القائمة الرئيسية

الصفحات

تعريف العقد - السيد منير الخباز

المباحث المرتبطة بكتاب الإجارة:

المبحث الأول: في تعريف عقد الإجارة

قبل الدخول في عقد الإجارة، لا بد من البحث حول العقد نفسه، ما هو تعريف العقد؟ وما هي أقسام العقد؟ وهل يمكن الاستدلال بآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة 1] على إمضاء جميع العقود أم لا؟ ثم يقع البحث حول تعريف الإجارة.

فهنا عدة مطالب لا بد من بيانها:

تعريف العقد وبيان مفهومه للسيد منير الخباز

الأول: ما هي حقيقة العقد ؟

ذُكر في تعريف العقد عدة كلمات للمحقق النائيني والمحقق الأصفهاني وسيدنا الخوئي (قدست أسرارهم).

1- تعريف المحقّق النائيني للعقد

التعريف الأول: ما ورد في كلمات المحقق النائيني (قدس سره)، قال: (معنى العقد لغةً وعرفاً هو العهد المؤكد، وما يكون فيه إلزام والتزام، وأما العقود الإذنية فتسمى عقوداً لأنها ترتبط بشخصين، لا أن فيها عهداً وعقداً. فقوله عزّ من قائل: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة 1]، لا يشمل هذه العقود، لخروجها عنه تخصصاً). منية الطالب [ج1، ص33]، كما ذكر نفس المضمون في تقرير الآملي [ج1، ص81]. وحاصله أن العقد لغةً وعرفاً العهد المؤكد، وما يكون فيه إلزام والتزام، وأثر ذلك أن هذا هو المنصرف من قوله تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة 1]، وأما شمول عنوان العقد للعقود الإذنية فهو مجرد اصطلاح.

نقد تعريف المحقّق النائيني للعقد

ويلاحظ على هذا التعريف: أن اشتماله على عنصر التأكد في قوله: "العهد المؤكد" مما لا موجب له، وإن نقل في عوائد الأيام [ص11] - عن القاموس - عقد الحبل يعقده: شده. كما نقل الشيخ الأعظم (قدس سره) [ج3، ص56] عن بعض أهل اللغة أنه: العهد المشدد. لكن لا نرى عنصر التأكد مقوماً لمفهوم العقد لا لغةً ولا عرفاً.

أما أنه ليس دخيلاً فيه لغةً فمراجعة كتب اللغة شاهدة بذلك: ففي مفردات الراغب: (العقد الجمع بين أطراف الشيء). وفي القاموس: (العقد الضمان والعهد). وفي جمهرة اللغة: (عقدت الحبل وهو عبارة عن شده والجمع بينهما، ويقال: تعاقد القوم أي: تعاهدوا).

فلا يوجد تصريح لغوي بإدخال عنصر التأكد في تعريف العقد، وإنما غاية ما يستفاد من بعض كلماتهم أن من مصاديق العقد عقد الحبل بنحو الشد، لا أنه عنصر مقوم لمفهوم مطلق العقد، أو أن عنصر الشد دخيل في العهد الميثاقي، حيث لا يصدق الاستيثاق إلا به.

وأما عرفاً فحيث إن المذكور في كلمات الفقهاء هو تحديد للمعنى العرفي المنصرف من عنوان العقد لا أن هناك حقيقة شرعية في عنوان العقد، كما أنه ليس له اصطلاح خاص بالفقه، فإنه لم يرد في أغلب كلمات الفقهاء في تعريف العقد عنصر التأكد كما سيتضح، بل يظهر مما استدل به جمع منهم على أن العقد هو عبارة عن العهد لا العهد المؤكد؛ بما ورد في صحيح عبد الله بن سنان في تفسير الآية المباركة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة 1] قال: (أوفوا بالعهود)، حيث لم يؤخذ عنصر زائد على كون العقد عهداً في هذه الرواية الشريفة، وبالتالي فإقحام حيثية التأكد في تعريف العقد مفتقر للشواهد الواضحة.

مضافاً إلى أن قوله (قدس سره): (وما يكون فيه إلزام والتزام) لا يصدق على جميع العقود، فإن بعض العقود عقود إذنية محضة، والعقود الإذنية وإن خرجت عن عنوان العقد عرفاً بحسب نظره الشريف إلا أن ما أضافه للتعريف - وهو عنوان: (وما يكون فيه إلزام والتزام) - ظاهر في بيان المفهوم الاصطلاحي للعقد لخلو كلمات اللغويين عنه. لكن ما أضافه لا ينطبق على الوكالة والعارية، إذ ليس فيهما إلزام والتزام، ويمكن الرجوع وفسخ المعاملة فيهما، مع أنهما من العقود ولا أقل بحسب المصطلح الفقهي.

