القائمة الرئيسية

الصفحات

 عند ضفاف فلسفة اللغة | الشيخ عبد الغني العرفات

من أحب المواد الدراسية إلى قلبي وفكري مادة فقه اللغة ، تلك المادة التي لم نوفّق كطلبة كلية المعلمين في الحضور عند (دكتور) يليق بالمادة ، فقد حضر أستاذها متأخرًا بعد بدء العام الدراسي -وليته لم يحضر- فلذلك قصة طويلة ، يكفي القارئ أن يعرف منها أن الملحقيات الثقافية لها دور في استقدام بعض هؤلاء من غير حملة الدكتوراه لعدة أسباب . عرفنا ببعض تفاصيل هذه المأساة من رئيس قسم اللغة العربية الذي طلب منّا إغلاق باب غرفته حذرًا ليحكي لنا بعض الخفايا.

ولا زالت ندوب تلك المرحلة باقية بفكاهات ذلك الدكتور فلم يكن حالنا معه في النحو بأفضل منه في فقه اللغة ، ففي إحدى دروس مادة النحو وهو (أوضح المسالك) لابن هشام قال إنّ حرف الوقاية يدخل على الفعل فقط كقولك : زارني فدخل حرف النون بين زار وياء المتكلم ، فنقض عليه بعض إخوتنا بأنها تدخل على الحرف أيضا كقولك ( إنني) و ( لعلني) فقال مرتبكًا ( دي عوزه كلام كتير) ثم حضرنا الامتحان بعد يوم أو يومين فكان ذلك الماهر في فقه اللغة يبحث عن ذلك الطالب وسط قاعة الامتحان: (فين ذا اللي سألني عن نون الوقاية ..) فكان قد استجمع قواه العلمية بسؤاله لأحد أساتذتنا المبرزين في النحو من نفس جنسيته عن تلك المسألة وجاء متبخترًا ليشرحها لذلك الطالب في قاعة الامتحان !!.

فلسفة اللغة

ولا زلتُ أحتفظ بشتاتٍ من كتاب صبحي الصالح في فقه اللغة وهو الكتاب المقرر للمادة وأستمتع بقراءته بين الفينة والفينة ، فأسرار اللغة هي سر الوجود وعلامة الرب المعبود التي كلما تعمقنا فيها صغر عندها علمنا واتسع جهلنا وعرفنا شيئا من حكمة الخلق والتدبير.

[ فلسفة اللغة في الحوزة العلمية في النجف الأشرف ]

وأُتيحت لي الفرصة لمعاودة المطالعة في أسرار اللغة في الجزء الأوّل من فلسفة اللغة الذي يُعدّ من أواخر نتاجات السيد الأستاذ عمار أبو رغيف الثرة بعد أن ألقى قسمًا  منه على طلبة الحوزة في النجف الأشرف سنة 2016م .

وقليلة هي الدراسات التي تحفر عموديًا في الآراء والنظريات المتعلقة بفلسفة اللغة في حاضر الحوزة اليوم إما لأنها غير معنية بها أو لأنها تتناول جانبا منها يدخل ضمن اهتماماتها ، أما أن تقدم بناء نظريا في فلسفة الدلالة فهو ما تسعى إليه هذه الدراسة للأستاذ أبو رغيف . وهو هنا يستعرض آراء مدرسة النجف الحديثة التي تأسست بعد انحسار مدرسة كربلاء والتي اقترن تاريخها بتاريخ السيد بحر العلوم (ت ١٢١٢هـ) والشيخ جعفر كاشف الغطاء ( ت ١٢٢٨هـ) مع مقاربة نظريات الغرب وعامّة الانتاج خارج الحوزة، مع الوقوف على الهواجس التي تعد مقاربة فكر الآخر إشكالية مع أنه لا يخفي إعجابه بالنقاش الخصب الذي أثاره عالمي النفس الفرنسي (جان بياجيه) والروسي (فيجوتسكي) في نمو اللغة وتطور الفكر لدى الأطفال .

ولم يتوقف الأستاذ أبو رغيف كثيرًا عند تلكم الهواجس بل صنفها في البدء إلى هواجس تتعامل بارتياب وسلبية مع الغرب وفكره وهواجس تبذل كل الجهد لتجد تلاقيا بين فكر الغرب وما طرحه السلف.

[ فلسفة اللغة عند السيّد عمار أبو رغيف ]

تناول السيد الباحث أبو رغيف في هذا الجزء: بحث الوضع مفهومه وأقسامه، والمعنى الحرفي ، وختم الكتاب بملحقين : أحدهما في إشكالية الكليات والآخر في الوجود الرابط - وسنقف عند هذين الملحقين وفائدة إلحاقهما بالكتاب - فتناول في مسألة الوضع خمس نظريات فيه، وهي نظرية القرن الأكيد للسيد الصدر، ونظرية الاتحاد والهوهوية للسيد السيستاني، ونظرية التعهد للسيد الخوئي، ونظرية الاعتبار للمحقق العراقي ، ونظرية توقيفية اللغة والوضع للشيخ النائيني.

وفي أقسام الوضع التي نوع الأصوليون فيها الوضع إلى أربعة أقسام - كالوضع العام والموضوع له عام ، والوضع الخاص والموضوع له خاص ، والوضع العام والموضوع له خاص ، والوضع الخاص والموضوع له عام - طرحت أفكار للأصوليين في هذه الأوضاع تكشف عن مدى جدارة تلك النظريات الخمس السابقة وهل هي مصيبة في تفسيرها للوضع والدلالة الوضعية أو ابتعدت كثيرًا عن واقعها.

[ علاقة بحث وضع الألفاظ في فلسفة اللغة بعملية استنباط الحكم الشرعي ]

والسؤال الذي ربما يتبادر للأذهان: ما هي جدوى البحث في مسألة الوضع وتنويعه على عملية الاستنباط؟ وهل بحث الأصوليون هذه المسألة استطرادًا وخروجًا عن متن المسائل الأصولية أو كان لذلك علاقة بمسألة الاستنباط ؟ وهل كان هذا البحث إشباعًا لنزوة معرفية محضة أو كان لغرض التمهيد لمسألة أصولية؟

لا سيما أن الأبحاث الأصولية العليا تدار مدار أبحاث الكفاية للآخوند الخراساني وقد بحث مسألة الوضع كمقدمة ضمن ثلاثة عشر مقدمة في بداية الكفاية ، وقد وجدنا من غادر بعض هذه المسائل من مقدمة الكفاية ولم يدرسها كبعض الأصوليين المتأخرين كما فعل السيد محمد الروحاني في كتاب المنتقى بتقرير تلميذه السيد عبد الصاحب الحكيم ، ولكنه أبقى بحث الوضع ولم يحذفه فقال: " اعتاد الأعلام أن يبتدئوا بالبحث عن بعض الأمور وما يتعلق بها ، كموضوع العلم وخصوص علم الأصول والمائز بين العلوم ونحوها . إلا أنها حيث كانت عديمة الفائدة رأينا الاغماض عن ذكرها والبحث عنها أولى . ورأينا أن تكون بداية الكلام في الوضع وما يتعلق به من أبحاث " (١)

ثمرة البحث 

نعم بَيَّنَ المنتقى ثمرة مباحث الوضع في الحروف فتكون مباحث الوضع ونظرياته من قبيل الأبحاث الممهدة لبحث الوضع في الحروف فقال: " ثمرة المبحث : وقد قررت بأنه مع الالتزام بعموم الموضوع له في الحروف يتصور الاطلاق والتقييد في معانيها ويظهر ذلك في موردين : أحدهما : الواجب المشروط ودوران الأمر في القيد بين رجوعه إلى الهيئة ورجوعه إلى المادة . والآخر : في مفهوم الشرط والاستدلال على ثبوته بإطلاق أداة الشرط - كما يقرر في محله - . وهذا بخلاف ما لو التزم بخصوص الموضوع له فإنه لا يكون قابلًا للاطلاق والتقييد ، فيعلم بعدم رجوع القيد إلى الهيئة ، كما لا يمكن التمسك في إثبات المفهوم بإطلاق الأداة لعدم ثبوت الإطلاق فيها " (٢).

