الاجتهاد والتقليد - السيد محمد باقر الصدر |
ان الله
سبحانه وتعالى حينما انزل على خاتم الأنبياء أشرف رسالات السماء ضَمِنَ انسجامها
مع فطرة الانسان وانفتاحها على كل ابعاد وجوده ورعايتها له من المهد إلى اللحد .
وقد انعكس ذلك بكل وضوح على الشريعة الاسلامية فكانت شريعة الحياة في كل مناحيها والقيِّمة على توجيهها مع أخذ كل خصائص الانسان وظروفه الواقعية بعين الاعتبار .
كيف نشأت الحاجة إلى الاجتهاد؟
والمصدر
الأساس للشريعة هو الكتاب الكريم والسنة الشريفة ، ولو كانت أحكام الشريعة قد أعطت
كلها من خلال الكتاب والسنة ضمن صيغ وعبائر واضحة صريحة لا يشوبها اي شك أو غموض
لكانت عملية استخراج الحكم الشرعي من الكتاب والسنة ميسورة لكثير من الناس ،
ولكنها في الحقيقة لم تعطَ بهذه الصورة المحدودة المتميزة الصريحة وانما أُعطيَت
منثورةً في دراستها والمقارنة بينها واستخراج النتائج النهائية منها ، ويزداد هذا
الجهد العلمي ضرورة وتتنوع وتتعمق أكثر متطلباته وحاجاته كلما ابتعد الشخص عن زمن
صدور النص وامتد الفاصل الزمني بينه وبين عصر الكتاب والسنة بكل ما يحمله هذا
الامتداد من مضاعفات كضياع جملة من الأحاديث ولزوم تمحيص الأسانيد وتغير كثير من
أساليب التعبير وقرائن التفهيم والملابسات التي تكتنف الكلام ودخول شيء كثير من
الدس والافتراء في مجاميع الروايات الامر الذي يتطلب عناية بالغة في التمحيص
والتدقيق ، هذا إضافة إلى أن تطور الحياة يفرض عددا كبيرا من الوقائع والحوادث
الجديدة لم يَرِد فيها نص خاص فلابد من استنباط حكمها على ضوء القواعد العامة ومجموعة
ما أعطي من أصول وتشريعات .
كل ذلك
وغير ذلك مما لا يمكن استيعابه في هذا الحديث الموجز جعل التعرف على الحكم الشرعي
في كثير من الحالات عملا علميا معقدا وبحاجة إلى جهدٍ وبحثٍ وعناءٍ وان لم يكن
كذلك في جملة من الحالات الأخرى التي يكون الحكم الشرعي فيها واضحا كل الوضوح .
كيف نشأت الحاجة إلى التقليد ؟
وكانت
ولا تزال سُنّة الحياة في كل ناحية من مناحيها تفرض موقفا مشابها لما تقدم ، فأنت
اي مجال من الحياة لاحظته تجد أن ممارسته تتطلب معرفة معينة وان جزءاً من هذه
المعرفة قد يكون واضحا ومتيسرا على العموم ولكن الجزء الأكبر منها غير واضح ويتطلب
جهدا علميا ومعاناه في الدرس والبحث ، ففي المجال الصحي مثلا يعلم كل انسان بحكم
التجربة الساذجة في حياته انه إذا تعرض إلى مناخ بارد فجأة فقد يصاب بأعراض حمى ،
ولكن كثيرا من أساليب الوقاية والعلاج لا يعرفها الا عن طريق الطبيب ولا يعرفها
الطبيب الا بالبحث والجهد ، وهكذا الحال في مجال التعمير والبناء ومجالات الزراعة
والصناعة على اختلاف فروعها .
ومن هنا
وَجد كل انسان انه لا يمكن عمليا ان يتحمل بمفردة مسؤولية البحث والجهد الكامل في
كل ناحية من نواحي الحياة لانّ هذا عادة أكبر من قدرة الفرد وعمره من ناحية ولا
يتيح له التعمق في كل تلك النواحي بالدرجة الكبيرة من ناحية أخرى ، فاستقرت
المجتمعات البشرية على أن يتخصص لكل مجال من مجالات المعرفة والبحث عدد من الناس
فيكتفي
كل فرد في غير مجال اختصاصه بما يعلمه على البديهة ، ويعتمد في ما زاد عن ذلك على
ذوي الاختصاص؛ محملا لهم المسؤولية في تقدير الموقف وكان ذلك لونا من تقسيم العمل
بين الناس سار عليه الانسان بفطرته منذ أبعد العصور.
