القائمة الرئيسية

الصفحات

من هم المؤمنون المطلعون على أعمال العباد ؟

 

تفسير قوله تعالى (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)

بقلم: الشيخ حيدر السندي

السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... هذا كلام الآلوسي في تفسير آية {وقل اعملوا} فكيف نستطيع أن ننفض كلامه و ننقض الرواية التي استشهد بها؟

[ شبهة الآلوسي في تفسير قوله تعالى: (فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) ]

قال الآلوسي: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى ع‍الم الغيب والشه‍ادة فينبئكم بما كنتم تعملون) (وقل اعملوا) ما تشاؤون من الأعمال (فسيرى الله عملكم)  خيراً كان أو شراًّ، والجملة تعليل لما قبله أو تأكيد لما يستفاد منه من الترغيب والترهيب والسين للتأكيد كما قررنا أي يرى الله تعالى البتة  (ورسوله والمؤمنون)  عطف على الاسم الجليل، والتأخير عن المفعول للاشعار بما بين الرؤيتين من التفاوت، والمراد من رؤية العمل عند جمع الاطلاع عليه وعلمه علماً جليّاً، ونسبة ذلك للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين باعتبار أن الله تعالى لا يخفى ذلك عنهم ويطلعهم عليه أما بالوحي أو بغيره.

وأخرج أحمد وابن أبي الدنيا في الاخلاص عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه [وآله و]سلم قال: " لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لأخرج الله تعالى عمله للناس كائناً ما كان " وتخصيص الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بالذكر على هذا لأنهم الذين يعبأ المخاطبون باطلاعهم، وفسر بعضهم المؤمنين بالملائكة الذين يكتبون الأعمال وليس بشيء، ومثله بل أدهى وأمر ما زعمه بعض الأمامية إنهم الأئمة الطاهرون ورووا أن الأعمال تعرض عليهم في كل اثنين وخميس بعد أن تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم. روح المعاني: ج11 ص16.

الجواب:

[ مناقشة شبهة الآلوسي وإثبات عرض الأعمال على أهل البيت عليهم السلام ]

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته 

أما الرواية فغير معتبرة لعدم ورودها بطرقنا الصحيحة، و الوارد عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) هو تفسير المؤمنين بالحجج، وهو المتبع.

لو تأملنا ما ذكره الآلوسي لوجدناه يتمثل في أمور ثلاثة:

الأمر الأول: أن المقصود بالعمل كل ما يفعله المؤمن من خير أو شر، فإنه سوف يعلم به الرسول (صلى الله عليه وآله ) والمؤمنون .

الأمر الثاني: المراد من رؤية العمل عند جمعٍ الاطلاع عليه وعلمه علماً جليّاً، ونسبة ذلك للرسول (عليه [وعلى آله] الصلاة والسلام) والمؤمنين باعتبار أن الله تعالى لا يخفي ذلك عنهم ويُطلعهم عليه إما بالوحي أو بغيره.

الأمر الثالث: هو أن كشف العمل للرسول (صلى الله عليه و آله) وللمؤمنين بغرض الترغيب في عمل الخير، و الترهيب والزجر عن عمل الشر.

ولا يمكن أن نلتزم بهذه الأمور الثلاثة معاً إلا إذا قلنا بأنّ المقصود بالمؤمنين الذين يرون الأعمال جماعة خاصّة لا عامّة المؤمنين، و ذلك لأنه إن كان المراد رؤية العمل في الدنيا، فإنه من الواضح أن كل مؤمن لا يرى كل أعمال المؤمنين سواء كانت أعمالاً قلبية وجوانحية ، كحب الله تعالى وحب أوليائه أو حسد وبغض المؤمنين  أم كانت جوارحية كالصلاة و الصدقة.

وعليه، فلا يمكن إذا قيل بأن رؤية الأعمال في الدنيا أن يكون المقصود عامة المؤمنين، لأن هذا خلاف الواقع وخلاف الاجماع.

و إن قيل: أن المقصود رؤية العمل في الآخرة، فكل مؤمن يرى جميع عمال المؤمنين .

قلنا: هذا باطل أيضاً للروايات الدالة على أن الله يستر بعض أعمال العباد عن البعض، قال ابن حجر "دلَّ مجموع الأحاديثِ على أن العصاة من المؤمنين في القيامة على قسمين: قسم تكون معصيتُه مستورةً في الدنيا، فهذا الذي يسترها الله عليه في القيامة، وقسمٌ تكون معصيته مجاهرة،  فهو بخلاف ذلك" ، وقد رووا عن  النبيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [و آله ] وَسَلَّمَ-: "كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سترَ اللهِ عَنْهُ" متفق عليه. 