أما السيد الباحث أبو رغيف فتوقف عند الدلالة وقواعدها وأن اقتناص الدلالة يقوم على رؤية أعمق من مجرد تحديد قواعدها بل ذهبوا إلى ذلك في ضوء رؤية وجودية لطبيعة اللغة و أضاف : " سنتابع البحث الأصولي في فقرات ما سندرسه من بحوث (الدلالة) وهذا يعني أننا سنبدأ من بحث ( الوضع) وهو ما بدأ به الأصوليون واستهلوا به أبحاثهم فيما عرف بالدلالة اللفظية التي يركن إليها الفقه في اكتشاف الشريعة وأحكامها . وسنجد عبر بحث الوضع كيف نظر الأصوليون إلى اللغة ، وما هي الدلالة ، وعلى أي مقاييس يتم تصنيف الدلالات ودور العقل الإنساني في الفضاء اللغوي ، وأين تحكم الاعتباطية أو ضرورات التواصل الإنساني في نشأة الدلالة وتوظيف اللغة" (٣) " والسؤال المركزي في بحث الوضع لدى الأصوليين هو عن نشأة الدلالة .. والسؤال عن تفسير الدلالات الأولية للألفاظ على معانيها ينطوي على سؤال أبعد ، ينصب على نشأة اللغة ، وكيف استطاع الإنسان أن يوظف الأصوات ويستخدمها كعلامات على المعاني " ثم عاد وطرح سؤالا : لماذا الدلالة الوضعية ولماذا الوضع ؟ إذ من الممكن للباحث أن يدرس الدلالة الحقيقية دون الإشارة إلى الوضع .. يبدو لي أن النص على (الوضع ) يعود إلى أن الدلالة تنشأ من الاتفاق العام على أن العلاقة بين اللفظ والمعنى ليست علاقة ذاتية ، بل هي علاقة تنشأ جراء الجعل والوضع " (٤) وهو يشير بهذا إلى عرضية العلاقة بين اللفظ والمعنى التي تبناها أكثر المتأخرين بعد هجران الرأي الذي عرف بصاحبه ( عباد بن سليمان الصيمري) وهو وجود العلاقة الذاتية بين اللفظ والمعنى وإن ذهب إليه هرقليطس ونزر يسير من اللغويين الغربيين المحدثين 

[ مناقشة دعوى عدم جدوى البحث في نشأة اللغة ]

وذهب بعض الأعلام المتأخرين (٥) إلى عدم جدوى البحث في نشأة اللغة ، مبرراً ذلك بعدم وصول العلماء في اللغة والفلسفة والأصول إلى رأي قاطع وقناعة كافية في هذا المجال .. مضافًا إلى عدم توقف البحث الأصولي نظريًا وعمليًا على البحث عن نشأة اللغة وتحديد الواضع الأول .

يعقب السيد الباحث على هذا الرأي بالتالي:

١) الآراء في جل مسائل العلوم لم تصل إلى رأي قاطع أيضا.

٢) عدم الوصول إلى رأي قاطع في قضية من القضايا لا يشكل مسوغًا لهجرها.

٣) عدم توقف البحث الأصولي عليها عمليا أو نظريا أمر يستدعي إعادة النظر فيه. فالأبحاث التي سطرها البحث الأصولي الحديث في تحديد وتفسير الدلالات والتي هي في الجوهر أبحاث ميتالغوية (فلسفية) تتوقف على نظرة وجودية إلى طبيعة العلاقة ببن الدوال اللغوية ومدلولاتها (المعاني) هذه النظرة التي تقودنا إلى الاستفهام عن مصدر ما يكشف من أسرار تكتنف الدوال والإشارات اللغوية ثم إن صاحب الرأي قال بأن " فهم حقيقة الوضع اللغوي المعاصر يفيدنا في تحديد انطلاقة اللغة ونشأتها عند الإنسان ما دام الاندفاع نحو عملية الوضع والقيام بها أمرًا فطريا عند الإنسان ومقوما لإنسانيته ، والأمر الفطري لا يتغير بتغير العصور والحضارات والمجتمعات فيمكن استكشاف كيفية بداية اللغة وتطورها من خلال تحديد حقيقة الوضع في العصر الحاضر" (٦).

[ فلسفة اللغة عند الشيخ عبد الهادي الفضلي ]

يرسم العلامة الفضلي الحاجة إلى دراسة الوضع ونشأة اللغة فيقول : " دراسة نشوء الدلالة اللغوية (دلالة اللفظ على المعنى) هي في واقعها دراسة لنشأة اللغة ، لأن نشأة اللغة تعني حدوث الألفاظ اللغوية المستخدمة بين الناس للدلالة على معانيها كوسيلة لتحقيق التفاهم وتبادل الأفكار .. البحث في موضوع نشأة الدلالة يرتبط في - رأي الأصوليين - ارتباطًا وظيفيا بتشخيص الظهور ، وذلك لأن معرفة الوضع هي المنطلق لمعرفة الظهور .. إن الذي أثار دراسة الوضع عند الأصوليين هو تأثرهم فيه بما انحدر إليهم عن طريق الفلسفة اليونانية وهو هل دلالة اللفظ على المعنى ذاتية أو مجعولة ؟ " (7).

من هنا نجد السيد الباحث أبو رغيف يؤكد على المنطلقات العقلية لأبحاث علم الأصول وبالخصوص حقل مباحث الألفاظ (8) فيقول : "من هنا جاءت كثير من جولات هذه الدراسات ، التي ارتبطت بشكل أساسي ببحوث الدلالة وفلسفة اللغة منصبة على منهج البحث وطريقة قنص النتيجة . وقد لاحظنا بوضوح مدى الارتباط الوثيق بين الآفاق العقلية التي تبناها الباحثون والمحققون ، وبين أدواتهم في معالجة اشكاليات البحث " (9)

وما دام على قناعة من ضرورة عقد المقاربة والمقارنة بين ما أنتجته مدرسة النجف الحديثة والدراسات اللسانية والتأويلية المعاصرة - كما بينا حين اعترض على رأي الرافد - فلا بد من الإشارة إلى ما تتميز به تلك الدراسات المعاصرة فيقول :

[ ميزات الدراسات المعاصرة في فلسفة اللغة واللسانيات ]

"  الأولى :ميزة الدراسات اللسانية في العالم الآخر ، بل عامة البحث الدلالي واللغوي هو قيامه على استراتيجيات معرفية ، واعتماده مناهج تستثمر فيها الأكاديميات تلج الميدان الاختباري وتعتمد الملاحظة والتجربة - لاحظ الفرق الأساسي بين علم اللغة عامة في الولايات المتحدة الأمريكية ، تبعًا لاختلاف الاستراتيجية المعرفية التي اعتمدها (نعوم تشومسكي) ذات الطابع العقلي فلسفيًا (10)، وبين سلفه ( بلومفيد) الذي كان أسير النزعة التجريبية السلوكية المفرطة ..

الثانية: المعرفة اللسانية تقوم على أساس مصادرات ومناهج وفروض وتجارب .. - رغم أن تراثنا أغنى في جرأة مصادراته وتنوّع فروضه -" (11).

إذن قراءة النصوص في نظره لا يصح أن تكون مطلة من التاريخ فقط بل لا بد أن تطل على التاريخ وتعاصر أسئلة الراهن وتطل على المستقبل . والمتابعون يعرفون ماذا يعني البحث في الدلالة في ظل أسئلة العصر .. نعرف ماذا يطرحه التأويل المعرفي وهرمونتيك المعرفة والدلالة والوجود من أسئلة .. ونعرف حجم الفوضى التي تسوّد بها الأوراق ، وتربك الحوار والتفاهم ، بل توظف أحيانا كثيرة في تحدي المعرفة الدينية (12).

[ مناقشة نظريات وضع الألفاظ عند متأخري علماء النجف الأشرف ]

ناقش السيد الباحث أبو رغيف خمس نظريات في الوضع لمتأخري أعلام مدرسة النجف الحديثة (الصدر ، السيستاني ، الخوئي ، النائيني ، العراقي ) وعرف هذه المدرسة الحديثة بأنها تولدت بعد انحسار مدرسة كربلاء على يد السيد بحر العلوم والشيخ جعفر كاشف الغطاء ، وبين هذين المؤسسين والأعلام الخمسة المتأخرين ينتظم مجموعة من الأعلام والنظريات ، ولم يشر السيد أبو رغيف لتلك الآراء والنظريات، ونشير هنا على سبيل التمثيل لرأي أحد المؤسسين وهو الشيخ جعفر كاشف الغطاء ( ١١٥٦-١٢٢٨) الذي ذهب إلى أن الألفاظ موضوعة لماهية الشيء الذهنية مع قطع النظر عن وجوده وعدمه ؛ لأن النائم إذا تكلم دل لفظه على الصورة الذهنية مع أنه لا يوجد صورة ذهنية حينها، وكذلك يدل اللفظ على المعنى المعنوي كالإيمان والشجاعة التي لا وجود لها في الخارج (13).

وقد احتلت آراء أبناء وأحفاد الشيخ جعفر مساحة واسعة من عطاء مدرسة النجف الحديثة كالشيخ هادي كاشف الغطاء (١٢٨٨-١٣٦١هـ) الذي ألف رسالة في فن التجويد ، والشيخ محمد رضا كاشف الغطاء (١٣١٠-١٣٦٦هـ) الذي ألف رسالة في (الصوت وماهيته والفرق بين الضاد والظاء) فدرس فيه الصوت الإنساني واللغوي دراسة علمية منهجية ، فدرس الشيخ محمد رضا كاشف الغطاء الصوت بوصفه وحدة مستقلة ومنعزلة وهو ما يعرف عند المحدثين بالفوناتيك أو الفونتكس وهو العلم الذي يعنى بدراسة أصوات اللغة من حيث هي حركات عضوية فعلية من دون النظر إلى اللغة التي تنتمي إليها ، كما درس الصوت باختلاف ما يجاوره من الحروف وهو ما يعرف عند المحدثين بالفونولوجيا (14).