فتعريف العقد بما يكون فيه إلزام والتزام ليس مطرداً في جميع العقود حتى ما كان منها من قبيل العقود الإذنية.

إلا أن يكون مقصود المحقق النائيني (قدس سره) بقوله: (العهد المؤكد)، الإشارة إلى الربط، بمعنى أن العقد لا يتحقق بطرف واحد؛ وإنما يتحقق بطرفين، فإذا أنشأ أحد الطرفين تعهداً والتزاماً لم يصدق عليه أنه عقد، ولكن إذا ربط التزامه بالتزام طرف آخر صدق على هذا الربط تأكد العهد، فلعل مراده بعنصر التأكد الإشارة لاعتبار عنصر الربط في العقد، حيث إنه بربط أحد الالتزامين بالآخر يحصل للالتزام تأكد لا يحصل لو كان التزاماً ذا طرف واحد، وبالتالي قد لا ترد عليه الملاحظة الأولى. كما أن ما أضافه من عنصر (الإلزام والالتزام) استفاده من تعريف العقد في بعض كتب اللغة وصحيحة بن سنان السابقة بأن العقد هو العهد، والعهد متضمن لحيثية الالتزام، وسوف يأتي التعليق على ذلك.

2- تعريف المحقّق الأصفهاني للعقد

التعريف الثاني: ما ذكره المحقق الأصفهاني (قدس سره) [في تعليقته على كتاب البيع ص35]، قال: (العقد هو القرار المرتبط بقرار آخر)، لا مجرد القرار ذي الطرف الواحد، (والفارق بينه وبين العهد عموم وخصوص مطلق، فالعهد هو مطلق القرار، والعقد هو القرار الخاص)، أي القرار المرتبط بقرار آخر، مما يعني أن العهد أعم من العقد، فكل عقد عهد وليس العكس.

توضيح ونقد تعريف المحقّق الأصفهاني للعقد

وهنا ملاحظتان في ما أفيد:

الملاحظة الأولى: تحديد العقد بالقرار يخرج عقد الهازل؛ لأن الهازل ليس عنده قرار بل عنده مجرد إنشاء، فإذا عرّف العقد بأنه عبارة عن القرار المرتبط بالقرار الآخر، تعين أن يكون العقد هو عبارة عن الإنشاء عن إرادة جدية. وأما مجرد إنشاء علقة اعتبارية بين طرفين سواء كانت هذه العلقة التزاماً بالتزام أو كانت نقل ملك أو نقل حق - ولو لم يكن الإنشاء عن إرادة جدية - فليس عقداً، مع أنه عقد عرفاً وإن قيل عنه عقد هازل.

فهناك فرق بين كوننا بصدد تعريف ما هو موضوع الآثار وبين تعريف عنوان العقد، فإذا كنا بصدد تعريف ما هو موضوع الآثار فمن الطبيعي أن موضوع الآثار يختص بالإنشاء الصادر عن إرادة جدية، بل بالعقد الصحيح الجامع للشرائط، وأما إذا كنا بصدد تعريف ما هو العقد عرفاً، سواء كان صحيحا أم فاسداً، هازلاً أم جاداً؟ فلا موجب لإدخال عنصر القرار كما ورد في كلمات المحقق (قدس سره).

الملاحظة الثانية: أن ما يلوح من كلامه من جعل العهد أعم من العقد بحيث يكون كل عقد عهداً وليس العكس محل تأمل، بل النسبة بين العقد والعهد عموم من وجه، فقد يكون عقد ولا عهد، وقد يكون عهد ولا عقد.

أما العقد الذي يكون لا عهد فهو ما خلا عن الالتزام؛ لأن العهد متقوم بالالتزام سواء كان طرفاً أو طرفينياً، بينما العقد قد يخلو عن التعهد والالتزام كما في بعض العقود الإذنية، كعقد العارية وعقد الوكالة، بل العقود الإذنية إما خالية من عنصر الإلزام و الالتزام، أو من عنصر الإلزام أو من عنصر الالتزام، وفيها ينفك العقد عن العهد.

وأما العهد فانفكاكه عن العقد واضح؛ لأن العهد قد يكون بين طرفين وقد يكون طرفاً واحداً، بأن يتعهد إنسان لله أمام إنسان آخر بأن يتصدق عنه أو يصلي عن والديه، وهذا مجرد تعهد من طرف واحد، ويشمله قوله عز وجل: (وَأَوفوا بِالعَهدِ إِنَّ العَهدَ كانَ مَسئولاً) [الإسراء: ٣٤]، وهذا هو مورد افتراق العهد عن العقد.

