإنه إنما يتم البيان المذكور لو احتمل في جميع توثيقات وتضعيفات الرجاليين لمن تقدمهم أن تكون مستندة إلى نقل كابر عن كابر، ولكن مقتضى الشواهد والقرائن ــ التي لا تخفى على الممارسين ــ أن جملة وافرة منها تبتني على الحدس وإعمال النظر والاجتهاد ولا سبيل إلى التمييز بين القسمين في الغالب، فليتأمل.

هذا وربما يورد على الوجه المتقدم من جهة رابعة أيضاً، وقد تعرضت لما يشبهه وللجواب عنه في الفصل الخامس عند البحث عن حجية مراسيل الصدوق، فمن شاء فليراجع (4) .

فظهر بما تقدم أن المسلك الأول في حجية أقوال الرجاليين وهو الذي بنى عليه السيد الأستاذ (قدس سره) غير تام.

المسلك الثاني: حجية توثيقاتهم وتضعيفاتهم من باب حجية قول أهل الخبرة في الحدسيات.

وكبرى حجية قول أهل الخبرة مبحوث عنها في علم الأصول، وعمدة الدليل عليها هي السيرة العقلائية القائمة على رجوع الجاهل إلى العالم، بضميمة عدم الردع الذي يستكشف منه الإمضاء الشرعي. فإن بناء العقلاء قائم على أن كل من تخصص في فن تكون أراؤه الحدسية المستحصلة من ممارسته لذلك الفن وتطبيقه لضوابطه وقواعده حجة على غير المتخصص، وحيث إن الشارع المقدس لم يردع عن هذا البناء العقلائي ــ بل هناك شواهد على إمضائه.

ــ يستكشف بذلك ارتضاؤه له واعتماده عليه في الأمور الشرعية.

هذا من حيث الكبرى مسلّم، وأما من حيث الصغرى وكون قول الرجالي مصداقاً لقول أهل الخبرة فيمكن تقريبه بأن علم الرجال علم قائم بذاته له قواعده وضوابطه وهناك علماء تخصصوا فيه، وليس لغيرهم أن يصل إلى ما وصلوا إليه من آراء وأنظار بمقتضى خبرتهم وممارستهم وتضلعهم بقواعد هذا الفن، وهذا واضح لمن لديه أدنى إلمام به، فحال هذا العلم حال بقية العلوم التي جرت سيرة العقلاء على رجوع عامة الناس إلى المتخصصين فيها.

ولكن يمكن الإشكال في حجية توثيقات و تضعيفات الرجاليين من باب حجية آراء أهل الخبرة من جهتين..

الجهة الأولى: أن حجية آراء أهل الخبرة تختص بالأمور التي لا يحصل العلم بها إلا لمن لديه تخصص معين وينظم مقدمات حدسية غير قريبة من الحس للوصول إلى النتيجة، وأما الأمر الحسي أو القريب من الحس الذي يدركه كل من كان سليم الحواس فليس مورداً لحجية الخبر الحدسي. والوثاقة والضعف من هذا القبيل، فإن من يملك الحواس السليمة ويعاشر الشخص يمكنه التوصل إلى كونه ثقة أو لا من دون حاجة إلى تخصص معين.

فالإخبار عن الوثاقة أو الضعف لا يتوقف على إعمال النظر والاجتهاد حتى يلتزم بحجيته من باب حجية أقوال أهل الخبرة.

وهذا لا يعني إنكار كون علم الرجال من العلوم النظرية المبنية على الحدس والاجتهاد، بل مجرد عدم كون التوثيق والتضعيف خاضعين لإعمال النظر والحدس، إذ إن الوثاقة والضعف وإن لم يكونا من الأمور الحسية ولكنهما قريبان من الحس لأن مبادئهما حسية كما سبق، فلا يعدّ الإخبار عنهما من قبيل رأي أهل الخبرة ليلتزم بحجيته من هذه الجهة.

ويمكن الجواب عن هذا الإشكال بأن ما ذكر من كون الوثاقة والضعف من الأمور القريبة إلى الحس صحيح بالنسبة إلى من يعاصره الشخص ويكون قريباً منه، وأما غيره كمن كان قبل مائة عام ــ مثلاً ــ فإن تشخيص وثاقته أو ضعفه يتوقف ــ في معظم الحالات ــ على مقدمات حدسية ونظرية كالشهادات المحكية عن معاصريه مما لا تبلغ درجة التواتر إلا نادراً، وكذلك بعض القرائن والشواهد الأخرى التي من أهمها بالنسبة إلى رواة الأحاديث هو ملاحظة ما رووه في كتبهم وما روي عنهم في كتب غيرهم، ولذلك نجد أن بعض الرجاليين كابن الغضائري يعتمد في جانب مهم من تضعيفاته وتوثيقاته على كتب الرواة وأحاديثهم وكونها نقية من التخليط والغلو ونحوهما أو لا.