وأمّا الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (١٢٩٤- ١٣٧٣هـ) فقد ذهب إلى نظرية التعهد (15) التي قال بها بعد ذلك السيد الخوئي وكانت قد طرحت في كلمات طلاب الشيخ الأنصاري كالمحقق  النهاوندي في كتاب ( تشريح الأصول )والميرزا حبيب الله الرشتي .

نظرية التعهد والدلالة التصديقية

لا بد في التعهد من حصول معرفة مشتركة بين المتعاهدين فيتعهد الواضع أن يستعمل هذا اللفظ لهذا المعنى كلما أراد التفهيم فالوضع بدلالته التصورية وهو وضع صورة ولفظ للمعنى سابق على الاستعمال بين المتعاهدين .

 ولتوضيح رأي السيد الأستاذ الباحث في الدلالة نحتاج أن نقترب من النظريات الخمس ولكنه يتضح أكثر عند استعراض نظرية التعهد . فالاستعمال عند المتكلمين في نظرية التعهد متأخر على الوضع ، ولا بد في الاستعمال من القصد وهو ما يعبر عنه بالدلالة التصديقية في قبال التصور وهو الوضع هنا .

وخلاصة رأي الباحث قبل استعراض بعض نصوصه: أن دلالة الألفاظ على معانيها لا تحصل عبر الألفاظ المفردة بل لا بد أن تكون ضمن سياقات الجمل والمعاني التصديقية (16) فقال: " إننا نستبعد أن يكون النظام اللغوي والدلالات في هذا النظام يمكن تفسيرها على قاعدة الربط بين اللفظ ومعناه ، وأن دلالات الألفاظ على معانيها يمكن أن تستقر وتتخذ وضعا لغويا ويكون للفظ دلالة أولية اشارية للمعنى ، يقفز إليها ذهن أبناء اللغة للوهلة الأولى ، نستبعد حصول ذلك عبر الألفاظ المفردة ومعانيها ودون سياقات الجمل والمعاني التصديقية التي تعتمد على بنية اللغة بشكل عام " .

[ ملخص دراسات جان بياجيه وفيجوتسكي حول وضع الألفاظ للمعاني ]

وبعد استعراضه لمناقشات (جان بياجيه) و(فيجوتسكي ) قال: سنعمد إلى تلخيص نتائج ما انتهى إليه هؤلاء الباحثون - وأنا هنا أيضًا أحاول تلخيص كلامه - :

١) يبدأ الطفل من كلمة واحدة ثم يربط بين الكلمتين والثلاث ثم يشرع في تكوين الجمل من البسيط إلى المركب فهو في تعلم الأصوات يبدأ من الجزء إلى الكل أما بالنسبة للمعاني فالكلمة الأولى ذات المعنى عند الطفل هي الكلمة الجميلة ( فالطفل يبدأ من المركب الذي له معنى ثم يسيطر على معاني الكلمات المفردة).

٢) يبدأ الطفل في تعلم الكلمة بوصفها جزءا أو صفة من صفات الشيء ( البقرة مثلا عند الطفل هذا الشيء الذي عنده قرون ) ثم تتمايز المعاني اللفظية بالتدريج لديه . يبدأ النطق سرورا به ثم مناجاة بينه وبين نفسه كما لو كنت تفكر بصوت مسموع ثم مناجاة الآخرين كمنبه ومشير فقط.

٣) يرتبط الفكر باللغة عبر عملية عقلية تتمثل بالسير من الفكر إلى الكلمة وبالعكس . ويولد فكر الطفل كلامًا غامضا غير محدد ثم يجد تعبيره الأول بالكلمة ، وكلما أصبح تفكيره أكثر تمايزًا تخلى عن الأجزاء المنفصلة من الكلام ليبني كلامًا جيد التركيب ( لكنه في الوقت نفسه كلما تقدم في حديثه من الجزء إلى الجملة أصبح أكثر قدرة على التقدم من الفكرة المبهمة إلى الوحدات المحددة) من هنا تكون عمليات نمو المظهرين الصوتي والدلالي متعارضة في البداية لكنها تنتهي لتكون وحدة حقيقية . 

[ رأي السيد عمار أبو رغيف في نشأة اللغة وفلسفة الدلالة ]

بعد استعراضه لمجمل هذه النقاشات يعقب السيد الباحث بقوله : " نتبنى النظرية التي تقول إن الكلمة ذات المعنى لدى الطفل هي الكلمة المفردة المقترنة بمعناها المفرد وليست الكلمة الجملية، لكن الدلالة الوضعية - دلالة اللفظ المستقرة على معناه والتي يصطلح عليها البلاغيون الدلالة الحقيقية - لا تنعقد بمجرد عملية الربط والقرن المؤكد بين اللفظ والمعنى . إنما تترعرع الدلالة الوضعية وتأخذ شكلها عبر السياق الجملي ومن خلال عملية عقلية" (17).

واستكمالاً لرؤية السيد الباحث حول نشأة اللغة وفلسفة الدلالة ، ننقل هنا بعض نصوصه (18).

ولا يمكننا استعراض النظريات الخمس للأعلام بكل تفاصيلها في هذه العجالة بل سنكتفي بذكر الملحوظات التي وجهها السيد الباحث ، ومن خلالها يتضح مضمون تلك النظريات ، كما أن القراء المطلعين على أبحاث علم الأصول وفلسفة اللغة يعلمون عنها الشيء الكثير ، فلا نطيل في توضيحها.

[ نظرية السيد محمّد باقر الصدر في نشأة اللغة ، نظرية القرن الأكيد ]

ابتدأ السيد أبو رغيف بعرض ملخص نظرية الشهيد الصدر في تولد اللغة ، فهناك في رأيه ثلاثة قوانين تكوينية : 

الأول: أن الإحساس بالشيء سبب في انتقال الذهن إلى صورة ذلك الشيء. وهو ما يعبر عنه بالاستجابة الذهنية.

الثاني: انتقال صورة الشيء إلى الذهن عن طريق إدراك مشابهه ، فإذا رأى الإنسان صورة للأسد على الورق انتقل إلى صورة الحيوان المفترس.

الثالث: انتقال صورة الشيء إلى الذهن عن طريق إدراك الذهن لما وجده مشروطا ومقترنا بذلك الشيء وكان هذا الاقتران على نحو بليغ وأكيد ، فيصبح هذا القرين في حكم قرينه من حيث إيجاد نفس الأثر والاستجابة الذهنية وهو ما يعرف بالمصطلح الحديث (المنبه الشرطي والاستجابة الشرطية) والاقتران إما أن يكون كميا وهو كثرة تكرر الاقتران أمام إحساس الذهن أو كيفياً وهو عندما يكتنف الاقتران حالة جعلته لا ينمحي من الذهن.

ومثال ذلك : لو أطلق شخص صوتاً مشابها لصوت الأسد لانتقل الذهن إلى صورة الأسد نتيجة الإحساس السمعي وهو القانون الأول . 

ولو استخدم إنسان إشارات تعبيرية وتصويرية للأسد فإن الذهن سينتقل إلى صورة الأسد المشابهة لهذه الإشارات وهو القانون الثاني.

ولو استخدم صوتا مخصوصاً وكرره وجعله مقروناً بمعنى ومشروطاً به أو جعل ذلك اللفظ والصوت مقرونا بحالة كما دق جرسًا عند إحضار الطعام للحيوان فإن كثرة تكرار إحضار الطعام مع صوت ذلك الجرس يجعل الحيوان يقرن بينهما فيسيل لعابه وعندما يدقّ الجرس في المرات القادمة فإن لعابه سيسيل حتى لو لم يحضر الطعام .

" وهكذا تولدت ظاهرة اللغة في حياة الإنسان وبدأت تتكامل وتتوسع من صيغ بدائية محدودة إلى صيغ متكاملة أكثر شمولا واستيعابا للألفاظ والمعاني " (19).

[ نظرية السيد السيستاني في فلسفة الدلالة، نظرية الاتحاد و الهوهوية ]

اللغة في نظر السيد السيستاني ظاهرة حضارية ..  فلا بد أن تمر بمراحل أربع :

مرحلة الانتخاب: هي مرحلة الجعل والاعتبار أي الربط والاختصاص بين اللفظ والمعنى ولو ربطًا اعتباريًا.

مرحلة الإشارة: هي مرحلة القرن وتأكيده بين اللفظ والمعنى التي تتم بموجبها الإشارة باللفظ إلى المعنى ( عبر عوامل كمية وكيفية).

مرحلة التلازم والسببية الذهنية : وهي كون صورة اللفظ سببًا لتصور المعنى.

مرحلة الهوهوية: وهي اندماج تصور المعنى في تصور اللفظ.

يرى السيد السيستاني أن قانون الاقتران الشرطي الذي فسر به السيد الصدر تولد اللغة هو أحد مظاهر قانون أشمل وهو قانون تداعي المعاني فقانون الاقتران الشرطي داخل تحت قانون تداعي المعاني ؛ إذن علينا دراسة هذا القانون وليس الاقتران الشرطي ، والقانون المذكور له عوامل:

الأول :كثرة التقارن في الإحساس سواء كانا لفظين كلفظ ( قال محمد) ولفظ ( هو ابن مالك) (20) فإنهما يتلازمان في الخطور ذهنا أم كانا معنيين كطلوع الشمس وصحوة الناس من النوم لتقارنهما خارجا وحسا.

