القائمة الرئيسية

الصفحات

محاضرات في التفسير / المحاضرة الاولى / مدخل : فيما يجب على المفسر مراعاته عند التفسير - السيد محمد باقر السيستاني حفظه الله



محاضرات في تفسير القرآن الكريم (001) - المدخل للتفسير / ليلة الثلاثاء 1 رمضان 1440 هـ
ملاحظة : تم افراغ هذه المحاضرة من ملف pdf بواسطة بعض برامج تقنية OCR لذا نعتذر مقدما إن لاحظتم خطأً نحويا او املائيا
أعوذ بالله من شر الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين

مدخل موجز إلى تفسير القرآن الكريم

إن هناك مباحث كثيرة تتعلق بالقرآن الكريم تُعرف بعلوم القرآن، وأخرى متعلقة بقواعد التفسير ومناهجه وأنواعه، ونحن في هذا البحث إنما ننظر إلى الدخول في التفسير التفصيلي للقرآن الكريم، ولكن لأجل توضيح المنهج الذي نسلكه في التفسير نببّه في هذا المدخل على أمور على سبيل الإيجاز ..

١- کون القرآن رسالة عامة من الله تعالى إلى الإنسان، ولزوم رعاية ذلك في التفسير .

الأمر الأول: أنّ القرآن الكريم هو رسالة الله سبحانه وتعالى إلى الإنسان لأجل هدايته وتوجيهه إلى المسار الصائب و الحكيم و الفاضل .
لا يختص هذا الخطاب بالنبي (صلى الله عليه و آله و سلم) طبعا، فإنه هو الرسول الذي حمل هذه الرسالة إلى الناس، وإن كان هو (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتبار آخر مشمولا بهذه الرسالة، كما أن فيها أوامر متوجهة إليه بخصوصه.
وكذلك لا يختص القرآن الكريم بجيل الصحابة المشافَهين بالآية، بل يشمل بمنظور الله سبحانه عامة الناس ممن عاشوا في ذلك الزمان ولكن بعيدا عن بيئة نزول القرآن، أو من عاش بعد ذلك الزمان من الأجيال اللاحقة أمثالتا۔
إذن هذا القرآن هو رسالة الله سبحانه و تعالى إلينا، وإلى كل واحد واحد منا جميعا؛ ومن ثَم يليق بكل إنسان منّا أن ينظر في هذه الرسالة، ويتفطن لما أريد تفهیمه إياه بإلقاء هذه الرسالة إليه، كما يليق عرض تفسير هذا القرآن بأسلوب يكون ملائماً مع غرض القرآن الكريم في إيصال هذه الرسالة إلى عموم الناس.
لقد نزل القرآن الكريم في زمانه مخاطبة الناس مباشرة، وبلسان میسر مفهوم لعامةِ الناس دون تكلّف على العموم، كما قال سبحانه وتعالى مكرراً في سورة القمر: " وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ" (۱)، وكذلك جاءت الآيات القرآنية خطابا عاما للناس أو للمؤمنين بشكل مباشر، وأُكّد فيها على أن هذا القرآن هو بيان للناس وهدى لهم.
وعليه فإذا كان الناس في زماننا قد ابتعدوا بعض الشيء عن فهم النص القرآني - رغم أنّه لا يزال نصاً ميسراً في اللغة العربية في حين كونه نصاً راقياً وبليغاً - فإن التفسير ينبغي أن يؤدي دور التواصل بين القرآن الكريم وبين الناس فيكون المفسر للقرآن الكريم موصلا للقرآن من خلال تفسير ميّسرٍ ملائم مع طبيعة هدف النص المفسَّر إلى جميع الناس۔
فالرسالة الأصلية والعامة للتفسير أن يوصل النص القرآني على وجه مفهومٍ و میسر وملائم إلى عامة الناس. فهذه هي الرسالة التي ينبغي أن يقوم المفسِّر بها .
وشأن الدعاة إلى الله سبحانه و تعالی خاصة، - کا نفترض ذلك لأنفسنا؟ حيث نقدِّر أننا نريد أن نخطو خطى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن ندعو الناس إلى الله سبحانه وتعالى - شأنهم الأصلي أن يتلوا كتاب الله على الناس ويفسروه بنحو میسر لهم؛ ليكون مصدراً للهداية والعِظة والاعتبار کا قصد سبحانه و تعالی.
ومن ثَمّ يكون جزء من اهتمامنا في هذا التفسير بالالتفات إلى هذه الجهة؛ فنريد أن نقرأ القرآن الكريم قراءة ميسّرة لأنفسنا نستحضر حيثياتها، وننتبه إلى معانيها وكيفية هدايتها لنا و للناس جميعا.