وبذلك يظهر أن توثيقات وتضعيفات الرجاليين على قسمين: فمنها ما لا يبتني على مقدمات حدسية كتوثيق أو تضعيف المعاصر لمعاصره، ومنها ما يبتني على الحدس والاجتهاد، وهو الغالب في ما يتعلق بغير المعاصرين للرجالي من الرواة وأصحاب الكتب والمصنفات، وهذا القسم الثاني يعدّ من قبيل آراء أهل الخبرة فيمكن البناء على حجيته من هذه الجهة، فليتأمل.

الجهة الثانية: أن فتوى الفقيه استناداً إلى رواية اعتمد في وثاقة بعض رواتها على قول النجاشي ــ مثلاً ــ من حيث كونه من أهل الخبرة في الرجال يقتضي عدم حجية فتواه، لأنها حسب الفرض تستند إلى مقدمتين: إحداهما تبتني على اجتهاده وهي تمامية دلالة الرواية على ما أفتى به، والثانية قلّد فيها النجاشي وهي كون الراوي لتلك الرواية ثقة، والنتيجة تتبع أخس المقدمتين، أي إذا كانت إحدى المقدمتين لما أفتى به اجتهادية والثانية قد قلّد فيها الغير تكون الفتوى غير اجتهادية فلا تكون حجة على المقلدين.

ومقتضى ذلك أنه لا يجوز تقليد من يأخذ بآراء الرجاليين في التوثيق والتضعيف من باب حجية قول أهل الخبرة، أي في ما يفتي به استناداً إلى روايات تقوم حجيتها عنده على ما صدر منهم من توثيق أو تضعيف.

وقد يجاب عن هذا الإشكال بأن المعتبر في من يجوز تقليده أن يصدق عليه أنه فقيه وفق مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وممن قد نظر في حلالهم وحرامهم وعرف أحكامهم وفق التعبير الوارد في بعض الروايات (5)، وهذا العنوان ينطبق على من يمارس عملية استنباط الأحكام الشرعية وإن كان يعتمد في بعض مقدماتها البعيدة على آراء غيره من أهل الخبرة كآراء النحويين واللغويين والبلاغيين وحتى المناطقة والفلاسفة، أي أنه يكفيه أن يكون متخصصاً في المقدمات القريبة لعملية الاستنباط كالقواعد الأصولية والفقهية، ولا ضير في أن يعتمد في غيرها على سائر أهل الخبرة فإنه لا يضر بصدق كونه فقيهاً، إذ متى صدق أنه فقيه جاز الرجوع إليه وأخذ الفتوى منه.

أقول: إن أصل الإشكال وما أجيب به عنه غير تام..

1- أما أصل الإشكال فلأن من يرجع إلى فقيهٍ يعتمد في توثيق راوي الحديث الذي يفتي بمضمونه على اجتهاد بعض الرجاليين فإنما يكون في الحقيقة مقلداً لشخصين: الرجالي الذي قال إن فلاناً ثقة، والفقيه الذي استند في فتواه إلى رواية فلان من جهة حجية خبر الثقة.

نظير من يرجع إلى طبيب الباطنية فيرسله إلى طبيب المختبر ليشخص نسبة السكر في دمه قبل أن يحدد نوع الدواء وكميته، فالوصفة الطبية في مثل ذلك وإن كانت تكتب بقلم طبيب الباطنية ولكنها في الحقيقة نتاج عمل طبيبين: طبيب الباطنية وطبيب المختبر معاً. وكما لا يصح في هذه الحالة أن يمنع المريض من استعمال الدواء الذي وصفه طبيب الباطنية من جهة أنه اعتمد في تحديد نسبة السكر على رأي طبيب المختبر، كذلك لا يصح في مورد البحث أن يمنع العامي من الأخذ بفتوى الفقيه من جهة أنه اعتمد في وثاقة بعض رواة الحديث الذي أفتى بمضمونه على أقوال بعض الرجاليين.