الثاني : التشابه فإن شبه شيء بشيء يكون عاملا في تصور الشبيه عند خطور شبيهه في الذهن.

الثالث: التضاد كالظلمة والنور ويكون التضاد عاملا في تقارنهما في الذهن.

قال السيد السيستاني " والمرتبط بمحل كلامنا العامل الأول فقد ذكروا في مقام تقريره أنه أقيمت تجربة عملية مع الكلب .." ثم ذكر تجربة العالم الروسي بافلوف مع الكلب وهو ما يعبر عنه بالاقتران الشرطي عند علماء النفس.

ومع هذا فالمراحل الأربع المذكورة لا تحتاج إلى قانون تداعي المعاني ؛ لأنه قانون غريزي فطري ، بينما العلاقة الوضعية اللغوية بين اللفظ والمعنى تتوقف على المراحل الأربع ؛ لأنها مرحلة راقية للتطور الإبداعي عند الإنسان (21).

وسجل السيد الباحث ملحوظة على المرحلة الثانية بعد نقل نص الرافد حولها : " وأما مرحلة الإشارة فقد تكون عملية مقصودة من قبل الواضع في تكراره الاستعمال ، وتكثير القرائن المشيرة ، والعوامل المرسخة للعلاقة بين اللفظ والمعنى ، وفي الغالب لا تكون عملية مقصودة بل هي أمر تكويني ، وهو كثرة الاستعمال والاطلاق وحمل اللفظ على المعنى مع القرائن " (22).

والملحوظة هي : أن الرافد اعتبر المرحلة الأولى ضرورية للانتقال للمرحلة الثانية وهي مرحلة الإشارة بينما النص المذكور آنفًا يقول : إن الربط يتم عبر الإشارة في الغالب حيث كثرة الاقتران التكويني !! إذن أين القصدية ؟! إذا كانت اللغة عملية إبداعية راقية تتطلب تخطيطًا وعقلا !!

" إن استخدام الألفاظ مع القرينة للدلالة على المعنى لا يتاح إلا في العمليات القصدية ، التي ترقى على فعاليات الاقتران الشرطي . لوضوح أن إشارية اللفظ إلى المعنى في عملية الاقتران الشرطي سيكون اللفظ ذاته هو القرين للمدلول الحسي المعادل للفظ . فكلمة (الحليب) تقترن في ذهن الطفل بمادة الحليب الحسية التي تقدمها الأم ، وحينما يتكرر هذا القرن في ذهن الطفل مرات متعددة فسوف يكون اللفظ قرينة تامة على المعنى ، أي سيكون اللفظ دالاً على المعنى الحسي ، بحكم القرن المتكرر ، دون أي قرينة إضافية في البين " (23).

نقلنا بعض نصوص السيد الباحث أبو رغيف حول رؤيته للدلالة ونشأة اللغة وقد فرقها عند نظريات الأعلام الخمسة ، فلا يتضح الرأي إلا بعد معرفة الرأي الآخر ، ولذا لم نأت بتلك النصوص كاملة ومبتورة عن سياق استعراض تلك النظريات.

جهاز اللغة

اللغة ملكة ، اللغة تلهمنا ولسنا الذين ألهمنا اللغة ، اللغة جهاز .. بهذه الكلمات عبر السيد الباحث عن بعض معالم تلك الرؤية ، فاستعار نصًا لنعوم تشومسكي ، ربما لقوة دلالته وبعيد مرماه على أن اللغة مغروسة في طبيعة البشر أكثر مما هي شيء يتعلمه البشر : " القدرة العقلية الإنسانية محكوم إلى حد بعيد بطبيعتنا الأحيائية الداخلية .لذلك فاللغة بصفتها قدرة طبيعية هي شيء يحدث لنا ، مثل تعلمنا للمشي تماما ، وبكلمات أُخر : ليست اللغة  شيئًا نتعلمه ، اللغة شيء يحدث لنا ، لا شيئا نقوم بتنفيذه . وهو أشبه بوصولنا سن البلوغ . فنحن لا نتعلم أن نصل سن البلوغ ، ولا نقوم بذلك لأننا رأينا أناسًا آخرين يعملونه ، بل سبب ذلك أننا هُيئنا لكي نقوم بذلك في وقت محدد" (24) .

فتشومسكي يرى أن هناك معرفة مضمرة ومستترة و موهبة بيولوجية تجعل الطفل ينجح في مدة قصيرة في امتلاك قواعد "نحو" لغته (25) إنه يرى أن العقل البشري جزء من الطبيعة ، بل إنه نظام بيولوجي مثله مثل الأنظمة الأخرى .. فيقول " : التجريبية كفلسفة قد طورت نوعا من الازدواجية بين العقل والجسم بشكل غير مقبول .. فضمن هذا الإطار التجريبي يفهم المرء الجسم على أنه موضوع قائم برأسه في العلوم الطبيعية ، ويفهم أيضا أن الجسم مركب من أعضاء فيزيولوجية مختصة ومتنوعة ومعقدة على نحو كبير .. ومن جهة أخرى فإن الفلسفة التجريبية تعتبر أن الدماغ عبارة عن شكل فضفاض ( T abuts Rasa) وفارغ وغير مركب . والواقع لا أرى أي سبب يجعلني أصدق وجهة النظر هذه ، كما أنني لا أرى أي سبب يجعلني أعتقد أن الإصبع الصغير مثلا هو عضو بيولوجي أكثر تعقيدًا من أجزاء الدماغ الإنساني المرتبط بالملكات العليا " (26).

لذا فإن قضية الاقتران الشرطي والمنعكس الشرطي لا تفي بتفسير تولد اللغة في نظر السيد الباحث أبو رغيف بل لا بد من حضور قانون آخر هو قانون التعميم والتجريد من الخصوصية واصطناع الكليات وهو أرقى من قانون المنعكس الشرطي فبدون الكلي لن تحصل للإنسان معرفة ولن تحصل لغة ، " اللغة والفكر ما لم يتحرران من قانون المنعكس الشرطي ويتمردان عليه ، فلا الفكر قادر على الحياة ، ولا تقوم للغة قيامة" (27) وهذا ما قاده لوضع ملحق في آخر الكتاب يبحث في مسألة الكلي ، التي عجزت وفشلت المدرسة الوضعية المنطقية في تصوره فقالت بالاسمية وافترضت أن المعاني العامة ( الكلية ) ما هي إلا ألفاظ !! وعبر عن هذا بقوله: " الوضع لا يستقر ولا تقوم للألفاظ دلالة ، ما لم يبلغ الذهن مرحلة استخدام اللفظ في موارد أخرى تتجاوز القرن بينه وبين ربط مخصوص ( في حالة الحروف) وبينه وبين اسم خاص في الحالات الأخرى . وهذا لا يتم ما لم تستقر العلاقة الوضعية بين مفاهيم ما تكرر . وعلى لسان بعض علماء أصول الفقه إن الوضع علاقة بين ( طبيعي اللفظ وطبيعي المعنى) أي بين الكليات " (28).

فالصور الجزئية ( الشخصية) ما لم تتحول إلى مفاهيم كلية لا تخلق معرفة ، والارتباط بين الصور ما لم يفض إلى ارتباط بين المفاهيم الكلية العامة يتعذر بناء قواعد المعرفة ..(29).

[ نظرية الاعتبار في فلسفة الدلالة ونشأة اللغة ]

ذهب المحقق العراقي (ت ١٣٦١) إلى نظرية الاعتبار في وضع الدلالة ونشأة اللغة ، لكن هذا الاعتبار يفضي إلى اندكاك اللفظ والمعنى في وحدة عينية بحيث يكون الانتقال الذهني بالمعنى عين الانتقال الذهني باللفظ ويلغى من الذهن اثنينية هذين الوجودين ، وهذا متطابق إلى حد كبير مع مذهب الهوهوية . وباستعراض نظرية العراقي يتضح أنها جاءت في سياق الرد على نظرية الشيخ النائيني (ت ١٣٥٥) وهي نظرية إلهية اللغة وتوقيفيتها. 

الاعتبار عند المحقق العراقي

لا بد من توضيح مقصود العراقي من الاعتبار ، فماذا يقصد عندما يقول : إن دلالة اللفظ على المعنى اعتبار و اللغة اعتبار .

فرق المحقق العراقي بين الاعتبار التنزيلي كالتشبيه والاستعارة (المعاني غير المستقرة) فإن ذلك في ذهن المعتبر ، فهو يُشَبِّه ويعتبر فلانًا أسدًا فينزل صفات الأسد المشبه به للمشبه ، وينقطع هذا الاعتبار وينتفي بانقطاع المعتبر وتخليه عن هذا الاعتبار ، كما لو تخلى عن هذا التشبيه.