۲. عموم الخطاب القرآني لغير المؤمن بالدين، وضرورة اطلاع غير المؤمنين والشاكين في هذه الرسالة .

الأمر الثاني: أن هذا القرآن ليس رسالة إلى خصوص المؤمنين، وإن كان المتعارف تلاوة المؤمنين إياها، وإنما هي رسالة إلى الناس جميعا ليهدي كلا منهم إلى الهدي الذي يفتقر إليه.
فالقسم المكي من القرآن الكريم على سبيل المثال يحاجج دوما غير المؤمنين بالرسالة، ويثبت لهم المبادىء العقلانية العامة التي ينبغي لأي إنسان في بحثه عن العقيدة الصائبة أن يسير عليها، من البحث عن البرهان القويم والحجة البيّنة والسلطان المبين والمؤكَّد والمعنى المنير، وفي ضوء ذلك يحاججهم على إثبات العقائد الصائبة، ويفنّد عقائدهم الخاطئة من قبيل الشرك بالله سبحانه وتعالى بأشياء التزموا بألوهيتها مما هو أشبه بالخرافة التي سهل إذعانهم بها اعتقاد آبائهم بذلك.
إذن رسالة الله هذه نزلت لتخاطب کلاً وتهديه بالهدي الذي يفتقر إليه؛ فتهدي الإنسان غير المؤمن بالدين من خلال هذه الرسالة إلى البحث الصائب والتحري اللائق عن الدين وعن مدى حقانية هذه الرسالة وصدقها، كما أنها توجب زيادة هدى المؤمنين ويقينهم وتحفّزهم إلى السلوك الحكيم والفاضل .
وعليه ينبغي لكل إنسان ولو لم يكن مؤمنا أن يطلع على هذه الرسالة ويختبر حقانيتها، ولا سيما أهل الأديان الإلهية الإبراهيمية الذين كثرت مخاطبتهم في القرآن الكريم من جهة نزول هذا القرآن في بيئة تواجدهم.
كما يجب على المفسِّر إبراز هذا الاهتمام في النص، والالتفات إلى نكات الكلام في معالجة الشكوك في الإيمان والشبهات التي كانت موجبة للعقائد الباطلة.
فلا ينبغي أن يقصر المفسّر نظره إلى الجو الإيماني؛ بل ينبغي أن ينظر إلى كيفية إخراج الإنسان من الاعتقاد الخاطئ إلى الاعتقاد الصائب ليهتدي بذلك.
فوظيفتنا أيضا - أيها الأخوة - كدعاة لله سبحانه وتعالى في الجو الإنساني العام أن نهتدي بهدي القرآن الكريم في التبليغ والاحتجاج، والانطلاق من المبادئ العقلانية والحكيمة والفاضلة في الحجة، كما قال الله سبحانه وتعالى: " ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ " (۲)، وأن تتعلم من القرآن الكريم كيفية منطق الاحتجاج على الآخرين.
وحقا يمثل القرآن الكريم أسلوباً راقياً في مقام الاحتجاج مع الآخرين، ويتجنب الاحتجاج بالمجادلة بالباطل؛ حيث إن الإنسان كثيرا ما ينساق في المحاججات الدينية والمذهبية إلى نوع من الخصومة والنقوض والكلمات التي لا ينطلق فيها إلا من منطلق إسقاط الآخر وإفشال حجّته، ولكن الحجج القرآنية مع الآخرين دوما تبتني على روح الإنصاف والصدق والحقانية والإعراض عن اللغو والباطل. ولا يسعنا طبعا في هذه المقدمة أن نبين نماذج من ذلك ولكننا نسعى إلى تبين ذلك في النصوص القرآنية التي نتناولها.

٣- تضمُّن القرآن الحكيم للدستور التعليمي والتشريعي في الدين .