والوجه في ذلك أن الأساس في حجية رأي الطبيب وفتوى الفقيه هو بناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم وعمله برأيه في ما لا سبيل له إلى العلم به. وهذا مما لا يفرّق فيه بين أن يكون ذلك الرأي نتاج فكر عالم واحد أو نتاج فكر عالمين ــ مثلاً ــ كلٌّ في حقل اختصاصه.

نعم إذا كان حقل اختصاصهما واحداً فلا سبيل إلى التلفيق بين رأي أحدهما في مسألة ورأي الآخر في مسألة أخرى لتكون النتيجة هي حاصل كلا الرأيين، كأن يرى أحد المجتهدين حجية خبر الثقة ويرى الآخر تمامية دلالة خبر زرارة الثقة على حكم، فإن هذا لا يثمر رأياً بثبوت ذلك الحكم يمكن أن يأخذ به العامي كما لعله واضح.

هذا في ما يتعلق بأصل الإشكال.

2- وأما ما ذكر في الجواب عنه فهو غير تام، من جهة أن السيرة العقلائية قد جرت على رجوع الجاهل إلى العالم ــ أي إلى أهل الخبرة والاختصاص ــ وهذه السيرة لا شك في كونها ممضاة من قبل الشارع المقدس حتى في ما يمتد إلى العلوم الشرعية كالعلم بالأحكام الفرعية المسمى بالفقه، والكاشف عن الإمضاء الشرعي ليس هو مجرد عدم الردع بل إن الأمر بالرجوع إلى الفقهاء وأضرابهم من أهل العلم في عشرات الروايات كاشف قطعي عن موافقة الشارع المقدس للمنهج العقلائي في رجوع الجاهل إلى العالم حتى في ما يتعلق بعلوم الشريعة كما في سائر حقول المعرفة.

وهذا في أصله واضح لا إشكال فيه، ولكن هناك نكتة ينبغي الالتفات إليها وهي أن الخطاب الشرعي متى ما ورد في مورد الحكم العقلي أو العقلائي فإنه لا ينعقد له إطلاق بأوسع من دائرة ذلك الحكم وإن لم يكن فيه ما يقتضي التضييق بحسب المدلول اللغوي.

ومن هنا قلنا في محله (6) : إنه لو بني على تمامية ما استدل به من الأخبار على البراءة الشرعية في الشبهات البدوية إلا أنه لما كانت البراءة فيها مطابقة لحكم العقل ــ على المختار ــ فالخطاب الشرعي يعدّ تأكيداً له ولا ينعقد له إطلاق أشمل من دائرة الحكم العقلي، ولذلك فهو لا يعم موارد قوة احتمال التكليف من جهة تعاضد القرائن والشواهد ولا موارد إحراز أهمية المحتمل على تقدير ثبوت التكليف وإن لم يكن احتماله قوياً.

وعلى هذا الأساس يمكن أن يقال في المقام: إن ما جرت عليه سيرة الناس في زمن المعصومين (عليهم السلام) من رجوع الجاهل إلى العالم إنما كان مورده هو الرجوع إلى من هو من أهل الخبرة والاختصاص في جميع المقدمات التي يبتني عليها اجتهاده واستنباطه، فالطبيب مثلاً إنما كان يعتمد على نفسه في جميع ما تتعلق بطبابته ولم يكن الأمر كما في زماننا هذا من اعتماد طبيب الباطنية على طبيب السونار والمختبر والرنين ونحو ذلك، وهكذا حال الفقيه فإنه كان يعتمد على نفسه في جميع ما كان يحتاج إليه في استنباط الحكم الشرعي من العلوم الأخرى كاللغة والتفسير والرجال وغيرها، فما يمكن استكشاف إمضائه من جهة عدم الردع أو من جهة ورود النصوص الخاصة بالإرجاع إلى الفقهاء مثلاً إنما هو الرجوع إلى من يكون صاحب اختصاص في جميع ما يتوقف عليه استنباطه واجتهاده، وأما من يعتمد على شخص آخر في بعض المقدمات التي تتعلق بحقل آخر من حقول المعرفة كاللغة والرجال فلا دليل على حجية قوله.

إن قيل: إن السيرة العقلائية القائمة على رجوع الجاهل إلى العالم إنما هي بمناط كاشفية رأي العالم عن الواقع نوعاً، تلك الكاشفية التي هي غير منوطة بكون العالم معتمداً على نفسه في جميع مقدمات اجتهاده ونظره حتى في ما يتعلق منها بعلم آخر.