أما الاعتبار الواقعي كالفوقية والتحتية، فبالرغم من أن الفوقية نسبية فما هو فوق قد يكون تحتًا بالنسبة لما هو فوقه لكن هذا الاعتبار يختلف عن الاعتبار التنزيلي .

ودلالة اللغة المستقرة (المعنى الحقيقي عند البلاغيين) في نظره من نوع الاعتبار الواقعي في (العالم الثالث الذي أشار إليه بعد ذلك كارل بوبر).

[ نظريات سبق بها علماء المسلمين الغرب في مجال فلسفة اللغة ]

لم يغفل السيد الباحث أبو رغيف دور علماء السلف والمحدثين في ريادتهم لكثير من الرؤى . ونقف هنا عند مثالين : 

الأول : قانون المنعكس الشرطي ، الذي ذكره الرضي الاسترآبادي (ت ٦٨٤هـ) في شرح الكافية (30) القائم على شرطين أساسيين: الاقتران الزمني بين المنبه الطبيعي والمنبه الشرطي وتكرار هذا الاقتران مرات متعددة . بينما ذكرها بافلوف الروسي ( ت ١٩٣٦م) بعد عدة قرون ، نعم كانت محاولة بافلوف صوب اكتشاف الأساس الفسلجي لعمليات الادراك البشري على مختلف مستوياتها.

الثاني: ما ذكره كارل بوبر ( ت ١٩٩٤م) حول وجود عالم ثالث ليس هو بعالم الذهن ولا بعالم الخارج ، وهذا العالم الثالث هو العالم الذي تختزن فيه المعرفة البشرية . وكان للمحقق العراقي السبق في ذكره والإشارة إليه. فبوبر يؤمن بالعالم الموضوعي الكائن خلف الذات العارفة والذي تحاول الذات البشرية أن تكتشفه فهو يؤمن بعوالم ثلاثة : العالم الطبيعي والعالم الذهني وعالم المعرفة بوصفها منتجًا بشريا وهو عالم تتقرر فيه معطيات العلوم وانجازات المعرفة الإنسانية التي تنتج في معمل الذهن البشري ثم تنفصل عنه بوصفها وقائع حتى مع موت الذهن الذي أنشأها ..لكن بوبر لم يضع اللغة في هذا العالم الثالث لأنها في نظره منتج غير مقصود وليس كالمنتجات المقصودة للوعي البشري كالدساتير والقوانين والأعمال العلمية ، لكن العراقي أضفى على اللغة صفة الواقعية (31).

[ نظرية توقيفية اللغة في تفسير نشأة اللغة وفلسفة الدلالة ]

وتتلخص نظرية النائيني في أنها تقوم على ثلاث دعائم أو أدلة :

الأول: إن تخصيص لفظ دون لفظ بمعنى من المعاني ترجيح بلا مرجح ؛ فلماذا اختار الواضع هذا اللفظ دون غيره - إن كان الواضع بشرًا - إذن فالواضع هو الله تعالى وهو الذي لديه العلم باختصاص هذا اللفظ دون غيره بهذا المعنى . 

وفي مقابل نظرية التخصيص هناك نظرية (الاعتباط) وهي أن الواضع اختار لهذا المعنى لفظًا اعتباطًا لا لوجود خصوصية في اللفظ تناسب المعنى ، وهذه النظرية السائدة الآن بين أغلب اللغويين المحدثين.

الثاني : عدم تناهي الألفاظ والمعاني ، فكيف استطاع البشر وضع كل هذه الألفاظ غير المتناهية لهذه المعاني غير المتناهية ! إذن فالواضع للغة هو الله تعالى .

الثالث : عدم وجود واضع أول من البشر للغة فلو كان هناك واضع من البشر لذكر ، إذن الواضع هو الله تعالى .

[ رد المحقق العراقي على نظرية توقيفية اللغة ]

بين العراقي والنائيني

رد المحقق العراقي على المحقق النائيني حول قضية الترجيح بلا مرجح في تخصيص لفظ بمعنى بأن مسألة الترجيح بلا مرجح لا يصح تطبيقها على جميع مظاهر الوجود بل يصح تطبيقها على الاقترانات العلية بين العلة والمعلول ولو أردنا تطبيقها على جميع مظاهر الوجود لأفضى ذلك إلى إنكار واقع الاقترانات الاتفاقية فهل ينكر أحد وجود الصدفة كالاقتران بين موت الملك وموت بقرة في إحدى ضواحي مملكته !! (32).

ولاحظ السيد الباحث على المحقق العراقي إن الأخذ بكلامه هذا يفضي بنا إلى القول بالاعتباطية جراء التقارن غير المقصود بين اللفظ والمعنى كما يصطلح عليه بالوضع التعيني جراء تدوال الاقتران وكثرة الاستعمال بلا قرار مقصود و وضع عاقل مختار !! واستثناء الاقترانات الاتفاقية كموت الملك وموت بقرة في إحدى قرى مملكته لا ينفعنا ونحن نفسر الوضع وعقد الدلالة بأنه قرار واضع وفعل فاعل مختار !!(33).

[ الدرس اللغوي عند العلّامة عبد الهادي الفضلي ]

أفرد العلامة الفضلي للدرس اللغوي في النجف الأشرف كتابًا خاصًا تحدث فيه عن ٢٠٨ لغويًا ابتداءً من الشيخ الطوسي وانتهاء عند يوسف الأزري ، كما أنه تناول الاشتقاق ونشأة اللغة عند الأصوليين في مدرسة النجف الأشرف المتأخرة فعرض رأيها في قبال مدرسة البصرة والكوفة والمدرسة اللغوية المحدثة في كتابه (دراسات في الفعل ). 

وقد ألمح السيد الأستاذ الباحث أبو رغيف لجهود العلامة السيد مصطفى جمال الدين في كتابه ( البحث النحوي عند الأصوليين) فأشاد به كبحث جاد ، ولكنه لم يشر إلى جهود العلامة الفضلي في ذينك الكتابين . ونحن هنا نستعرض شيئا من آرائهما كعلمين من أعلام مدرسة النجف الأشرف الحديثة و باختصار شديد. 

مع العلامة عبد الهادي الفضلي في نشأة اللغة

يرى العلامة الفضلي أن اللغة اشتقت من الأعيان الخارجية وليس من الفعل كما تذهب إليه المدرسة الكوفية ، ولا من المصدر كما تذهب إليه المدرسة البصرية.

قال العلامة الفضلي : " إن الرأي الذي يتمشى وطبيعة اللغة هو رأي المدرسة اللغوية الحديثة القائلة بأن مبدأ الاشتقاق هو ( اسم المادة) وأن الفعل هو الآخر مشتق منها " (34) وأما أن الاشتقاق من ( أسماء المعاني ) فهو " أن عد أسماء المعاني مبدأ اشتقاق حتى في العهد الأول للغة ، أعني عهد ولادتها ونشوئها  لا يتمشى وطبيعة الإنسان في حياته الاجتماعية البدائية حيث تسودها البساطة . نعم يتأتى الاشتقاق من أسماء المعاني في العهود المتأخرة للغة عهود رقيها ونصجها" (35).

اللغة ظاهرة اجتماعية لا ظاهرة علمية

وقال – العلّامة الفضلي - معقبًا على رأي مدرسة النجف الأصولية الحديثة إلى أن مبدأ الاشتقاق هو ( المادة): "يريدون بالمادة هنا : الحروف التي تتألف منها المشتقات من دون ملاحظة وضع الهيئة والدلالة على النسبة كمادة ( ك . ت . ب ) - مثلا - ، والهيئة التي يشار بها إلى المادة إنما هي ( لمجرد حفظ المادة ليسهل التعبير عنها ) " (36) قال " غير أن المشكلة - فيما اعتقد - لا تزال قائمة ، لأنها مسألة تاريخية - في واقعها - وليست مسألة عقلية تخضع للتصور العقلي والقواعد المنطقية ، فنحن إذا حاولنا التماس شاهد واحد من تاريخ المسألة في لغة العرب ينهض باثبات ذلك فإننا لا نستطيع . نعم قد يتصور هذا في أمثال المجامع اللغوية بعد قيام علم اللغة و وجود أصوله وقوانينه فإننا نقوى أن نذهب إلى أن الباحثين من المعجميين يقتدرون على الرجوع إلى المادة الأصلية في المعجم ويشتقون منها ضمن اطار الخطوط العامة للاشتقاق .

أما العامة من أبناء المجتمع - وهم مصدر اللغة وقائلوها - لا نقدر على القول بصدور ذلك عنهم ، وبخاصة أن المدرسة الأصولية الحديثة المشار إليها ذاتها تذهب إلى أن اللغة جاءت وليدة الحاجة إلى التفاهم ، أي أنها ظاهرة اجتماعية لا ظاهرة علمية ، ومن أوليات خصائص الظاهرة الاجتماعية العموم والتلقائية - كما هو معروف في علم الاجتماع " (37).

اللغة والمنطق والفلسفة

هل يمكننا فهم اللغة دون التنظير الفلسفي ؟ أي دون النظر إليها من خارجها بنظرة فلسفية ، أو لا بد من التعامل معها بنظرة تاريخية اجتماعية تلقائية . 

