دفع شبهة عدم وجود دليل لفظي على اعتبار إذن الفقيه في التصرف في الخمس
بقلم : الشيخ حيدر السندي
من الشبهات المثارة حول الخمس والتي روّج لها أعداء المذهب وأعداء منصب الزعامة الدينية شبهة عدم وجود دليل لفظي ـ من آية أو رواية ـ ينصّ على اعتبار إذن الفقيه في التصرف في الخمس، وفي مقام التعليق على هذه الشبهة أذكر عدة أمور وأعرضها بعرض مبسّط غير تخصصي لتكون مستوعَبة من أكثر عدد من القراء الكرام :
[ الأدلّة الشرعية لا تنحصر بالدليل اللفظي الصريح ]
الأمر الأول: هو أنّ الشبهة تنبني على قاعدة باطلة لا أساس لها، وهي (أن دليل الإثبات أو النفي الشرعي ينحصر في وجود دليل لفظي خاص)، ولهذا قال المستشكل حيث لا دليل من هذا القبيل على اشتراط إذن الفقيه في صرف الخمس فاعتبار إذنه غير ثابت ، ولكل مالك لمال تعلق به الحق الشرعي أن يتصرف دون مراجعة الفقيه ، وهذه القاعدة كما ذكرنا غير صحيحة في نفسها إذا المطلوب وجود دليل معتبر يكشف عن الاشتراط سواء كان دليلاً لفظياً خاصاً أو عاماً أو كان دليلاً غير لفظي ، وسوف نستعرض أدلة مختلفة محل بحث بين المجتهدين ، وبعضها يستند إلى دليل لفظي وبعضها إلى دليل غير لفظي .
[ حدود الولاية الشرعية للفقيه ]
الأمر الثاني: إذا قلنا بثبوت الولاية العامة أو الولاية في الأمور العامة للفقيه ومن الأمور العامة الأموال الراجعة إلى الجهات العامة ، ومنها الخمس الذي هو في سهم الإمام مال لمنصب الزعامة وفي سهم السادة مال للعنوان العام ، وهو (بنو هاشم)، إذ لا يملك الفرد من السادة الخمس إلا بعد قبضه للمال ، ولهذا لو مات سيد فقير قبل قبض الخمس لم ينتقل المال الموجود في بيت الفقيه أو وكيله أو في يد مالك المال الذي بعد لم يخرج الخمس إلى ورثة السيد المتوفى .
فعلى هذا الفرض سوف تكون أدلة ثبت الولاية للفقيه في طول ولاية المعصوم (عليه السلام) أدلة على ولاية الفقيه على صرف الحق وعدم جواز التصرف دون إذنه ، وجملة من أدلة ولاية الفقيه أدلة لفظية عامة تثبت الولاية للفقيه على الخمس وغيره ، وبعضها أدلة غير لفظية ـ لبية بحسب الاصطلاح ـ تعتمد على إدراك العقل عدم إهمال الشارع منصب الولاية في زمن غيبة القائم (عجل الله فرجه الشريف).
ومن الأدلة اللفظية التي استدل بها على ثبوت الولاية للفقهاء ما دل على خلافة الفقهاء للأنبياء ، وأنهم حصون الإسلام ولا يكونون كذلك إلا بإجراء أحكامه وإدارة شؤونه ومن ذلك التصرف في أموال الجهات العامة ، وأيضا ما دل على أنهم المرجع في الحوادث الواقعة ، وأن مجاري الأمور بيدهم ومن تلك الأخبار :
ما أرسله في « الفقيه » قال قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : اللهمّ ارحم خلفائي »، قيل : يا رسول الله ، ومن خلفاؤك ؟ قال : « الذين يأتون من بعدي ، يروون عنّي حديثي وسنّتي » و رواية عليّ بن أبي حمزة قال : سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر ( عليه السلام ) يقول : « إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة ، وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها ، وأبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله ، وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شئ ; لأنّ المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام ، كحصن سور المدينة لها »
وفي التوقيع المنسوب مولانا صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرجه) : « أمّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبّتك . . . » إلى أن قال : « وأمّا الحوادث الواقعة ، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ; فإنّهم حجّتي عليكم ، وأنا حجّة الله . . . » إلي آخره
و في « الفقه الرضويّ » : « منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء من بني إسرائيل » وعن « جامع الأخبار » عن النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال: « أفتخر يوم القيامة بعلماء أُمّتي ، فأقول : علماء أُمّتي كسائر أنبياء قبلي » . وعن عبد الواحد الآمدي في « الغرر » عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنّه قال : « العلماء حكّام على الناس » وفي نسخة « حكماء » و قيل : هي خطأ . و في « تحف العقول » عن سيّد الشهداء ، عن أمير المؤمنين ( عليهما السلام ) : « مجاري الأُمور والأحكام على أيدي العلماء بالله ، الأُمناء على حلاله وحرامه » .