نعم لا ينكر أن السيرة العقلائية المذكورة لم تجرِ في عصر المعصومين (عليهم السلام) في مجال الرجوع إلى العالم المعتمد على غيره في بعض المقدمات، ولذلك لا يمكن استكشاف ارتضاء الشارع المقدس للرجوع إلى مثله من خلال عدم الردع أو من خلال النصوص الدالة على الإمضاء، لما مرَّ من عدم انعقاد الإطلاق لها بأوسع مما جرت عليه السيرة العقلائية.

ولكن مع ذلك يمكن القول بأن النكتة التي بلحاظها يتيسر استكشاف إمضاء الشارع المقدس للسيرة العقلائية الممتدة إلى الأمور الشرعية هي ذاتها التي تقتضي في المقام موافقة الشارع على الأساس الذي قامت عليه السيرة العقلائية في رجوع الجاهل إلى العالم، وهو كما سبق كاشفية رأي العالم عن الواقع نوعاً.

وتوضيح المقام: أن تشريع الأحكام لما كان لغرض تأمين الملاكات الكامنة في متعلقاتها فلو فرض أن في ما بنى عليه العقلاء في أمورهم العادية مما يُجرونه بحسب الطبع والعادة في الأمور الشرعية ما لا يرتضيه الشارع المقدس، لمنافاته مع تحقيق الملاكات المولوية، فلا بد له تأميناً لتلك الملاكات من ردع العقلاء عن إجرائه في الأمور الشرعية وإلا يكون مخلاً بملاكات أحكامه، وهو ممتنع في حقه.

وهذا المعنى كما يقتضي قيامه بالردع عما لا يرتضي امتداده إلى الأمور الشرعية من السيرة العقلائية مما يمتد إليها في عصره بمقتضى الطبع والعادة لولا ردعه عن ذلك، كذلك يقتضي ردعه عما يعلم امتداده إليها في المستقبل لئلا تقع الأجيال القادمة في محذور مخالفة الملاكات المولوية.

ففي محل البحث إذا كان الشارع المقدس لا يرتضي للمسلمين الرجوع إلى فقيه يعتمد في بعض مقدمات اجتهاده واستنباطه على غيره من أهل الخبرة في سائر حقول المعرفة، فهذا وإن لم يكن موضعاً لابتلائهم في العصر الإسلامي الأول إلا أنه لما كان يعلم بابتلاء الأجيال القادمة به مستقبلاً فلا بد له أن يتخذ الإجراءات الكفيلة ببلوغ الردع عن ذلك إلى أسماعهم تحفظاً على ملاكات أحكامه، وحيث إنه لم يبلغ إلى أسماعنا كشف ذلك عن موافقته على ما هو المناط في بناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم، وهو كاشفيته النوعية عن الواقع، بلا فرق بين كونه معتمداً على نفسه في جميع المقدمات أو على غيره في بعضها المتعلق بسائر حقول المعرفة.

قلت: إن الملاكات المولوية على درجات متفاوتة في الأهمية وتختلف بحسب ذلك درجة ما تستدعيه من الاهتمام بتبليغها إلى المكلفين، والأحكام المتعلقة بالأمور المستحدثة في عصر غيبة الإمام (عليه السلام) إذا لم يصل الردع عما استجد بناء العقلاء عليه من قِبل الشارع المقدس يجوز أن يكون الوجه فيه اعتماد الشارع في إفادة حكمه المخالف للبناء المستجد على ما تقتضيه العمومات والإطلاقات وما بحكمهما. ويمكن أن يكون من جهة عدم كون الملاك الكامن في الحكم بمرتبة من الأهمية تقتضي التسبب في إيصاله إلى المكلفين بأيِّ نحو كان.

وعلى ذلك لا يمكن التأكد من موافقة الشارع المقدس لما هو مقتضى البناء العقلائي غير المعاصر للمعصومين (عليهم السلام) .

والمتحصل مما تقدم: أن البناء على جواز الرجوع إلى فتوى الفقيه الذي يعتمد على غيره في ما يتوقف عليه استنباط الأحكام الشرعية من العلوم الأخرى ــ غير الفقه وأصوله ــ كاللغة والرجال ونحوهما إنما يتم على أحد تقديرين..

أحدهما: أن ينعقد الإطلاق لنصوص الإرجاع إلى الفقهاء ليشمل مثله.

ولكنه غير واضح، لما مرَّ من أن النص الشرعي الوارد في مورد الحكم العقلائي لا ينعقد له الإطلاق بأوسع من دائرة ذلك الحكم بموجب السيرة العقلائية في عصر صدور النص.