أحد الجوامع بين العلامتين الفضلي وجمال الدين هو النظرة الثانية ، فقد استهل السيد جمال الدين في مقدمة كتابه البحث النحوي عند الأصوليين بالقول عن أصول الإمامية: " أن منهجهم كان أكثر صلة بالمنطق والفلسفة من غيرهم ، وستجد ذلك واضحا في بحث ( بساطة المشتق وتركيبه) وفي ( المعنى الحرفي) وفي ( إيجاد المعنى الإنشائي) وأمثال ذلك ، وإذا كانت كتب الأصول قائمة على الاستدلال بالأقيسة المنطقية ، وتختلط بحوثها ، حتى اللغوية منها ، ببحوث الفلسفة ، فلك أن تقدر قيمة الجهد الذي يبذله الباحث في استخلاص النتائج المثمرة مما قدموه في دراسة النظام النحوي " (38).

وأحسب أن المنهج التاريخي الاجتماعي الذي يميل إليه كل من العلاّمتين الفضلي وجمال الدين ويفسران به نشوء اللغة منهج مقبول في حد ذاته إذا سلمنا بتطور البشرية من السذاجة إلى التعقيد في جوانبها الاجتماعية والاقتصادية والفكرية ، ولكن عندما ندرس واقع اللغة الآن فإننا لا نستطيع أن ندرسها دون المنطق والفلسفة ، فاللغة هي الفكر ، والتعبير عن الفكر يتناسب دقة وعمقًا مع لغته.

والمتصفح للنظريات اللسانية التي تعج بها المحافل اللغوية يجد التصارع بين نظريات اللسانيين والحيرة في تفسير سر هذه اللغة . فهناك ما يعرف في اللسانيات الحديثة بلغة اللغة أو اللغة الفوقية فكما أن هناك رياضيات فوقية ( رياضيات الرياضيات) ومنطق فوقي ( منطق المنطق) هناك لغة اللغة ، واللغة الشيئية هي موضوع لغة اللغة ، والأولى لغة موصوفة والثانية لغة واصفة ، وإذا ما نزلنا اللغة الواصفة منزلة اللغة الموصوفة وقعنا في الدور والمفارقات والنقائض ، ولقد ارتبطت اللغة بالمنطق والرياضيات باسم (جورج كانتور) الذي اكتشف نظرية المجموعات معتبرا إياها أساسا لكل الرياضيات ( رياضيات الرياضيات ) لكن تبين له أنها تولد مجموعة من النقائض فعمل ( راسل) على حل مشكلة التناقض والدور بنظرية ( الأنماط) (39) وقد انعكس كل ذلك على اللغة . كما أن اللسانيين قسموا اللغة إلى لغة صورية ولغة طبيعية وقواعد الصدق والكذب عندهم لا تنطبق على اللغة الطبيعية لكون اللغة الطبيعية تتضمن عدم انسجام الجملة واتساقها . لقد وجد مجموعة من اللسانين مشكلة في التعامل مع اللغة الطبيعية فذهبوا إلى ضرورة رفض المنطق الثنائي القيمة ( الصدق والكذب) بل يمكن أن يكون لنا منطق ثلاثي القيمة نتعامل به مع هذه الجمل غير المنسجمة !! إذن فالفلسفة والبحث العقلي لا بد أن يكون حاضرًا للتعامل مع اللغة فهي الوجه الآخر للفكر بل هي هو .

جهود الأصوليين النحوية

عقد العلامة جمال الدين مقارنة بين جهد النحويين والبلاغيين والأصوليين في الدراسات النحوية فقال : إن مشاركة الأصوليين في صياغة نظرية نحوية عامة قد تفضل في بعض جوانبها ما قدمه (علم المعاني )(40).. مع أن ما قدمه علم المعاني هو ما قمة ما كان ينبغي أن يصل إليه النحو في نظر النحاة المحدثين (41).

فمهمة النحو - في نظر جمال الدين - هو ما تؤديه الكلمة - بما لها من معنى حقيقي أو استعمالي - في أثناء تركيبها مع غيرها من ( وظيفة ) من أجلها استخدمت في هذا التركيب ككونها (حدثا صادرا عن ذات ) أو (فاعلا ) صدر عنه الحدث أو (مفعولا ) وقع عليه الحدث .. أو غير ذلك من معان وظيفية لا تفهم إلا عند التركيب (42).

وقد ضاعت مهمة النحاة في ركام ( العوامل المائة) ومعمولاتها وآثارها .. وهو عمل بعض الجملة في بعض.

وتولى مهمة النحاة البلاغيون ، وتولى مهمة البلاغيين الأصوليون  !!

ولخص السيد جمال الدين الفوارق بين العلوم الثلاثة : بأن البحث النحوي عند الأصوليين هو البحث عن ( دوال النسب والارتباطات ومدلولاتها) ولذلك سماه ( نحو الدلالة) في مقابل ما انتهى إليه النحاة من ( نحو الإعراب) وما انتهى إليه البلاغيون من ( نحو الأسلوب).

وأن الدرس النحوي ينبغي أن يكون بحثًا في نظام التأليف لا نظام التأثير - وهو محل الجملة الإعرابي- والأصوليون هم أقرب إلى البحث اللغوي في نظام التأليف والتركيب.

آراء المدرسة الأصولية النجفية المحدثة 

استعرض السيد جمال الدين نتائج مدرسة النجف الأشرف الأصولية الحديثة واضعًا ملحوظاته عليها وناقدًا لبعضها.

فمن آرائها : عدم دلالة صيغة الفعل على الزمن المعين ، لا من حيث المادة ولا من حيث الهيئة (43)- وهو ما أخطأ فيه النحويون والبلاغيون - فصيغة الفعل لا تدل على الزمن إلا بمعونة السياق والمقام ولذلك نجد الصيغة في (سياق) الشرط أو النفي أو مقام الانشاء لا تدل على زمنها المعين عند الجميع (44)؛ و لذلك فرق الأصوليون بين الدلالة ( الوضعية ) والدلالة ( الاطلاقية) أو( الاطلاق المقامي) . فإذا كان المتكلم في مقام البيان دلت صيغة الفعل مثلا على الوجوب ، لأن دلالة الصيغة لا تدل على الوجوب بالوضع اللغوي بل بتدخل ما سموه بقرينة الحكمة أي كون المتكلم الحكيم في مقام البيان .

[ تقسيم الكلمة الى خمسة أقسام بدل الثلاثة ]

ومن آرائها – المدرسة الأصولية الحديثة في النجف الأشرف - التي درسها السيد جمال الدين : تقسيم الكلمة إلى خمسة أقسام بدل الثلاثة وهي : الاسم والفعل والصفة والحرف والكناية.

قال السيد جمال الدين : " المدرسة الأصولية الحديثة بذلت جهدا ملحوظا في التمييز بين المعاني الاسمية والفعلية والحرفية ، لم يألفه الدارسون الأصوليون السابقون ولا النحويون القدامى ، ودراستها لهذه المعاني ، وإن كان يشوبها كثير من الروح الفلسفية البعيدة عن طبيعة الدرس اللغوي ، إلا أن ما يبررها أنهم وصلوا إلى نتائج لم يصلها البحث اللغوي الحديث إلا بعد اتصاله بالدراسات اللغوية المقارنة" (45) وتساءل السيد جمال الدين عن السبب الذي جعل الأصوليين يفضلون البقاء على التقسيم الثلاثي مع أنهم وصلوا في مرحلة التمييز إلى خمسة أقسام فلم يجد غير النص المشهور عن أمير المؤمنين عليه السلام ( الكلام كله اسم ، وفعل ، وحرف ..الخ ) فهو ما جعلهم يحجمون ويتوقفون عن الذهاب لذلك " وهذه الرواية لم تذكرها كتب الحديث المعتبرة عند الإمامية والذين اعتمدوا عليها في تقسيم الكلمة وفي تعريف الأقسام من الأصوليين نصوا أيضا على أن الرواية ليست من طرقنا " (46).

وتوقف السيد الباحث أبو رغيف متأملاً في كلام جمال الدين حول إدخال الأصوليين الفلسفة في فهم اللغة ، فهل يمكن فهم واقع اللغة دون النظرة الفلسفية ؟ ألا يشكل الارتباط الوثيق بين اللغة والفكر تحديًا لاكتشاف سر هذه العلاقة؟

ومن آرائها : أن المادة اللغوية هي أصل الاشتقاق وكل من المصدر والفعل واسم الفاعل وغيرها مشتق منها - وقد تحدثنا عن هذا فيما مضى - .

مشكلة الجذر الأصم أو النقائض المنطقية

عندما نقول : يستحيل الحكم على مجهول فقد حكمنا بحكم على هذا المجهول هو أنه ( يستحيل الحكم عليه )، إذن هذه المقولة تصنف على ما يعرف بالنقائض المنطقية، وهذه المقولة دفعت بالسيد الخوئي إلى افتراض أن العناوين الكلية التي تستخدم في صيغ القوانين العلمية والتشريعات والتي تسري أحكامها على مصاديق هذه العناوين تستدعي تصور مصاديقها بنحو مجمل وإلا لم يمكن الحكم عليها . 