الأمر الثالث: أن هذا القرآن الحكيم يمثل الدستور التعليمي والتشريعي في الدين الإلهي الجامع عامة وفي الإسلام خاصة، ويؤسس للثقافة العقلانية والحكيمة والفاضلة الضرورية للإنسان في الدين .
والمراد بالدستور: الميادين الأصلية والأساسية والخطوط العريضة والاتجاهات العامة، سواء في الجانب التعليمي الاعتقادي من قبيل أصول الدين، أو في الجانب التشريعي المتمثل في الفقه، كما يتضمن أصولا من القول في جوانب أخرى متممة من قبيل تاريخ الأنبياء السابقين .
ففي الجانب الاعتقادي: يبّين القرآن الأصول الصحيحة في شأن معرفة الله وخصائصه؛ فينبّه على وجود الله سبحانه ووحدانيته وربوبيته للأشياء كلها، ويبين تنزه الله عن المادة و مغایرته مع الأجسام، ويبين صفات کماله من القدرة والعلم المحيط والحكمة البالغة، ويستنطق الكون كله عن ذلك استنطاقا فطرياً مناسباً يجعل الإنسان - فعلا - يشعر أن الكون كله يسبح بحمد الله سبحانه وتعالی .
كما أنه ينبه على اتصاف الله سبحانه وتعالى - رغم قدرته على كل شيء - بالصفات الفاضلة من العدل والصدق والوفاء بالوعد وكرهه للظلم والفحشاء والمنكر، وهو بذلك يفنّد ما كان يجوزه كثير من المذاهب والأديان الباطلة على الله سبحانه من التصرف المزاجي والظالم انطلاقا من أن لله سبحانه أن يفعل في سلطانه ما يشاء .
کما أنه في شأن رسل الله يبين الصفات اللائقة بالرسل، وتوفّر هذه الصفات في من ابتعثه الله سبحانه للرسالة، وخصائص هؤلاء الرسل، وسيرتهم الملهمة، وجهودهم في أداء الرسالة، وواجب الخَلق في التعامل معهم والتصديق معهم والتقدير لجهودهم والتأسي بهم وعدم الغلو فيهم.
وفي شأن الإنسان ينبّه القرآن الكريم على عناية الله بالإنسان وخلقه بتكريمه منذ البداية، وجعلهِ خليفة على الأرض، وتسخير الأرض وما حولها له، وتمكينه من المعرفة، وإشرابه روح الحكمة، وإعطائه الضمير الأخلاقي - ليعرف الله سبحانه بعقله ويشكره بضميره - وجعْلِه هذه الحياة فرصة واختباراً للإنسان لمستوى معرفته وسلوكه ليجازيه وفق ما اكتسبه فيها؛ فكان بذلك وجود الإنسان وجوداً باقياً بعد هذه الحياة ببعده الروحي، وسوف يعيده الله سبحانه إلى الحياة في نشأة أخرى؛ ليحل محله بحسب معرفته بأعماله .
هذه جوانب تعليمية.. وهناك عشرات الخصوصيات المتعلقة بالله سبحانه وتعالى، وبالرسول، وبالإنسان، وحيثيات خلقه، وأبعاد وجوده مبثوثة في القرآن الكريم بأسلوب تعليمي وتربوي مُلهم في آن واحد.
کا يتمثل في الجانب التشريعي في القرآن الكريم أصول الاتجاهات التشريعية الملائمة التي تتضمنها الفطرة الإنسانية، من قبيل رعاية العدل وتجنب الظلم والعدوان - حتى ما يشمل السخرية من الغير والتجسس عليه واغتيابه وسوء الظن به الناشئ من المبادئ الذميمة - ومن قبيل مبادئ الصدق والقول بالعلم وتجنب الظنون الناشئة عن التقليد والانفعالات والعصبيات والتكبر والتسرع، كما في قول الله سبحانه و تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ " (۳). ومن قبيل مقتضيات العفاف في المظهر والسلوك والارتباط الغريزي و تحريم الإغراء والتبرج والفواحش جميعا.
فالقرآن الكريم يمثل جميع المبادئ التشريعية العامة اللائقة بالإنسان، ويتضمن جملة من التشريعات التفصيلية الملائمة مع هذه الخطوط العامة، سواء ما يتعلق بحق الناس فيما بينهم، أم فيما يتعلق بحق الله على الإنسان من خلال عبادته بالصلاة والصيام والحج والاعتكاف، أم فيما يتعلق بحق الإنسان على نفسه بسوقها سوقا راشداً وعدم الإلقاء بها إلى التهلكة أو غير ذلك.
إذن على مفسِّر القرآن الكريم أن يعتني بإبراز هذه الجوانب في القرآن الكريم عند تفسيره للنص، کا سوف نسعى إلى ذلك إن شاء الله.

