القواعد الفقهية أهميتها وتاريخ البحث فيها - الشيخ محمد باقر الأيرواني |
أولا: مدى أهمية البحث عن القواعد الفقهية
لا نكون مبالغين إذا قلنا بأن البحث عن القواعد الفقهية لا يقلّ في الأهمية عن البحث في القواعد الأصولية ، فالقواعد الأصولية تكمن أهميتها من خلال وقوعها في طريق استنباط مجموعة من الأحكام الفقهية ، وكذلك الأمر في القواعد الفقهية ؛ فالفقيه يستعين بها في تحصيل مجموعة من الأحكام الفقهية .
فالمصلّي إذا نسي قراءة الفاتحة أو السورة في صلاته أو صلّى بدون وضوء أو اقتدى بشخص واتضح كونه فاسقا أو اتضح كونه يصلّي نافلة أو . . . ان هذه وأمثالها يمكن للفقيه أن يستحصل على حكمها من خلال قاعدة لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود.
ان القاعدة المذكورة تدلّ على انّه متى ما حصل الإخلال بواحد من الخمسة المذكورة وجبت إعادة الصلاة ، دون ما إذا حصل الإخلال بغيرها ؛ فنسيان الحمد أو السورة لا يُبطِل الصلاة ، لأنّه ليس أحد الخمسة المذكورة ، وهكذا الصلاة خلف شخص اتضح كونه فاسقا أو يصلّي نافلة ، بخلاف ما إذا صلّى بدون وضوء فان صلاته باطلة لأن الطهور أحد الخمسة المستثناة . وعلى هذا المنوال يمكن أن نخرج بأحكام أخرى كثيرة بتوسط القاعدة المذكورة .
هذه واحدة من القواعد الفقهية . وعلى منوالها قواعد أخرى كثيرة لا تقلّ عنها أهمية . فهل ترى بعد هذا استغناء الفقيه عن بحث القواعد المذكورة؟
ثانياً: تاريخ البحث في القواعد الفقهية
والفقهاء لم يولوا القواعد الفقهية اهتماما كما أولوا القواعد الأصولية ذلك ، فالقواعد الأصولية أفردوها بالبحث وبعلم مستقل تحت عنوان علم أصول الفقه ، وأخذ هذا العلم بالتطور تدريجا وبمرور الزمن حتى بلغ القمة في وقتنا الحاضر ، بينما لا نجد هذا المعنى في القواعد الفقهية ، فهي لم تفرد ببحث مستقل وانما يبحثها الفقيه في علم الأصول وبشكل استطرادي ، أو في الفقه وبمناسبات خاصة .
فقاعدة لا ضرر بحثها الشيخ الأعظم قدّس سرّه في أصوله المسمى بالرسائل ، فبعد أن أنهى بحثه في البراءة والاشتغال تعرّض إلى بحث آخر تحت عنوان خاتمة في شرائط جريان الأصول العملية ، فذكر ان أصل البراءة لا يجري إلّا إذا فحص المجتهد عن الأدلة الاجتهادية إلى حدّ اليأس عن العثور على دليل للحكم ، انّه آنذاك يمكنه اجراء أصل البراءة ، وإلّا فقبل الفحص لا يمكنه اجراء الأصل المذكور ، ثم أخذ يتدرج في البحث المذكور حتى وصل إلى نقل رأي عن الفاضل التوني يقول فيه : ان من شرائط جريان البراءة عدم كون المورد مشمولا لقاعدة لا ضرر . وأخذ الشيخ بمناقشة الرأي المذكور ، ولما أنهى مناقشته قال : انّه لا بأس ان نبحث القاعدة المذكورة بشكل مستقل . وأخذ ببحثها ، وتابعه على ذلك من جاء بعده .
ان القاعدة المذكورة نجدها قد بُحثت في علم الأصول ولم تبحث في الفقه ، فضلا عن إفرادها وأخواتها بعلم مستقل . وهكذا نجد الأمر في مثل أصالة الصحة وقاعدة الفراغ والتجاوز قد بحثها الشيخ الأعظم في رسائله بمناسبة خاصة ، وواكبه على ذلك من تأخّر عنه .
هذا شأن بعض القواعد الفقهية ، وبعضها الآخر يبحثها الفقيه استطرادا في أبحاثه الفقهية كقاعدة لا تعاد أو نفي العسر والحرج أو قاعدة اليد والقرعة و . . .
ولعلّ أول من فكّر في افراد القواعد الأصولية ببحث مستقل هو الشهيد الأول في كتابه المعروف بالقواعد والفوائد الذي طبع طبعة محققة في جزءين ؛ ولكن الكتاب المذكور ليس ممحضا في القواعد الفقهية ، بل يذكر قواعد أخرى أجنبية عن الفقه هي أشبه باللغوية أوالأدبية أو الكلامية أو الأصولية .
فمثلا يذكر في القاعدة الأولى تفسير الفقه لغة وشرعا ، وفي القاعدة الثانية أقسام الحكم الشرعي ، وفي القاعدة الثالثة ان العبادات تتصف بالأحكام الخمسة ما عدا الإباحة ، فالصلاة مثلا تكون واجبة أو مستحبة أو مكروهة أو محرّمة ولا تكون مباحة ، وهذا بخلاف العقود فإنها تتصف بجميع الأحكام الخمسة ، وعلى هذا المنوال يذكر قواعد أخرى كثيرة . ومن هنا نجد ان تسمية الكتاب جاءت بالقواعد والفوائد ، فلم تقيد القواعد بالفقهية وعطفت الفوائد على القواعد .
وعلى أي حال ان بحث الكتاب المذكور عن القواعد الفقهية أمر نادر ، وإذا بحثها اتفاقا بحثها بالشكل المناسب لتلك الفترة الزمنية ، فهو لا يذكر مدرك القاعدة وجهات البحث فيها وكيفية الاستفادة منها .
وجاءت في الآونة الأخيرة بعض المحاولات الجيدة في هذا المجال ؛ أخص من بينها بالذكر : القواعد الفقهية للسيد البجنوردي ، والقواعد الفقهية للشيخ الشيرازي ، ومائة قاعدة للسيد المصطفوي .
ولا ننسى الالتفات إلى أن الفترة المتوسطة بين عصر الشهيد الأول والآونة الأخيرة اشتملت على بعض المؤلفات الأخرى المخطوطة والمطبوعة .
فمن المطبوعة : عوائد الأيام في بيان قواعد الأحكام ومهمات مسائل الحلال والحرام للشيخ النراقي ، إلّا أنّه ليس بمستوعب لها ، بل هو يشتمل على عشر قواعد تقريبا ، وأكثره ناظر إلى فوائد أخرى من قبيل البحث عن ولاية الفقيه ، وتحقيق حال كتاب الفقه الرضوي ، واستعراض بعض الفوائد الرجالية ؛ من قبيل : بيان معنى اسند عنه أو الفرق بين الكتاب والأصل والنوادر ، أو بيان معنى فلان مولى فلان ، إلى غير ذلك .
ومن الكتب المخطوطة بعض الرسائل الخاصة بالقواعد الفقهية التي أشار لها الشيخ آقا بزرك في الذريعة ، كرسالة السيد محمد مهدي القزويني ، ورسالة المولى محمد جعفر الأسترآبادي وغير ذلك .
_______
المصدر:
كتاب دروس تمهيدية في القواعد الفقهية، الشيخ محمد باقر الأيرواني: ج1، ص9 - 13 .
ليصلك جديد المدونة اشترك في قناتنا على التيليجرام بالضغط هنا