وعرفت هذه المشكلة باسم (الجذر الأصم ) في الفلسفة الإسلامية . وقد أشرنا إلى معالجة ( برتراند رسل ) لهذه المشكلة بنظرية الأنماط المنطقية. فالأنماط اللغوية تعني أن اللغة تارة تتكلم عن أشياء وتارة تتكلم اللغة عن عبارات اللغة ..

محاولة تارسكي (47)( ت ١٩٨٣م) في حل مشكلة الصدق والكذب

حاول عالم الرياضيات تارسكي حل مشكلة الصدق والكذب في القضايا بالاستعانة باللغة الفوقية واللغة الشيئية . ونضع المثال التالي للتوضيح : 

لو قلنا : يسقط المطر .

فهذه القضية صحيحة إذا حققت المواضعة التي اعتمدها تارسكي وتعرف باسم (ص) وهي (إذا وفقط إذا) فالقضية صحيحة :

" يسقط المطر" إذا وفقط إذا يسقط المطر .

فالتعبير الوارد على يمين التشارط (الشرط) يختلف عن الوارد على اليسار.

فالوارد على جهة اليمين هو ( اسم القضية ) وهي لغة واصفة وهي لغة اللغة ، بينما الوارد على يسار التشارط هي القضية الشيئية واللغة الشيئية واللغة الموصوفة(48).

ملا صدرا (صدر المتألهين) ونظرية الأنماط

عندما عرف ( برتراند رسل ) العدد الأصلي بأنه : "صنف لكل الأصناف المشابهة لصنف معلوم " ، اصطدم بعقبة وصفها بأنها مناقضة  في منطق الأصناف والمشكلة هي : هل صنف كل الأصناف عضو في هذه الأصناف، أو ليس بعضو ؟ واكتشف أن حل هذه المشكلة يقوم في النظرية التي سماها باسم " نظرية الأنماط "  Theory types (49).

وما أنجزه رسل من نظرية الأنماط سبقه به الملا صدر الشيرازي (ت ١٠٥٠)بالتفريق بين الحمل الذاتي الأولي والحمل الشايع الصناعي ، فعندما نقول : الجزئي جزئي ، والجزئي كلي ، ونقول كلا الجملتين صحيحة فذلك لأننا قصدنا بالجملة الأولى الحمل الشايع الصناعي ونقصد به المصاديق وقصدنا بالجملة الثانية الحمل الذاتي الأولي وقصدنا به المفاهيم فاختلف الحمل ومن شروط التناقض وحدة الحمل فإذن لا تناقض بين الجملتين .

وكان المنطقيون يضعون ثمانية شروط أو وحدات لحصول التناقض، لكن الملا صدرا أضاف وحدة الحمل.

قال الملا صدرا : "فلا بد في التناقض من وحدة أخرى فوق الثماني المشهورات هي وحدة ( الحمل ) لئلا يصدق الطرفان " (50).

  وقد تأسف السيد الباحث أبو رغيف - وحق له الأسف - للقطيعة شبه التامة بين الجهد المنطقي في غرب المعمورة وما أنجزه أساطين الشرق في الحكمة والمنطق (51)

نعم ربما ساهم في هذه الفجوة بعض أبناء الشرق كالدكتور عبد الرحمن بدوي الذي لم ير للملا صدرا وتلامذته استحقاق تسميتهم بالفلاسفة ، بينما أدرج نفسه في موسوعته الفلسفية كفيلسوف وجودي !! ورغم أنه عاش في تلك البلاد التي كانت تحفل بالملا صدرا ودرس في جامعاتها.

المعنى الحرفي عند الأصوليين 

وقد أفرد الباحث السيد أبو رغيف ملحقًا ثانٍ للمعنى الرابط كأحد أنواع المعاني الحرفية عند الأصوليين والفلاسفة ؛ ليغطي المساحة التي تعنى بتصورات أقسام الوضع الأربعة والممكن من هذه الأقسام . 

وقد فرغ الأصوليون من معقولية قسمين : 

الأول :الوضع العام والموضوع له عام أي يكون اللفظ عام والمعنى الموضوع له عام كألفاظ الجنس . 

والثاني : الوضع الخاص والموضوع له خاص كأسماء الأعلام .

أما : الوضع العام والموضوع له الخاص ، فهو محل خلاف ، ومثل له الأصوليون بوضع الحروف للمعاني النسبية والهيئات، فماذا يقصدون بالمعاني النسبية أو المعنى الحرفي ؟ 

فسنشير إليه بعد قليل.

وأما أن يكون الوضع خاص والموضوع له عام فالاتجاه العام يذهب إلى عدم إمكانه.

وحين حلل دارسوا الأصول في المدرسة النجفية الحديثة أوضاع المفردات اللغوية وجدوها مصنفة في فئتين :

١) فئة المعاني الاسمية ويقصدون بها المعاني التي يمكن إدراكها بصورة مستقلة في الجملة،  مثل : الأسماء و ( مواد الأفعال) أي الأصول التي يشتق منها الأفعال مثل ( أ . ك . ل) التي يشتق منها صيغ كثيرة.

٢) فئة المعاني الحرفية وهي التي لا يمكن إدراكها بصورة مستقلة عن الجملة وإنما هي ( روابط) لا يتم تأليف الجملة بدونها مثل حروف المعاني ( من . إلى ) وهيئات الأفعال أي صيغ الفعل ( أكل . يأكل . مأكول .. الخ)، وهيئات الجمل كالجملة الإنشائية والخبرية  ، وعلامات الإعراب ، وبعض الضمائر ، واللواحق التي تؤدي معنىً غير مستقل عما تتعلق به (52). فكل هذه معانٍ حرفية أو روابط.

ووقع الكلام بينهم في الفعل ، فهو من جهة فيه مادة فهو يشبه المعاني الاسمية ، ومن جهة أخرى فيه صيغة فهو يشبه المعاني الحرفية .

إخطارية المعاني الاسمية وإيجادية المعاني الحرفية

وعبر المحقق العراقي عن المعاني الاسمية بالمعاني( الإخطارية ) (53)أي كلما خطرت في الذهن خطر معناها ويكون لها مطابق في الخارج ، وتحكي المعاني الاسمية عن المسمى حكاية المرآة عن الصورة المرتسمة فيها ، فمثلا لفظ زيد له صورة ذهنية، لكن زيد الخارجي ليس هو معنى اللفظ بل معنى اللفظ هو الصورة الذهنية التي خطرت في الذهن.

وهذا ما يعبر عنه في الدراسات الحديثة (بمعنى المعنى ) فاللفظ أحد مراتب الوجود الأربعة ( اللفظ ، والكتابة ، وصورة المعنى في الذهن ، والأعيان الخارجية) وبما أن اللفظ والكتابة حكاية عما في الذهن فقد أصبح لعلماء الدلالة المحدثين مثلث ( الأعيان ، اللفظ ، صورة ذهنية ) يدرسون العلاقة بين مكوناته الثلاثة ، وأشهر هذه المثلثات مثلث  الأستاذين ( أوجدن وريتشاردز) (54).

وعبر المحقق النائيني عن المعاني الحرفية بأنها ( إيجادية) (55)لأن المعاني الحرفية نسبة ليس لها تقرر وثبوت بل توجد بطرفي النسبة.

مثال لتوضيح النسبة :  صلى محمد في المحراب .

صلى ، و محمد ،  معاني اسمية مستقلة يمكن إخطارها في الذهن وكذلك المحراب ، لكن (في) وهي نسبة ( الظرفية ) لا نتصور لها معنىً بدون طرفي الجملة فهي قائمة في الطرفين ومندكة فيهما مع أن الجملة بدون (في) لا يتم لها معنى.

ولأهمية البحث في المعاني الحرفية والروابط عقد الباحث العلامة السيد أبو رغيف ملحقا من ٤٠ صفحة لبحث هذا الموضوع فقال : " إن الفلسفة الاسلامية في دورتها الأخيرة أظهرت اهتمامًا بدرس النسب والروابط مقتفية أثر ما أثاره البحث اللغوي، وتبعًا له أبحاث علم الأصول الفقه، التي أولت درس هذه الظاهرة اللغوية من حيث الأساس اهتمامًا بالغًا . لكن علم أصول الفقه في دورته الأخيرة تأثر أبلغ التأثر بما طرحته أبحاث الحكمة الاسلامية المتأخرة .." (56).

وعالج في هذا الملحق الالتباس الوارد في عبارات كتاب الأسفار للملا صدرا حول الوجود الرابط والذي انعكس على علم الأصول الإمامي في مدرسة النجف الأشرف الحديثة.

الوجود الرابط 

هل للنسبة والربط وجود في الخارج ؟ ذهب السيد الخوئي أنه لا وجود له في الخارج ، وكذا السيد السيستاني الذي قال : " نختار ما طرحه بعض فلاسفة الغرب كالفيلسوف الفرنسي - روسوا - وبعض فلاسفة الشرق وهو آقا علي مدرسي من اتحاد هذين المفهومين وهما الجوهر والعرض وجودًا " (57). ومع وحدته لا حاجة لوجود رابط متعلق بطرفين .. فإن عرضية العرض متقومة بكون وجوده في نفسه عين وجوده لغيره من دون حاجة لوجود رابط وراء ذلك .