ولنفرض أن شخصاً إنتهى إلى عدم تمامية الاستدلال برواية واحدة من هذه الروايات، فهذا ليس إلا رأي له اعتبار إذا كان صاحبه مجتهد ، و لغيره من المجتهدين الذين ينتهون إلى تمامية الاستدلال بهذه الروايات أن يفتوا بما انتهى إليه اجتهادهم ، و المقلد حسب ضوابط باب التقليد يرجع للفقيه الذي قوله حجة في حقه.
[ أدلّة أخرى على اعتبار إذن الفقيه في صرف الحقوق ]
الأمر الثالث: إذا لم نقل بولاية الفقيه العامة أو في الأمور العامة ، فهذا لا يعني جواز أن يتصدى مالك المال الذي تعلق به الحق دون إذن الفقيه ، وذلك لأنه توجد أدلة كثيرة استدل بها على اعتبار إذن الفقيه في الصرف بعد تعين الحق الشرعي ، ولا بد أن يكون المالك مجتهداً قادراً على تقييم هذه الأدلة والخروج بنتيجة بعد التأمل فيها ، وهنا أستعرض دليلين منها :
الدليل الأول : أن الأصل في الأموال التي هي من المهمات كالفروج والدماء الاحتياط ، فإذا شك في دخالة قيد في جواز الصرف كإذن الفقيه الأعلم أو من له قبول أكبر في المجتمع الإمامي ، ولو من جهة أن المعصوم يريد إضفاء محورية على دور العلماء الشرعيين المبينين لمعالم الدين والحافظين له في زمن الغيبة ، فلا بد من مراعاة الاحتياط لأنه الأصل الجاري عند الشك في المهمات.
ولا فرق في تمامية هذا الدليل بين كون الخمس ملكا شخصياً للإمام أو هو ملكاً له بما هو إمام إذ الشك في رضا المالك الشخصي أو ولي العنوان مجرى للاحتياط .
وحيث إن الخمس مما ثبت للمعصومين (عليهم السلام) من جهة كونهم أئمة ، فأمره إليهم بما هم أئمة فقد روى الصدوق بإسناده عن علي بن راشد قال : « قلت لأبي الحسن الثالث (عليه السلام) : إنّا نؤتى بالشيء ، فيقال : هذا كان لأبي جعفر عليه السلام عندنا ، فكيف نصنع ؟ فقال : ما كان لأبي بسبب الإمامة فهو لي ، وما كان غير ذلك فهو ميراث على كتاب اللَّه تعالى وسنة نبيه »
فإذا شك في رضا ولي أمر المسلمين (عجل الله فرجه ) في التصرف بدون إذن الفقيه ، فلابد من مراعاة الاحتياط .
الدليل الثاني : هو أن أدلة وجوب الخمس مطلقة شاملة لعصر الغيبة ، والخمس أمر مهم جداً يشكل خمس الفاضل من دخل المؤمنين ، ومصرفه أمور خطيرة جداً وهي تشييد قوام الدين و دعائم الشرع و نشر تعاليمه وتأسيس المؤسسات المعنيّة بذلك ودعم رجالاتها العاملين بها ، وكفالة المحتاجين من الأسرة الهاشمية المباركة ، و كان الخمس في عصر الظهور بيد الإمام المعصوم (عليه السلام) ونحرز أنه لأهميته لن يُهمل في عصر الغيبة ، فلا بد وأن يكون الإمام قبل غيبته قد نصب من يقوم مقامه في إدارته بعد أن كان ينصب من يقوم مقامه في البلاد المختلفة في عصر الظهور ، وهم الفقهاء العدول القادرون على تشخيص أحكام الخمس ومواد الأولويات عند التزاحم بحسب ذوق الشارع المستفاد من بياناته و سيرة المعصومين و صغريات الصرف ولو بالرجوع إلى الثقات من المؤمنين المتمرسين أصحاب الخبرة ، فهذا هو القدر المتيقن من الولي الطولي في عصر الغيبة ، و لا يجوز تعدي القدر المتيقن ، لأنه من التصرف في ملك الغير مع عدم احراز رضا مالكه ، ولا يحل مال مرء مسلم إلا بطيبة نفس منه.