بل إن العهد نوعان: إيصاء وميثاق، فالعهد الذي هو إيصاء - كما أشار إليه المحقق الإصفهاني (قدس سره) - قد يكون إيصاءً بمنصب اعتباري نحو قوله تعالى: (لا يَنالُ عَهدِي الظّالِمينَ) [البقرة: ١٢٤]، حيث عبر عن الإمامة بأنها عهده لخلقه، أو كان إيصاءً بحكم تكليفي نحو قوله تعالى: (وَعَهِدنا إِلى إِبراهيمَ وَإِسماعيلَ أَن طَهِّرا بَيتِيَ لِلطّائِفينَ وَالعاكِفينَ وَالرُّكَّعِ السُّجودِ) [البقرة: ١٢٥]. والعهد الذي هو ميثاق قد يقوم بطرف واحد، وقد يقوم بطرفين، بأن يتعهد أحد الطرفين للآخر بالسلام عليه، ويتعهد الطرف الثاني للأول بالصدقة عنه.

3- تعريف السيّد الخوئي للعقد

التعريف الثالث: ما ذكره سيدنا الخوئي (قدس سره) [محاضرات في الفقه الجعفري ج2، ص67]: العقد شد أحد الالتزامين وربطه بالآخر.

وقريب من هذا التعريف ما ذكره السنهوري - كما نقل عنه [في كتاب الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد ج1، فقرة132] - قال: العقد هو اتفاق إرادتين على إنشاء حق أو نقله أو إنهائه. وعبّر بعبارة أخرى: العقد توافق إرادتين على إحداث أثر قانوني. فمتى توافقت الإرادتان على إحداث أثر قانوني - معترف به قانونياً - فهو عقد.

نقد تعريف السيد الخوئي للعقد

وربما يلاحظ على تعريف سيدنا الخوئي (قدس سره):

أولاً: بأن شد أحد الالتزامين بالآخر لا ينطبق على عقد الهازل، حيث ليس في العقد الهازل شد لأحد الالتزامين بالآخر، إلا أن يكون مقصوده (قدس سره) من ذلك الأعم من الشد الإنشائي والشد الحقيقي، بمعنى أن العقد إنشاء شد الالتزام وإن لم يكن هذا الإنشاء صادراً عن إرادة جدية. فالمنظور شد إنشائي أو التزام إنشائي وإن لم يكن هذا الالتزام والشد صادراً عن إرادة حقيقية.

الملاحظة الثانية: أن ما ذكر من أن العقد شد التزام بالتزام لا ينطبق على العقد الخالي من الالتزام، بل هو مجرد نقل كالبيع والإجارة، فإن البيع لا يتضمن التزاماً من طرف لآخر، وإنما هو نقل ملكية المبيع من أحدهما للآخر، والإجارة هي عبارة عن نقل ملكية المنفعة من أحدهما للآخر، فليس في البيع ولا في الإجارة شد التزام بالتزام، بل ليس فيهما إلا النقل وليس شيئاً آخر وراء ذلك كي يقال بأن العقد شد التزام بالتزام، أي أن نتيجة هذا التعريف خروج المصاديق المتيقنة للعقد عن تعريف العقد وهي البيع والإجارة. نعم، يترتب على صحة عقد الإجارة إلزام الطرفين بتسليم العوض والمعوض، لكن ذلك ليس دخيلاً في مفهوم العقد.

ولكن قد يجاب عن ذلك: بأن نقل الملكية ونقل الحق هو عبارة عن اعتبار، والاعتبار يستبطن التزاماً لا محالة، فمجرد نقل الملكية من طرف إلى طرف لا يعني خروجها عن حيثية الالتزام، فالنقل اعتبار، والاعتبار يتضمن التزاماً بخروج المنقول عن ملكه إلى الملك الآخر، فبلحاظ تضمنه لحيثية الالتزام يصدق عليه أيضاً عنوان شد التزام بالتزام وإن كانت استفادة ذلك من العقد بمدلول التزامي لا بمدلول مطابقي، لكن ذلك ليس مطرداً فإن بيع الفضولي وإجارته عقد عرفاً ولكنه لا يتضمن التزاماً بشيء.

فالأقرب في تعريف العقد أن نقول بأن العقد هو: إنشاء علقة اعتبارية بين طرفين، سواء كانت تلك العلقة نقلاً أم كانت تلك العلقة التزاماً، أم كان المنشأ ربط التزام بالتزام كما في الشركة مثلاً، بل قد يكون المنشأ هو إباحة الانتفاع لشخص كما في العارية وأمثال ذلك.

