القائمة الرئيسية

الصفحات

إشكالية تعارض القضاء والقدر مع اختيار الانسان

 

إشكال تعارض القضاء والقدر مع اختيار الانسان

بقلم: ليث الكربلائيّ

أرسل أحد الأصدقاء يسأل: هل الحياة متعلقة بالقدَر أم لا ؟ أي إذا كان الانسان مثلا يرغب في أن يُصبح رياضيًا أو دكتورًا أو مدرّسا أو .. هل يمكنه أن يقرر ذلك أو أنه تابع للقدَر؟

الجواب:

[ الإنسان مختار ]

في البدء لا شكّ في أنّ الإنسان مختار في أفعاله فهذه مسألة بديهيّة وجدانيّة يُدركها الإنسان بأيّ تأملٍ بسيطٍ في أفعاله، ويشير إليها منبهات كثيرة بل حتّى من يقول بالجبر نظريًا تجده من الناحية العمليّة يسير وفق مسلك الاختيار إذ تجده مثلًا يُعاقب من يُسيء إليه، ويشكر من يتفضّل عليه، ولو كان يعتقد بأنّهما مجبوران في فعلهما لما عاقبَ ولا شكرَ، إذ لا معنى لتوجيههما للإنسان غير المختار .

ولا تعارض بين هذا الاختيار وبين مقولة القدر والقضاء وبيان ذلك بإيجاز في النقاط الثلاثة التالية:

أولاً: معنى القدر والقضاء .

القدَر لغة بيان كميّة الشيء وقدره، أو قل هو مبلغُ الشيء وحدُّه ومقداره، وأما القضاء فهو لغةً الفصلُ والبتُّ والامضاء، ووردت اللّفظتان في الكتاب الكريم والنصوص الشريفة وكذلك في بحوث الفلاسفة والمتكلّمين بهذه المعاني نفسها فمعناها الاصطلاحي يتحد مع اللغوي وكيف كان يمكن تعريفهما بأنَّ:

القدَر: هو تقدير وجود الشيء وكيفيّته وتعيين حدوده وخصوصيّاته التي يوجد عليها كتقدير المهندس لحدود وصورة وخصوصيّات المنزل قبل الشروع ببنائه.

وأمَّا القضاء: فهو ضرورة وحتمية وجود الشيء, في ظرفه الخاص عند تحقق جميع الأسباب والشرائط التي يتوقّف عليها كحتميّة تحقّق احتراق الورقة الجافّة عند مماسّة النار. ولا شكّ أنك منتبه الى أن هذه الحتميّة هي نفسها عبَّرنا عنها في المعنى اللغوي بالفصل والبتّ و..

ومنه يتّضح عدة أمور:

1- إن القدَر والقضاء متلازمان شاملان لجميع الموجودات ففي مثال المنزل السابق (التقريبي) بعد توفر أسباب وجوده (وهو القدر) يبتُّ المهندس ببنائه (وهذا البتُّ هو القضاء) كذلك في مثال الورقة بعد وجود أسباب الاحتراق من وجود النار والورقة الجافة وحصول التماس (وهذه كلها القدر) يتحتم حدوث الاحتراق (وهذه الحتمية هي القضاء) .

2- إن القضاء مرتبة متأخّرة عن القدر فأوَّلًا يتمّ التقدير ثم على ضوئه يأتي القضاء بتحقق الشيء او عدم تحققه .

3- إن القدر والقضاء ليسا خارجين عن قانون السببية الذي يحكم الكون بل هما من تمثلاته وخاضعان له، فليس التقدير غير النسبة القائمة بين الشيء وعلته الناقصة وليس القضاء غير الضرورة والحتمية التي تتحدد على ضوء الأسباب وبيان ذلك بأنه:

إذا وُجِدَت العلة التامة للشيء كما في مثال الورقة السابق فلا شك بضرورة تحقق المعلول وهو في المثال الاحتراق وإذا لم توجد العلة التامة بأن فُقِدت بكلها او بعض أجزائها كأن لم يتحقق التماس بين الورقة والنار او تحقق ولكن الورقة كانت رطبة وغير ذلك من الصور فلا شك في حتمية عدم احتراق الورقة في هذه الحالات لعدم توفر علتها التامة وهذه الضرورة او الحتمية في كلا الحالتين (ضرورة الاحتراق وضرورة عدم الاحتراق) هي القضاء .

وأما التقدير فهو يمثل النسبة بين الشيء وعلته الناقصة فمثلا إذا سألتك: هل يمكن أن تحترق الورقة الجافة؟ تقول نعم هي قابلة للاحتراق بشرط مماسة النار. وإذا غيرت السؤال: هل يمكن للنار أن تحرق الورقة؟ تقول نعم النار فيها ما يقتضي احراق الورقة بشرط جفاف الورقة ومماسة النار.

فالذي ينبغي الانتباه له في هذه الأجوبة أنَّها أصبحت تحوم حول مقولة إمكان وقوع الاحتراق والقابلية والاستعداد له ولم تعد تتحدث عن الضرورة والحتمية والسبب في ذلك الأسئلة نفسها تُجري مقايسة بين الشيء (احتراق الورقة) وبين علله الناقصة كُلاً على حِدة وليس بينه وبين علته التامة التي هي تمثل مجموع تلك العلل . والذي اريد الوصول إليه أن هذا الإمكان هو (القدَر) وذلك لأن هذه العلل الناقصة المتمثلة بطبيعة شدة النار واقتضائها الإحراق وطبيعة الورقة وقابليتها للاحتراق ومقدار جفافها ومقدار التماس بينها وبين النار هذه كلها هي التي ستحدد مقدار الاحتراق من حيث كيفيته وشدته وخواصه وهذا هو ما يُعرف بـ (القَدَر) .