[ الموقف العملي للمكلّف غير المجتهد ]
الأمر الرابع: وهو يرتبط بالموقف العملي للعامي ، فإن العامي يواجه شكاً في مسألتين ترتبطان بالخمس :
المسألة الأولى : بقاء وجوب الخمس ولزوم صرفه في موارده في عصر الغيبة .
المسألة الثانية : اعتبار إذن الفقيه في جواز الصرف .
والشك في هاتين المسألتين من الشك في الحكم الشرعي الذي لا بد فيه إما من الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط ، إذ لا يسع العامي التمسك بأصالة البراءة ، لأن التمسك بالبراءة بعد الفحص عن وجود دليل على الحكم الإلزامي وعدم الظفر به ، إذ لا يجب على الله تعالى أن يوصل كل أحكامه إلى كل مكلف بحيث يجعل جميع المكلفين عالمين بجميع أحكام الشريعة ، فإن هذا مما لا يحكم العقل بلزومه ، ولهذا نجد جميع الأنظمة التشريعية العقلائية قائمة على جعل التشريع في معرض الوصول إليه فيما إذا طلبه المعني به ، ويحاسبون من تخلف عن النظام وإن اعتذر بالجهل ، ويقولون له كان بإمكانك أن تتعرف على النظام وتعمل به لو قصدت الكتاب الفلاني أو النشرة القانونية الفلانية أو المتخصص القانوني الفلاني ، والحال كذلك في الشريعة الإسلامية ، فإن الله تعالى جعل أحكامه في معرض الوصول في الكتاب والسنة ، وعلى المكلف أن يفحص عن الأدلة ، فإذا لم يظفر بالأدلة جاز له ترك التكليف المحتمل وإجراء البراءة ، ومن الواضح أن الفقيه هو فقط القادر على الفحص في مورد الشبهات الحكمية ، فليس للعامي التمسك بالبراءة ، وإنما عليه إما أن يجتهد أو يقلد ، فيعمل باجتهاده أو برأي مرجعه في مسألة وجوب الخمس في زمن الغيبة ومسألة لزوم إذن الفقيه في صرف الخمس ، وإذا كان لا يريد سلك طريق الاجتهاد والتقليد تعين عليه العمل باحتياط ، وهو بالإتيان بما يحرز معه براءة الذمة ، وهو دفع الخمس إلى الفقيه الجامع لشرائط التقليد ، لأنه القدر المتقين احراز الذمة معه .
وعلى هذا يتضح أنه لا قيمة عملية لقول من يقول بأنه لا دليل على اعتبار إذن الفقيه في صرف الخمس ويجوز الصرف بدون إذنه ، إلا إذا كان هو المرجع الذي يجوز تقليده ، وإذا كنا من أهل الاجتهاد وانتهينا إلى صحة دعواه فالمدار مدار نظرنا لا نظره و قوله، لأن العالم لا يجوز له تقليد غيره فيما يعلم به عن دليل وبرهان ، فما دمنا غير مجتهدين ، ومرجعنا يحكم باعتبار إذن الفقيه في الصرف أو يحتاط ، فوظيفتنا عملاً عدم الصرف إلا بإذن الفقيه ، ولا يصغى إلى القائل بعدم الاعتبار .
كما لا يصغى إلى من يحاول أن يجعل مسألة الخمس مسألة عائمة بلا ضوابط ، ويطرح أفكاراً من كيسه ويطلب من الناس العمل بها وهو لم يثبت اجتهاده ولم يعترف أحد بفهمه و قدرته على اقتناص الحكم الشرعي من مظانه .