والحاصل: أن العقد إنشاء علقة اعتبارية بين طرفين بغض النظر عن مصاديق العلقة، سواء كان الإنشاء عن جد أو هزل، من الولي أم من الفضولي، صحيحاً كان أم فاسداً.

ثمرة البحث في تحديد مفهوم العقد

المطلب الثاني: أن ثمرة البحث في تحديد مفهوم العقد تظهر في عدة مصاديق، وقع الكلام في أنها عقد أو مجرد اتفاق؟ مثلاً عقد الاستصناع كما إذا اتفق الإنسان مع شركة تبني عمارة ذات شقق أن يشتري شقة منها بعد تمامية البناء، فما يتحقق في البداية اتفاق على أن يشتري شقة في ظرفه لا بالفعل، أو يتفق مع شركة تتصدى لصناعة بعض الأجهزة بنحو إذا تم الصنع اشترى الجهاز منها، وهذا ما يسمى بمعاملة الاستصناع. فهل أن الاستصناع عقد فيجب الوفاء به كالوفاء بسائر العقود؟ أم أنه مجرد اتفاق وليس مصداقاً لعنوان العقد؟

ومن هذا القبيل دفع العربون، فإن إعطاء العربون من البداية مقابل التمكن من شراء السيارة أو شراء الجهاز في ظرفه هل يعد عقداً بحيث يكون الطرف الآخر ملزماً؟ أم هو مجرد دفع مال برجاء الشراء فإن حصل الشراء بعده وإلا فالمال لمن قبضه؟

ومن هذا القبيل ما يعبر عنه في سوق الأسهم بالمشتقات المالية، فإن من صورها العقود الآجلة، كما إذا خشي مالك المحصولات الزراعية مثلاً من انخفاض أسعارها في موسمها - نتيجة زيادة العرض على الطلب - فيقوم فعلاً بعرض منافسات على الشراء في ظرفه، فيكون لمن يدفع مبلغاً معيناً بالفعل حق الشراء في ظرفه، أو تكون احتمالية فرصة الشراء له أكبر من غيره، فهل الاتفاق المذكور عقد؟

والتفريق بين العقد وغيره يتوقف على بيان الفرق بين مفهوم العقد ومفهوم الوعد ومفهوم العهد.

التفريق بين مفهوم الوعد ومفهوم العقد

أما الفرق بين الوعد ومفهوم العقد: فهو أن الوعد وإن كان التزاماً جازماً - كما إذا وعد الزوج زوجته بأن لا يتزوج عليها على نحو الجزم وبالقسم واليمين - لا يخرج عن كونه وعداً، باعتبار أنه ذو طرف أحادي، والعقد متقوم بالطرفين، فإن المناط في صدق عنوان العقد تقومه بالطرفين، وبالتالي فمن الفوارق الجوهرية بينه وبين العقد - مضافاً لخلو متعلقه عن العلقة الاعتبارية - هو في تعدد الطرف ووحدته.

فإن قلت - كما في بعض الكلمات -: إن الهبة ذات طرف واحد، حيث إن الواهب هو الذي يتصدى لتمليك المال الموهوب لغيره، مع أن الهبة تعد من العقود، والحال بأنها متقومة بطرف واحد.

والجواب عن ذلك: أن العقد - كما قلنا - علقة متقومة بطرفين، ولا تصدق على أي إنشاء متقوم بطرف واحد، غاية ما في الباب أن دور الطرف الثاني في توليد العلقة الاعتبارية المقصودة بالعقد قد يكون بفعل - كما في الشركة فإنها قائمة على فعلين لشخصين - أو يكون دوره بعمل - كما في المضاربة حيث إن دور عامل المضاربة التصدي للعمل في سبيل إنشاء العقد بنحو المعاطاة أو قبول التعهد بعمل في سبيل إنشاء العقد اللفظي -، وقد يكون دور الطرف الثاني هو المطاوعة لإيجاب الطرف الأول، سواء كانت هذه المطاوعة بإبراز القبول أو كانت هذه المطاوعة بعدم الرد، حيث يكفي في تحقق الهبة عدم الرد من قبل الموهوب له، فهو المقوم لحصول العلقة الاعتبارية للموهوب له، وهي دخول المال الموهوب في ملكه، لا أن الرد رافع للعلقة بعد حصولها.