وقد صرّحت بعض النصوص الشريفة بهذا المعنى للقدر والقضاء منها ما رُوي عن يونس بن عبد الرحمن أن الامام الرضا عليه السلام قال : " تعلم ما القدر؟ قلت: لا، قال (ع): هي الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء.. والقضاء هو الإبرام وإقامة العين" الكافي: 1/ 185 .

ثانيًا: القدر والقضاء واختيار الانسان في أفعاله

بعد أن تبين أن القدر والقضاء ليسا شيئا وراء قانون السببية الذي يهيمن على الكون كله يأتي السؤال الذي يهمنا وهو: هل يلزم منهما أن الانسان مجبور في أفعاله؟

يبتني جواب هذا السؤال على معنى القدر والقضاء الذي ذكرته قبل قليل فبما أنهما يجريان على ضوء قانون السببية يمكن فك شيفرة هذا السؤال بعد تحديد الأسباب الكامنة وراء أفعال الانسان.

وإذا تأملنا في وجداننا نلاحظ أن أي فعل اختياري مقصود يصدر منّا يتوقف على المرور بأربعة مراحل على هذا الترتيب: المرحلة الأولى منها: هي العلم بالشيء الذي يُراد إنجازه وهي على مرتبتين الأولى تصور الشيء والثانية التصديق بأنه كمال لنا او فيه منفعة لنا. ثم المرحلة الثانية: وهي الشوق الى الفعل بسبب التصديق بمنفعته والثالثة: هي الإرادة وهي كيفية نفسانية لا تتحقق الا في حالة علمنا بعدم العجز عن الاتيان بالفعل وأخيرا تأتي المرحلة الرابعة: حيث يتم الايعاز الى العضلات بالمبادرة الى الفعل .

ومنه يتضح أن الإرادة جزء من العلة التامة لتحرك الانسان الاختياري بمعنى آخر ان هذه المراحل الأربعة إن وجدت صار تحرك الانسان الاختياري ضروريا وحتميا وإن فقدت كلها او بعضها لن تتحقق الضرورة والحتمية وقلتُ سابقا ان هذه الضرورة والحتمية هي القضاء بعينه فلا شك أنك الآن أدركت الجواب عن السؤال فمن دون تحقق الإرادة في الانسان لن يتحقق القضاء لعدم تحقق العلة التامة ومن هنا قالوا أن القضاء يتعلق بارادة الانسان لا أنه ينافيها .. وأيضا لهذا السبب قال بعض فلاسفة المسلمين أن القضاء يؤكد ويؤيد الفعل الاختياري لا أنه ينافيه لأنه أساسا إذا لم توجد ارادة لن تتحقق الحتمية وبالتالي لن يتحقق القضاء الذي يوجب الاتيان بالفعل . 

وعليه يتضح ان الانسان إذا أراد شيئا كأن يصبح رياضيا او فيزيائيا او مؤرخا او .. كل ما عليه أن يوفر السبب التام لذلك و ليطمئنَّ أن القضاء حينها لن يتعلق بغيره .. نعم قد تعيقه مزاحمات عالم المادة نفسه كظلم الناس بعضهم لبعض وما شابهه وهذا لا علاقة له ببحثنا .

ثالثا: نسبة القدر والقضاء الى الله تعالى

قد ينقدح في ذهن السائل أنه إذا كان القدر والقضاء يجريان على ضوء قانون السببية ولا ينافيان الاختيار فلماذا يتم نسبتهما الى الله سبحانه وتعالى في النصوص الدينية؟

الجواب في هذا بحث طويل الذيل واعتقد أنّي قد أطلتُ بما فيه الكفاية لذا أوجز الجواب في أن الله تعالى هو مقنن وموجد قانون السببية، والأسباب سواء في وجودها او في اقتضاءها لمعلولاتها تحتاج إليه سبحانه حدوثا وبقاءً وبالتالي هو سبحانه قد أوجدها وأودع فيها قوة الاقتضاء هذه وسنّ لها قانون التقدير والقضاء الملائم لها لذا تُنسب إليه.

ويمكن إجماله بعبارة أخرى أن سلسلة الأسباب والمسببات في نفسها لا بد أن تنتهي بعلة نهائية وهي الله سبحانه لذا هي ترجع اليه  في وجودها وفي ناموسها وسنتها من التقدير والاقتضاء .

_____

ملاحظة: الضرورة والحتمية في قانون السببية المذكورة في هذا المقال اريد بها الضرورة العقلية فهي في قانون السببية من البديهيات وعليها منبهات كثيرة، وإذا أمكن إقامة البرهان الرياضي عليها كما فعل بعض فلاسفة العصور الوسطى فبها ونعمت وان لم يمكن فلا يضر ذلك وأمّا المنهج التجربي الحديث فبما أن بعض أتباعه على الأقل يحاول استبدال اصل مقولة السببية بمقولة التقارن فلا شك يترتب عليه استبدال الضرورة بالاحتمال لكن هذا المذهب أوَّلاً: يخالف البديهيات العقلية وثانيا: بمراجعة كلماتهم يلاحظ انهم بنوه على رصد العلل الناقصة بينما الضرورة لا تكون إلا في العلل التامة فمثلا يتعاملون مع الجرثومة كعلة للمرض بغض النظر عن الشروط والموانع فمن الطبيعي أن تكون العلاقة بينهما تقارنٌ واحتمالٌ بينما لو كانت المقايسة بين المرض وعلته التامة فلا مندوحة للقول بغير الضرورة .