ولم يشذ
الاسلام عن ذلك بل جرى على نفس الأساس الذي اخذ به الانسان في كل مناحي حياته فوضع
مبدئي الاجتهاد والتقليد فالاجتهاد هو التخصص في علوم الشريعة والتقليد هو
الاعتماد على المتخصصين ، فكل مكلف يريد التعرف على الأحكام الشرعية يعتمد أولاً
على بداهته الدينية العامة وما لا يعرف بالبداهة من احكام الدين يعتمد في معرفته
على المجتهد المتخصص ، ولم يكلف الله تعالى كل انسان بالاجتهاد ومعاناة البحث
والجهد العلمي من اجل التعرف على الحكم الشرعي توفيرا للوقت وتوزيعا للجهد الانساني
على كل حقول الحياة . كما لم يأذن الله سبحانه وتعالى لغير المتخصص المجتهد بأن
يحاول التعرف المباشر على الحكم الشرعي من الكتاب والسنة ويعتمد على محاولته بل
أوجب عليه ان يكون التعرف على الحكم عن طريق التقليد والاعتماد على العلماء
المجتهدين ، وبهذا كان التقليد أمرا واجبا مفروضا في الدين . والتقليد على هذا
الأساس يعني تحميل المسؤولية وانما سمي تقليدا لأن المكلف يضع عمله كالقلادة في
رقبة المجتهد الذي يقلده تعبيرا رمزيا عن تحميله مسؤولية هذا العمل امام الله
سبحانه وتعالى وليس التقليد هو التعصب والاعتقاد بما يعتقده الآخرون جهلا وبدون
دليل ففرقٌ بين ان يُبدي شخص رأيا فتسارع إلى اليقين بذلك الرأي بدون ان تعرف
دليلا عليه وتؤكد صحته ، وبين ان يبدي شخص رأيا فتتبعه محملا له مسؤولية هذا الرأي
بحكم كونه من ذوي الاختصاص والمعرفة ، فالأول هو التقليد المذموم شرعا وعقلا
والثاني هو التقليد الصحيح الذي جرت عليه سنة الحياة شرعا وعقلا .
وقد
احتاطت الشريعة للتقليد احتياطا كبيرا ففرضت على المكلف ان يقلد اعلم المتخصصين في
حالة اختلاف آرائهم وان لا يقلد الا من كان عادلا لا يميل عن الشرع إلى هواه خطوة
في كبيرة أو صغيرة لكي يضمن المقلد بذلك أكبر درجة ممكنة من الصواب في رأي مرجعه
الديني وأمرته في اللحظة التي يجد فيها الأكفأ والأعلم من مقلده السابق ان يعدل
إليه ، كل ذلك للابتعاد بالتقليد من معنى المتابعة العمياء والتعصب المذموم.
وعلى ذلك
جرت سنة المؤمنين والمسلمين منذ عصر الأئمة عليهم السلام إلى يومنا هذا ، فقد كان
الأئمة عليهم السلام يوجهون السائلين من أبناء الأمصار الأخرى إلى تقليد الفقهاء
من أبناء مدرستهم والرجوع إليهم ولا يرون لهم عذرا في التسامح في ذلك .
حرمة التقليد في أصول الدين
وفي
الوقت الذي أوجبت فيه الشريعة التقليد بالمعنى الذي ذكرناه في فروع الدين من
الحلال والحرام حرمته في أصول الدين فلم تسمح للمكلف بان يقلد في العقائد الدينية
الأساسية وذلك لان المطلوب شرعا في أصول الدين ان يحصل العلم واليقين للمكلف بربه
ونبيه ومعاده ودينه وإمامه ودعت الشريعة كل انسان إلى أن يتحمل بنفسه مسؤولية
عقائده الدينية الأساسية بدلا عن أن يقلد فيها ويحمل غيره مسؤوليتها ، وقد عنف القرآن
الكريم بأشكال مختلفة أولئك الذين يبنون عقائدهم الدينية ومواقفهم الأساسية من
الدين قبولا ورفضا على التقليد للآخرين بدافع الحرص على طريقة الآباء مثلا والتعصب
لهم أو بدافع الكسل عن البحث والهروب من تحمل المسؤولية .
ومن
الواضح ان العقائد الأساسية في الدين - أصول الدين – لَمّا كانت محدودة عددا من
ناحية ومنسجمة مع فطرة الناس عموما من ناحية أخرى على نحو تكون الرؤية المباشرة
الواضحة ميسورة فيها غالبا وذات أهمية قصوى في حياة الانسان من ناحية ثالثة - كان
تكليف الشريعة لكل انسان بان يبذل جهدا مباشرا في البحث عنها واكتشاف حقائقها أمرا
طبيعيا ولا يواجه غالبا صعوبة كبيرة ولا يؤثر على المجرى العملي لحياة الانسان ،
ولئن واجه أحيانا صعوبات كذلك فالإنسان جدير ببذل الجهد لتذليل تلك الصعوبات لان
عقيدة الانسان هي أهم ما فيه ، ومع ذلك فقد لاحظت الشريعة أيضا اختلاف مستويات
الناس الفكرية والثقافية فلم تكلف كل انسان بالنظر والبحث في أصول الدين الا
بالقدر الذي يتناسب مع مستواه ويصل به إلى قناعة كاملة بالحقيقة تطمئن بها نفسه
ويعمر بها قلبه ويتحمل مسؤوليتها المباشرة امام ربه .