التفريق بين مفهوم العهد ومفهوم العقد

هذا بالنسبة إلى الوعد، وأما العهد فبما أنه التزام وتعهد لله على النفس فمقتضى ذلك أن يكون متعلقه فعلاً اختيارياً، إذ لا يتصور الالتزام والتعهد بأمر غير اختياري، بينما لا يعتبر في العقد أن يكون متعلقه فعلاً اختيارياً، مثلاً عقد الزوجية حقيقته اعتبار علقة الزوجية وليس شيئاً آخر، بحيث يكون دور العقد دور الشرط المعبر عنه بشرط النتيجة الذي حقيقته هي توليد هذه النتيجة بدون اعتبار أمر آخر.

فتقوم العهد بكون متعلقه فعلاً اختيارياً دون العقد هذا فارق واضح بين المفهومين - مفهوم العهد ومفهوم العقد - مضافاً للفرق بتقوم العقد بإنشاء العلقة الاعتبارية -، وإن كان الوفاء بالعهد كالوفاء بالعقد واجباً مطلقاً كما هو المستفاد من قوله تعالى: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً)، بينما الوفاء بالوعد واجب في بعض الحالات على تفصيل في بابه، وبذلك يتبين الفرق بين الوعد والعهد من جهة وبين الإيقاع كالجعالة والطلاق بلحاظ تعلق الإيقاع بالعلقة الاعتبارية إبراما أو هدما وإن كان ذا طرف واحد بخلاف الوعد والعهد لتقومهما بكون المتعلق فعلا اختياريا.

ومنه يظهر أن مطلق الاتفاق بين طرفين لا يسمى عقداً ما لم يكن ذلك الاتفاق موجداً لعلقة اعتبارية، سواء كانت تلك العلقة الاعتبارية ملكية، أم كانت زوجية، أم كانت حقية. فمثلاً لو اتفقت الزوجة والزوج على أن الزوجة تلتزم بحجابها أو تلتزم بصلاة الفجر إن التزم زوجها بترك التدخين، فإن مجرد هذا الاتفاق ما لم يكن داخلاً تحت عنوان العهد لا يجب الوفاء به، ولو دخل تحت عنوان العهد ووجب الوفاء به بعنوان العهد فإنه ليس عقداً، إذ لا يتولد من هذا الاتفاق علقة اعتبارية وضعية من ملكية أو زوجية أو حقية أو ما أشبه ذلك.

وهذا من الإشكالات المسجلة على تعريف المحقق الإصفهاني (قدس سره) للعقد، حيث إن المحقق الإصفهاني (قدس سره) عرف العقد بأنه قرار مرتبط بقرار آخر، فإن مجرد ارتباط القرارين على نحو التعهد والالتزام لا يعني أنه عقد ما لم يترتب على هذا الاتفاق علقة اعتبارية.

ولابد من التنبيه في المقام على نقطة: وهي أن البحث في أن العقد هل هو مطلق الاتفاق بين طرفين على تسليط أحدهما على عمل معين، أو أن العقد ما كان منتجاً للعلقة الاعتبارية؟ فليس البحث بحثاً في المنصرف من عنوان العقد عرفاً كي يكون بحثاً عن مفاد كلمة (العقد) في اللغة العربية، وإنما هو بحث عن حقيقة معاملية بين المرتكز العقلائي من حيث ما هو المقوم لها بغض النظر عن اللفظ المعبر عن تلك الحقيقة، سواء كان لفظاً عربياً أو فارسياً أو غير ذلك.

بعض الإشكالات الواردة على التعريف المشهور للعقد

المطلب الثالث: قد يشكل على تعريف العقد بأنه (إنشاء علقة اعتبارية متقومة بالطرفين) بإشكالين :

الإشكال الأول: أن تحديد العقد بما كان منشأ لعلقة اعتبارية مستلزم للدور، بلحاظ توقف العلقة الاعتبارية على العقد توقف المعلول على علته، فلو عرّف العقد بما كان منشأً للعلقة الاعتبارية لزم أخذ المعلول في مفهوم العلة وهذا دور، حيث إن وجود العلقة الاعتبارية من ملكية أو زوجية أو حقية أو سلطنة متقوم بوجود العقد، فلا علقة اعتبارية الا عن عقد، فكيف يعرف العقد بما يتولد عنه علقة الاعتبارية مع أن تولد العلقة الاعتبارية يتوقف على وجود العقد؟