ورووا أنه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ) قال : "إِنَّ اللهَ -عز وجل- يُدْنِي الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، وَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ، قَالَ الله له: فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ" متفق عليه.

إذن، فلا يسع القول بأن كل مؤمن يرى كل عمل بلا فرق بين عالم الدنيا وعالم الآخرة.

و لو تأملنا الآية الكريمة لرأينا أنها تتحدث عن رؤية في الدنيا، فقد قال تعالى:{وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} ثم عقب بقوله: {وستردون إلى ع‍الم الغيب والشه‍ادة فينبئكم بما كنتم تعملون }، ومن الواضح أن الرد بعد الموت لقوله تعالى: { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } سورة الجمعة : آية 8 ، فلا بد من استبعاد كونها في يوم القيامة لوجهين :

  1ـ ما تقدم من  ستر الله وعدم كشفه لجميع الأعمال فيها .

  2ـ إن رؤية المؤمنين للأعمال قبل الرد على الله تعالى في يوم القيامة.

وإذا قيل: لعل المقصود رؤية العمل في عالم البرزخ فكل مؤمن عند موته يرى جميع أعمال الناس في البرزخ .

قيل: هذا باطل أيضاً، لأن ما دل على أن الله تعالى يستر عمل العبد يوم القيامة إنما هو  لبيان منَّة الله تعالى على عباده، وأيّ منَّة في أن يفضحهم في البرزخ ثم لا يكرر الإخبار عن أعمالهم للمطلعين عليها سابقاً في البرزخ، و يعتبر ذلك ستراً؟!

ولا مخرج من ذلك إلا بالقول بأن المراد من المؤمنين بعضهم، وهم الذين لهم إضافة خاصة إلى الله تعالى بنحو تعد رؤيتهم لأعمال الناس من شؤون رؤية الله تعالى، لأن لهم مقام الشهادة والحجية، فلا يكون اطلاعهم منافياً لمنّة الله على العباد بالستر وعدم الفضح، وهذا نظر أن يكون في الدولة جهاز رصد يتبع الحاكم، وهو المسؤول عن ملاحظة سلوك الناس، وجهاز تحليل معني بجمع المعلومات وتحليلها وتحديد الموقف المناسب مع المخالفين، فإن معرفة هذا الجهاز ببعض الأعمال السيئة للناس من شؤون معرفة الحاكم، فإذا قال الحاكم: قد رصدنا مخالفات جماعة، وسوف نستر عليهم، ولن نعلن ذلك في وسائل الإعلام، عد كلامه ستراً ومن منِّه ،وإن قام الحاكم  باطلاع جهاز التحليل والدراسة قبل ذلك، والأمر كذلك بالنسبة إلى بعض المؤمنين، فهم أصحاب مقام ومنصب عند الله تعالى، و رؤيتهم من شؤون رؤية الله عز وجل، وليس اطلاعهم على أعمال الناس فضحاً منافياً لرواية الستر الكثيرة، والتي تبين عظم منّة الله تعالى على المؤمنين، وهذا هو وجه الجمع العلمي الدقيق. 

   ومن الواضح أنه ليس كل مؤمن له هذا الشأن بنحو يكون اطلاعه لا يعد فضحاً وغير مناف للستر الثابت قطعاً، فلا بد أن يكون المقصود جماعة خاصة منهم، وقد قام  الإجماع على أن غير أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ليس له هذا المقام، وأنه لا يطلع  على جميع الأعمال في الدنيا أو في غيرها، وقد روى المخالفون عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، وقال السخاوي: حديث مشهور المتن ذو أسانيد كثيرة وشواهد متعددة في المرفوع وغيره (المقاصد الحسنة: ص460)، وحسَّنه الشيخ الألباني، انظر السلسلة الصحيحة - مختصرة - (ج 3 / ص 319)(1510).

ورووا: (إن الله أجاركم من ثلاث خلال أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعا وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق وأن لا تجتمعوا على ضلالة).

وعن أبي خلف الأعمى عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه[وآله] وسلم يقول: ( إن أمتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بسواد كذا الأعظم الحق وأهله) وقال الالباني:  والشطر الأول منه صحيح له شواهد.

وروايات الستر ـأيضاًـ تدل على عدم اطلاع الكل على الكل، وإلا فلا معنى للستر أصلاً، فيتعين بعد الإجماع أن يكون المقصود أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو ما دلت عليه روايتهم المعتبرة، وبهذا نحفظ إطلاق الآية من جهة الأعمال، فلا مانع من اطلاع الأئمة ( عليهم السلام) على كل الأعمال، وروايات الستر لا تنافي ذلك، و التخصيص في المؤمنين للعلم بأنه لا يراد العموم -كما بينّا-.