4- الخطاب القرآني خطاب وجداني في المستوى العقلي المعرفي والحِكَمي والقيمي والنفسي

الأمر الرابع: إن الخطاب القرآني هو خطاب وجداني؛ بمعنى أنه يعتمد على العناصر الوجدانية الميسرة، وهي أربعة عناصر:
الأول: الوجدان العقلي والمعرفي؛ والكلام الوجداني بهذا المنظور ما تكون مضامینه واضحة للعقل الإنساني وميسرة و قريبة إلى التصديق العقلي ولا تكون معقدة وغامضة.
الثاني: الوجدان الحِكَمي؛ وذلك لأن في الإنسان نزوعا إلى الحكمة والعمل الأمثل والأصلح في هذه الحياة، فإذا جاء الكلام كلاماً حكيماً يدعو الإنسان إلى تحري صلاحه بالنظر إلى العاجل والآجل استذوقه الإنسان بوجدانه؛ ومن ثم يستذوق الإنسان قراءة الحِكَم التي تصدر من الحكاء، كما في قسم الحِكَم من نهج البلاغة؛ لأن هذه المعاني الحِكَمية تطابق النزوع الإنساني إلى التأمل العميق للأمور والتقدير الأمثل لها.
فهذا نوع من النزوع الفطري والوجداني للإنسان. فإذا كان الكلام ينبّه الإنسان على معنی حكيم ويستثير روح الحكمة للإنسان كان الخطاب وجدانيا بالوجدان الحكمي .
الثالث: الوجدان القيمي، والمقصود به: أن تكون مضامين الكلام مطابقة للمبادئ الفاضلة التي يشعر بها الإنسان ويستلذها ويستحسنها، ويكون الكلام زاجراً عن أضدادها من الأمور القبيحة والذميمة والمستهجنة؛ فعندما يأتي الكلام بهذا السياق يستلذه الإنسان بوجداته، كما يستلذ للغاية قوله سبحانه وتعالى: " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ " (4)
فهذا كلام يطابق الفطرة الإنسانية، ويطابق الضمير الإنساني؛ ومن ثَمّ ورد في الروايات: (إن العدل أعذب من الماء البارد في الصيف) و(أن الرفق لو كان مثالا لكان مثالأ حسنا)(5). فالخطاب عندما يأتي منبّهَاً على القيم والفضيلة يدخل في قلب الإنسان.
الرابع: الوجدان النفسي، والمقصود به أن لدى الإنسان حوائج ومشاعر وعواطف متجذرة فيه؛ فعندما يستجيب الكلام لمشاعر الإنسان ولحاجاته ويتسق مع التكوين النفسي للإنسان فهذا يجعل للكلام جاذبية وجدانية بالنسبة إلى الإنسان.. فالإنسان يحتاج أن ينزع بطبيعة نفسه إلى خالق قدير محيط به، يتعلق به، ويأنس بذكره، ويناجيه في همومه، ويسأله حوائجه، ويرجوه لأموره كلها؛ فعندما يأتي الكلام مطابقاً مع هذه الحوائج والمشاعر ومستجيبا لها فسوف يؤدي إلى اندماج الإنسان مع هذا الكلام بطبيعة الحال .
فهذه عناصر وجدانية أربعة لائقة بكل كلام تعليمي وتربوي، وأي خطاب إنما يكون خطابا حكيما إذا كان مشتملا على مستوى ملائم من هذه العناصر الأربعة؛ ومن ثَمَّ إذا أراد الإنسان أن ينصح آخر؛ سواء كان الحاكم بالنسبة إلى المحكوم، أم المحكوم بالنسبة إلى الحاكم، أم الآباء والأساتيذ بالنسبة للأولاد والتلاميذ، فعليهم أن يراعوا هذه العناصر الأربعة؛ ليكون الخطاب خطابا معقولا وملائما و موفقا و جارياً على أساس صحيح .
ومن ثم ينبغي للمفسر أن يوضح الجوانب الوجدانية في الخطاب القرآني، من خلال تأمل الكلام وما يتمثل فيه من مصادیق هذه العناصر، وهذا ما سوف نسعى إليه عند الخوض في تفسير القرآن الكريم
والحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين .
______
الهوامش :
(1) سورة القمر: ۳۲
(۲) سورة النحل ۱۲۵.
(3) سورة الحجرات: 6.
(4) سورة النحل: 90. 
(5) يلاحظ: کنز العمال: ۳/ 4۸
لتحميل المحاضرة بصيغة PDF اضغط هنا