والجواب عن ذلك: بأن هذا من الخلط بين الوجود القانوني والشرعي والوجود الإنشائي، فإن الدور إنما يرد لو كان صدق عنوان العقد على المعاملة موقوفاً على إمضاء القانون أو الشرع للعلقة المنشأة، فإنه لو كان صدق عنوان العقد متوقفاً على تحقق العلقة الاعتبارية بالفعل بواسطة الإمضاء - أي لا يصدق على المعاملة عقد حتى يمضي الشارع أو المقنن العلقة المنشأة - كان ذلك دوراً، لأن إمضاء الشارع أو المقنن للعلقة فرع وجود عقد، فلو توقف العقد على الإمضاء للزم الدور، أو فقل إن تحقق العلقة الاعتبارية بالفعل بحيث تكون موضع الآثار متقوم بالمفروغية عن وجود عقد في رتبة سابقة، فلا يعقل تقوم العقد بوجود العلقة الاعتبارية بالفعل.

ولكن المفروض أن المعرّف لمفهوم العقد العلقة الاعتبارية الإنشائية لا العلقة الفعلية التي تحققت نتيجة إمضاء المشرع أو القانون، فالعقد هو عبارة عن إنشاء علقة اعتبارية، والمقوم له الوجود الإنشائي للعلقة لا أن المقوم له الوجود الفعلي للعلقة ببركة إمضاء المشرع أو المقنن.

ومن الواضح أنه يمكن تعريف العلة بما كان سبباً لمعلول معين وهذا لا محذور فيه، كأن يقال مثلا مفهوم النار ما كانت مصدراً للحرارة، وهذا لا دور فيه، لأنه في الواقع تعريف بالعلية لا تعريف بالمعلول، أي أن المقوم لمفهوم النار عليتها للحرارة لا وجودها، والمقوم لمفهوم العقد منشأيته في عالم الاعتبار لعلقة اعتبارية لا تحققها في وعاء الإمضاء وترتب الآثار.

الإشكال الثاني: ما هو المراد بالعلقة الاعتبارية؟ هل المراد بالعلقة الاعتبارية هو العلقة العقلائية، يعني ما يراه العقلاء موضوعا لترتب الآثار كالملكية والزوجية والحقية والسلطنة ونحو ذلك؟ أم أن المراد مطلق العلقة الاعتبارية ولو بفرض فارض ولو لم تكن علقة عقلائية، حيث لا مؤنة في الاعتبار والفرض؟

فإن كان المنظور هو الأول - بكون العقد إنشاء العلقة اعتبارية عقلائية - فهذا يقتضي اختصاص العقد بالعقد الصحيح، والحال بأن البحث عن مفهوم العقد بغض النظر عن صحته وفساده، وغض النظر عن كونه عقداً ذا إرادة جدية أو لا عن إرادة.

وإن كان المقصود العلقة الاعتبارية ولو بفرض فارض فلازم ذلك صدق عنوان العقد على المعاملات السفهية أيضاً، فمثلاً لو اتفق طرفان على إنشاء النبوة أو الإمامة أو الولاية العامة، كأن يقول أحد الطرفين: (أتفق معك على أن اعتبرك إماماً أو نبياً من قبل الله تعالى)، فيقول الطرف الآخر: (قبلت)، فإن هذا الاتفاق بلا إشكال قد انشأ علقة اعتبارية وهي إنشاء النبوة والإمامة بينهما، فلو قيل بأن العقد ما كان إنشاءً لعلقة اعتبارية ولو لم تكن تلك العلقة الاعتبارية عقلائية لزم من ذلك صدق عنوان العقد حتى على المعاملات الاعتباطية وإن كان يعلم الطرفان أنها لن تتحقق، لكنهما بالنتيجة قاما بإنشاء علقة اعتبارية بينهما.

والجواب عن ذلك: أن المقصود بالعلقة الاعتبارية هي علقة وضعية وليست حكماً تكليفياً كما هو الحال في أثر الشروط، حيث إن المترتب على الشرط وجوب الوفاء به - لدى المشهور - من دون علقة اعتبارية -، والعلقة الوضعية من قبيل الملكية كما في البيع والإجارة والزوجية كما في النكاح، والسلطنة كما في الوكالة، فإن الوكالة عبارة عن إنشاء سلطنة أو تفويض من قبل الموكل للوكيل يترتب عليها نفوذ معاملة الوكيل، أو كانت حقاً كما لو تصالح الطرفان على أن يكون لأحدهما حق السرقفلية، كما لو كان حق السرقفلية لدى الطرف الأول وتصالح مع الطرف الآخر على كون هذا الحق له بنفس التصالح، فهو إنشاء لعلقة حقية بين الطرفين، فهذه هي حقيقة العقد.