ثانيهما: أن يبنى على أن العبرة في موارد السيرة العقلائية الممضاة من قِبل الشارع المقدس إنما هي بالنكتة التي تبتني عليها السيرة، أي أنها إذا كانت أوسع مما هو مورد الجري العملي بني على أوسعية الحكم الشرعي. ولكن هذا أيضاً غير تام، فإن الإمضاء الشرعي لا يلحق المرتكز العقلائي وإنما يلحق ما جرت عليه السيرة في عصر المعصوم (عليه السلام) كما مرَّ توضيحه آنفاً.

فالنتيجة: أن السيرة العقلائية ــ الممضاة بالنصوص الشرعية ــ التي هي الدليل على حجية فتوى الفقيه في حق العامي لا تفي بإثبات حجيتها فيما إذا كان الفقيه معتمداً في بعض مقدمات استنباطه على رأي غيره من أهل الخبرة، وإن كان ذلك في بعض العلوم الأخرى كعلم الرجال كما هو محل البحث.

وعلى ذلك فالصحيح اشتراط أن يكون الفقيه متخصصاً في جميع المجالات المرتبطة باستنباطه للحكم الشرعي سواء في اللغة أو النحو أو الصرف أو المنطق أو الفلسفة أو الحديث أو الرجال أو غير ذلك، أي أنه يجب أن يكون له الحدّ اللازم من التخصص في كل هذه العلوم أيضاً، بالإضافة إلى تخصصه في الفقه وأصوله، لتكون الفتوى التي يصدرها نتيجة لاجتهاده فقط لا بضميمة اجتهاد غيره.

ومهما يكن فقد ظهر من جميع ما تقدم: أن أياً من المسلكين المشهورين في حجية توثيقات وتضعيفات الرجاليين مما لا يمكن المساعدة عليه.

فالصحيح ــ إذاً ــ ما سلكه سيدي الاستاذ الوالد (دامت بركاته) من أن توثيق الرجالي وتضعيفه إنما يصلح أن يكون من مبادئ حصول الاطمئنان أو عدم حصوله بوثاقة الراوي أو بصدور الرواية عن المعصوم (عليه السلام) على اختلاف المسلكين في حجية خصوص الخبر الموثوق به أو الأعم منه ومن خبر الثقة، فإذا كان الفقيه ممن يرى حجية الخبر الموثوق به ولاحظ أن النجاشي ــ مثلاً ــ وثق فلاناً من الرواة فإن حصل له الاطمئنان بروايته أي بصدورها من المعصوم (عليه السلام) ــ ولو بضميمة بعض الشواهد والقرائن ــ عمل بها وإلا فلا عبرة بذلك التوثيق. ولو كان ممن يرى حجية خبر الثقة فإن حصل له الاطمئنان بوثاقة ذلك الراوي لقول النجاشي أو بضميمة بعض الشواهد والقرائن عمل بروايته ــ وإن لم يحصل له الوثوق بصدورها من المعصوم (عليه السلام) ــ وإلا فلا يمكنه التعويل على ذلك التوثيق.

ودعوى أن باب الاطمئنان منسد في هذه الأعصار ولا سبيل إلى أن يطمئن الفقيه بصدور الخبر من الإمام (عليه السلام) إلا في موارد الاستفاضة ونحوها، كما لا سبيل إلى أن يطمئن بوثاقة الراوي إلا مع تعدد الموثقين من أعلام المتقدمين، دعوى غير صحيحة.

بل الصحيح أن من لديه ممارسة طويلة وخبرة متراكمة ومتابعة دقيقة يحصل له الاطمئنان في كثير من الحالات بصدور الخبر وإن كان منفرداً وبوثاقة الراوي وإن انحصر الموثق في شخص واحد.

نعم من ليس له إلمام واسع وخبرة تامة فإنه لا يحصل له الاطمئنان، ولكن لا عبرة بعدم حصول الاطمئنان لمثله.

______________

الهوامش :

(1) بحوث في شرح مناسك الحج ج:11 (مخطوط) .

(2) لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقى (كتاب الطهارة) ج:1 ص:319 ط:النجف الأشرف، وبحوث في شرح العروة الوثقى ج:2 ص:84.

(3) معجم رجال الحديث ج:1 ص:36.

(4) لاحظ ج:2 ص:39.

(5)  الكافي ج:1 ص:67.

(6) لاحظ بحوث فقهية ص:373.

ليصلك جديد المدونة اشترك في قناتنا على التيليجرام بالضغط هنا