الاجتهاد والتقليد مبدآن مستمران
ولما
كانت مصادر الشريعة محفوظة إلى يومنا هذا في الكتاب الكريم كاملا بدون نقصان وفي
عدد كبير من أحاديث السنة الشريفة ، فمن الطبيعي ان يستمر الاجتهاد كتخصص علمي في
فهم تلك المصادر واستخراج الأحكام الشرعية منها ، ومن الطبيعي أيضا ان تنمو خبرات
المجتهدين وتتراكم لفتاتهم وانتباهاتهم على مر الزمن وتُكوِّن للمجتهد المتأخر
دائما رصيدا أكبر وعمقا أوسع في الاستنباط ، وهذا من الأسباب التي تدعو إلى عدم
جواز جمود المقلدين على مر الزمن وتكون للمجتهد المتأخر دائما رصيدا أكبر وعمقا أوسع
في الاستنباط ، وهذا من الأسباب التي تدعو إلى عدم جواز جمود المقلدين على رأي
فقيه من فقهاء عصر الغيبة طيلة قرن أو قرون لان ذلك كالجمود على رأي طبيب كذلك مع
نمو الطب بعده وتراكم الخبرات خلال تلك المدة .
ومن هنا
كانت رابطة المقلد بالمرجع الديني رابطة حية متجددة باستمرار ويزيدها قدسية ما
يتمثل في المرجع من نيابة عامة عن الإمام عليه الصلاة والسلام .
التركيز على العلماء في الشريعة
وحينما
وضعت الشريعة الاجتهاد والتقليد كمبدئين مستمرين ما دام الكتاب والسنة وفرضت
المجتهد محورا ومرجعا للآخرين في شؤون دينهم استعملت كل الأساليب الكفيلة بإنجاح
هذين المبدئين وأدائهما لرسالتهما
الدينية
باستمرار . فمن ناحية أوجبت الاجتهاد وجوبا كفائيا على ما يأتي في الفقرة ( 21 )
من باب التقليد والاجتهاد . وحثت على طلب العلم ودراسة علوم الشريعة قال الله
سبحانه وتعالى { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا
قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} (التوبة : 122) . ومن ناحية أخرى حثت على
التمسك بالعلماء والسؤال منهم قال تعالى { فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون}
(الأنبياء : 43) وقدَّمتهم إلى الناس بوصفهم ورثة للأنبياء فقد جاء في الحديث عن
رسول الله (ص) " ان العلماء ورثة الأنبياء " وجاء عنه أنه قال: "
اللهم ارحم خلفائي . فقيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي
يروون حديثي وسنتي فيعلمونها الناس من بعدي " .
وفي
رواية عن الامام أمير المؤمنين علي ( ع ) أنه قال: " مجاري الأمور على أيدي
العلماء بالله الامناء على حلاله وحرامه " إلى غير ذلك من الأحاديث والروايات .
ورغبت
الشريعة بشتى الأساليب في التقرّب من العلماء والاستفادة منهم حتى جعلت النظر إلى
وجه العالم عبادة للترغيب في الرجوع إليهم والاخذ منهم .
وبقدر
عظمة المسؤولية التي أناطتها الشريعة بالعلماء شددت عليهم وتوقعت منهم سلوكا عامرا
بالتقوى والايمان والنزاهة نقيا من كل ألوان الاستغلال للعلم لكي يكونوا ورثة
الأنبياء حقا
.
فقد جاء
عن الإمام العسكري (عليه السلام) في هذا السياق قوله: " فأما من كان من
الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام ان يقلدوه
"
.
وفي
رواية عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: " من استأكل بعلمه افتقر. فقيل له: ان
في شيعتك قوما يتحملون علومكم ويبثونها في شيعتكم ويتلقون منهم الصلة. فقال: ليس
أولئك بمستأكلين انما ذاك الذي يفتي بغير علم ولا هدى من الله ليبطل الحقوق طمعا
في حطام الدنيا" . وفي
حديث عن الرسول ( ص ) أنه قال : " الفقهاء امناء الرسل ما لم يدخلوا في
الدنيا " .
وقد جاء
في الأحاديث التأكيد على المعنى العملي لاستمرار مبدأ الاجتهاد إضافة إلى استمراره
الشرعي وعلى ان الدين لن يُعدَم ابدا العلماء القادرين على استيعابه والتفقه فيه
وتفهيمه للآخرين ورفع الشبهات عنه .
فقد جاء
في الحديث الشريف عن رسول الله ( ص ) أنه قال : " يحمل هذا الدين في كل قرن
عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الضالين وانتحال الجاهلين كما ينفي الكِير خبث
الحديد ".
المصدر: كتاب الفتاوى الواضحة، السيد محمد باقر الصدر: ص 4- 11 .
ليصلك جديد المدونة اشترك في قناتنا على التيليجرام اضغط هنا