ومقتضى ما ذكر دخول معاملة الاستصناع في العقد، فعندما يتفق شخص مع شركة تبني عمارة ذات شقق، على أنه متى تم البناء يشتري الشقة منها، فهو لا يشتري الشقة بالفعل، وليس المنشأ مجرد وعد أو تعهد بالشراء، وإنما الاتفاق السابق يجعل للمتقدم بالطلب حقاً اعتبارياً بأن بكون المقدم على غيره في إبرام عملية الشراء، فبما أن الاتفاق أنتج حقاً اعتبارياً كان الاتفاق عقداً.

ومنه دفع العربون أيضاً، إذا كان دفع العربون وسيلة للتوصل لشراء البضاعة المعروضة كما لو كان مصطلح السوق أن من يدفع عربوناً في وقت معين يكون له الحق في الشراء قبل غيره، فإن ذلك موجب لكونه عقداً.

ومن هذا القبيل ما لو اتفق الرجل مع المرأة في العقد المنقطع على أن يهبها المدة مقابل أن لا تتزوج فلاناً بعد ذلك، فإنه إذا كان الاتفاق على الهبة كنتيجة لا على أن يهب كفعل، أي أن متعلق الاتفاق نفس العلقة الوضعية وهي أن تكون خلية من قبله، فهذا عقد يشملها (أوفوا بالعقود)، بينما لو اتفق معها على الفعل - أي على أن يهبها - لا أنه وهبها بنفس الاتفاق، فهذا لا يكون عقداً، لأنه لا ينتج علقة اعتبارية.

وبذلك يظهر الجواب عن الإيراد المذكور، فإنه يمكن اختيار المحتمل الأول ولا يرد عليه محذور، كما يمكن اختيار المحتمل الثاني ولا يرد عليه محذور.

أما المحتمل الأول: وهو أن العقد اتفاق منتج لعلقة اعتبارية عقلائية - ومعنى العلقة الاعتبارية العقلائية: يعني العلقة التي لها آثار لدى المرتكز العقلائي - فإنه لا يرد عليه أن مقتضى ذلك انحصار العقد بالعقد الصحيح. والسر في ذلك أن البحث عن تعريف العقد إننا هو بحث عن منشأ اعتباري هو أحد عوامل تحقق العلقة العقلائية في وعاء الإمضاء، وليس العقد هو تمام العلة لحصول العلقة كي يختص بالعقد الصحيح، فإن العلقة العقلائية في وعاء الإمضاء تحتاج إلى عوامل أخرى وهي اجتماع شرائط المتعاقدين وشرائط المبرز للعقد، ولا يكفي مجرد إنشاء العلقة العقلائية في تحققها بالفعل، وبالتالي حتى لو عرّف العقد بأنه ما كان إنشاءً لعلقة اعتبارية عقلائية فلا محال دوره دور الإنشاء، وأما ترتب هذه العلقة العقلائية فيتوقف على عوامل أخرى. فربط العقد بالعلقة العقلائية لا يوجب انحصار العقد في العقد الصحيح، فهو مجرد إنشاء قد تجتمع معه الشروط فيكون صحيحاً، وقد لا تجتمع معه فيكون فاسداً.

وأما المحتمل الثاني: وهو كون العقد إنشاءً لمطلق العلقة الاعتبارية ولو كانت علقة لا تتحقق لدى العقلاء - كما إذا اتفق معه على إنشاء النبوة أو الإمامة أو الولاية العامة أو نحو ذلك - فهو عقد وإن كان عقداً سفهياً، ولذلك بُحث في كتاب البيع عن كون الخارج عن أدلة الإمضاء البيع السفهي أم بيع السفيه - على الخلاف بينهم -، مما يؤكد أن كون المعاملة سفهية شيء وأن لا يصدق عليها عنوان العقد شيء آخر، فإنها بالنتيجة معاملة سفهية لا تشملها أدلة الإمضاء ولا يشملها بناء العقلاء على التنفيذ، لكنها بالحمل الشائع عقد أو بيع أو هبة أو ما أشبه ذلك.

تعريف آخر للعقد

التعريف الخامس لمفهوم العقد: هو إنشاء تسليط للغير على عين أو مال أو حق أو عمل اعتباري بشرط قبوله، سواء كان تسليطاً تمليكياً كما في المعاوضة حيث إن البائع يسلط المشتري على تملك المبيع، أو كان تسليطاً حقياً كما في النكاح، أو التزاماً كما في عقد الاستصناع؛ فإن الصانع ينشئ تسليطاً للآخر على التزامه له بالصنع بإزاء التزام الطرف الآخر بالشراء.

وبيان ذلك: أنه وقع النزاع في أن عقد الاستصناع بيع وإجارة؟ بمعنى أنه إذا جاء شخص إلى الصانع - كالنجار أو الصناع أو البناء - وطلب منه أن يعد له جهازاً، والتزم الصانع له بالصنع بإزاء التزامه بشراء المصنوع ودفع الثمن عند تسليمه، فهذه المعاملة ليست بيعاً قبل الصنع وإلا كان من بيع السلف فيجب دفع الثمن بالفعل، ولا إجارة قبل ملك المادة إذ لا تصح إجارة الأعمال في ما ليس ملكاً للمستأجر، فهل تنحل إلى بيع وإجارة - بمعنى أن الصانع يبيعه المادة أولاً فيشتريها الآخر ويوكله في قبضها عنه ثم يكون أجيراً من قبله على الصنع، فيكون بيعاً وإجارة - دون العكس بأن يستأجره على صنع المادة وبعد إتمامها يشتريها منه؟ أم أن الاستصناع مجرد تواعد بين الطرفين وليس عقداً، ولذا التزم الشيخ الطوسي في الخلاف ببطلانه؟ أم أنه عقد مستقل وليس عقداً مركباً من إجارة وبيع أو بيع وإجارة، وإنما هو تسليط للغير على التزام الصانع بأن يعد له الجهاز المطلوب أو الصنع المطلوب بإزاء التزام الطرف الآخر بالشراء؟

ولكن فيه: أن مجرد تقابل الالتزامين لا يجعله عقداً مستقلاً يجب الوفاء به، وإنما هو عهد، فإن الظاهر أن المرتكز العرفي يرى أن الفرق الجوهري بين العهد والعقد بتوليد العلقة الاعتبارية، فما لم تتولد علقة اعتبارية بإرادة الطرفين أو قرار منهما لا يكون ذلك عقداً، وإنما هو في حدود العهد، فمثلاً عقد البيع ليس مرجعه إلى تسليط المشتري على تملك المبيع أو تسليط المشتري على عين المبيع، وإنما مرجع عقد البيع إلى إنشاء ملكية المشتري للمبيع بإزاء ملكية البائع للثمن، وأثر إنشائه للملكية أن يكون للمشتري سلطنة على التصرف في المبيع - ما لم يكن موجب للحجر عليه - لا أن البيع إنشاء للتسليط. كما أن مرجع عقد النكاح لا إلى إنشاء تسليط الرجل على الاستمتاع ببضع المرأة، وإنما مرجعه إلى إنشاء علقة الزوجية، وأثر علقة الزوجية أن يكون للرجل حق الاستمتاع بالمرأة ضمن شروط معينة.

وبذلك يظهر النظر في عقد الاستصناع، فإن الاستصناع عقد مستقل لا يرجع إلى البيع والإجارة، كما أنه ليس إنشاءً لتسليط الغير على التزام الأول بالصنع، وإنما حقيقة عقد الاستصناع هي إنشاء حق للغير في عهدة الصانع، فتكون هناك علقة اعتبارية وهي علقة الحقية التي تعني أن للغير حقاً في عهدة الصانع. ولهذا الحق آثار، منها: أن الغير بعد أن ثبت له الحق في عهدة الصانع يمكنه أن يسقط هذا الحق بإبراء، أو ينقل الحق إلى غيره بهبة أو صلح، ولو مات ورث وارثه منه الحق - بناءً على ثبوت ما نسب للنبي صلى الله عليه وآله من قوله عليه السلام: (ما تركه الميت من مال أو حق فهو لوارثه) كما في المسالك [ج12 ص341]، وعبر عنه في مفتاح الكرامة [ج14ص289] بالنبوي المنجبر بعمل الأصحاب -.

والمتحصل: أن هناك فرقاً بين كون المنشأ مجرد تسليط بحيث لا يترتب عليه إلا الحكم التكليفي، كما لو أنشأ الصانع للآخر تسليطاً على التزامه، حيث إن غاية التسليط أنه يجب عليه الوفاء به كما في غيره من العهود، وبين كون المنشأ حقاً للآخر على الصانع في الصنع والبناء ونحوه، ومقتضى هذا الحق ثبوت آثار الحق من إبراء ونقل وصلح وإرث.

_______

ملاحظة: هذا البحث مستل من تقريرات بحث الخارج في الفقه لسماحة آية الله السيّد منير الخبّاز (حفظه الله تعالى) في النجف الأشرف، بحث الإجارة، الدرس 2 – 5 ، بتاريخ: 25 – جمادى الآخرة - 5 رجب الأصبّ من سنة 1445هـ.

أنت الان في اول موضوع