مثال : إذا قلنا زيد قائم ، ففي الخارج يوجد زيد وقيامه وأما الربط بين زيد والقيام فهو عمل إبداعي للذهن سماه السيد السيستاني بالتكثر الإدراكي.

وتوقف السيد أبو رغيف عند نسبة ذلك لجان جاك روسو ، حيث لم يذكر الرافد مصدر هذه النسبة.

وخلاصة ما يرمي إليه الملا صدرا وشراح مدرسته أن الوجود الرابط لا استقلال له ولو كان مستقلا لاحتاج إلى رابط وهذا الرابط لو كان مستقلا لكان له رابط وهكذا يحصل التسلسل ..

وقد أصبح من مسلماتهم بعد ذلك . قال الملا هادي السبزواري في منظومته :

( إن الوجود رابط ورابطي * ثمة نفسي فهاكَ واضبطِ). (58)

فهل الحروف من قبيل الوجود الرابط ؟ وهل لها وجود في الخارج ؟

كان ذلك معترك الأفهام في كلمات الأصفهاني والخوئي والسيستاني والروحاني وغيرهم وهي ليست بعيدة عن نصوص الأسفار وشراحه كالعلامة الطباطبائي والمطهري الذي ذكر أن الوجود الرابط لم يكن معروفًا قبل المير داماد بل كانوا يستعملون الرابطي فقط ولكن كما أسلفنا أن هذا المصطلح برز في منظومة السبزواري وغيره رحمهم الله جميعا.

[ ملخص حول بحث فلسفة اللغة ]

خاتمة

لم يُقفَل البحث حول نشأة اللغة بنتيجة صارمة تقول إن البشر طور اللغة وكان قد ابتدعها ، بل نجد من أواخر الفلاسفة الغربيين من يراها ابتداع من الله تعالى ، يقول غادامير : " إن اللغة ، طبقا لتعبير لا شك أنه عائد إلى نيتشه ، من ابتداع الله " (59).

وختاما لهذه الجولة في هذا الكتاب (فلسفة اللغة ) نلمح إلى كلمة إنصاف ، تخشى من الإجحاف ، فنحن نقف عند نهر متدفق بالمعارف ، غائر بالآراء ، ونمد أيدينا لنرتشف من بعض عذبه ، ونتصيد بعض لآلئه عند ساحله ، ونخشى الغوص في أوساطه ، فهو الجديد في طرحه لآراء اللسانيين ، والمتين في ملحوظاته على آراء المدرسة الأصولية الحديثة في النجف الأشرف . وحيث لا زال اللسانيون مستمرين في نتاجهم - والذي ينبغي للدارس متابعتها - وهو الجهد الذي قام به العلامة السيد أبو رغيف مشكورًا ، فقد وعد بمتابعة الآراء حول الوجود الرابط والروابط عند اللسانيين ، فنحن من المنتظرين على لسان طريق المعرفة والواقفين عند شرقي بابها وغربيه.

فالتوهم أن المسألة قد حسمت وانتهت ، هو حيلة العاجز عن البحث والسادر في وهم الخاتمة الحاسمة ، فالشهيد المطهري كان يظن أن بحث المعنى الحرفي والاسمي من مختصات الدراسات الإسلامية (60)، ولكننا وجدنا مارتن هيدغر ( ت ١٩٧٦م) قد تحدث في المسألة في كتابه  (الكينونة والزمان) ولكن بغموض كان يكتنف أسلوبه ولغته الألمانية، وربما لم يطلع عليه الشهيد المطهري.

والبحث عند الغرب يضرب في أعماق تاريخ المعرفة وقد أشار غادمير إلى أن اللغة الاغريقية قدمت إمكانات فلسفية وذكر منها اثنين:

١) استعمال المحايد الذي لا يوجد لا هنا ولا هناك ومع ذلك فهو مشترك بين الأشياء كلها ويدل المحايد في الشعر الألماني واليوناني على شيء كلي الوجود ، على حضور شمولي ؛ فهو لا يؤثر في كيفية وجود ما ، وإنما في كيفية الفضاء الكلي للدزاين (61) الذي تتجلى فيه الموجودات.

٢) وجود الفعل الرابط المساعد أي استعمال فعل الكينونة ( to be) لربط المسند بالمسند إليه .. لكن الفعل الرابط في نظره لم يكن مؤثرًا بعدُ في الأنطولوجيا أو في التحليل التصوري للوجود الذي بدأ مع أفلاطون ، أو ربما مع بارمنيدس ، كما أنه لم يبلغ مستوى الاستنتاج النهائي في التراث الميتافيزيقي الغربي (62).

كما أن هيدغر أثار مشكل الرابطة المنطقية بين الموضوع والمحمول عند بحثه عن معنى ( الكينونة ) فقد طرح لها ثلاثة احتمالات :

١)الكينونة : هي التصور الأكثر كلية.

٢)الكينونة : هي غير قابلة للتعريف وهذا يستنتج من كليته القصوى.

٣)الكينونة : هي التصور المفهوم بنفسه.

فكل يفهم ( السماء [هي] جميلة) و ( أنا [كائن] مبتهج ) فإن الرابطة المنطقية مضمرة في اللغة العربية ولكنها ليست كذلك في الألمانية(63).

وفق الله تعالى العلامة السيد أبو رغيف للمزيد . والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

٢٠ شهر رمضان ١٤٤٢هـ.

عبد الغني العرفات

ملحوظة: أصحاب المقامات مقاماتهم محفوظة ورعاية للاختصار تركنا ما يليق بهم من الألقاب.

_____

الهوامش:

(1) المنتقى ج ١ ص ٢١.

(2) المنتقى ج ١ ص ١٢١.

(3) فلسفة اللغة ص ٣١.

(4) فلسفة اللغة ص ٣٩.

(5) الرافد ص ١٦٢.

(6) الرافد ص ١٦٢.

(7) دروس في أصول فقه الإمامية ج ١ ص ٣٤٥.

(8) فلسفة اللغة ص٥.

(9) فلسفة اللغة ص ١٦.

(10) للاطلاع : دراسات نحوية ودلالية وفلسفية للدكتور مازن الوعر ، الباب الثالث ص١٨١.

(11) فلسفة اللغة ص ١٨.

(12) فلسفة اللغة ص ٢٥.

(13) غاية المأمول في علم الأصول ( مخطوط). نقل عنه كتاب البحث اللغوي عند علماء كاشف الغطاء.

(14) البحث اللغوي عند علماء كاشف الغطاء ص ١٤٦.

(15) رسالة في مباحث الألفاظ ص ٣.

(16) فلسفة اللغة ص ١٠٢.

(17) فلسفة اللغة ص ١١٤.

(18) نشر السيد عمار أبو رغيف محتوى الكتاب على شكل مقالات في مجلته البرهان في الأعداد ( ٣ ، ٤ -٥ ، ٦-٧ ، ٨-٩ ، ١٢-١٣، ١٤-١٥ ) وتوقفت عند العدد الحادي والعشرين ( ربيع وصيف ١٤٣٧) وهي مجلة فصلية تعنى بالمعرفة الدينية ، تصدر عن معهد الدراسات العقلية في النجف الأشرف . 

(19) بحوث في علم الأصول ، السيد محمود الهاشمي ج١ ص ٨١-٨٢.

(20) من أبيات الألفية في النحو وهو مما يألفه طلاب الحوزة.

(21) الرافد :ص ١٥٢- ١٥٣.

(22) الرافد :ص ١٦٧.

(23) فلسفة اللغة ص ١٠٠.

(24) اللغة ومشكلات المعرفة ، نعوم تشومسكي ٢٤٠ ، ترجمة د . حمزة قبلان المزيني / فلسفة اللغة ص ٥٥.

(25) دراسات نحوية ودلالية وفلسفية ، مازن الوعر ص ٢٢٥. 

(26) دراسات نحوية ودلالية وفلسفية ، مازن الوعر ص ٢٠٥.

(27) فلسفة اللغة ص ٣٤٥.

(28) فلسفة اللغة ص ٣٤٢.

(29) فلسفة اللغة ص ٣٤٤.

(30) شرح الكافية ج١ ص ١١٩.

(31) فلسفة اللغة ص ١٥٦.

(32) يمكن مراجعة مقالات الأصول للعراقي لاستيضاح الأمر أكثر ص ٦٠.

(33) فلسفة اللغة ص ١٤٥.

(34) دراسات في الفعل للشيخ الفضلي ص ٤٥.

(35) دراسات في الفعل ص ٤٥.

(36) فوائد الأصول للكاظمي ١/ ٤٨ و ٤٩.

(37) دراسات في الفعل ص ٤٠.

(38) البحث النحوي عند الأصوليين ص ١٧.

(39) اللغة والمنطق ، المقدمة ، حسان الباهي ، المركز الثقافي العربي.

(40) البحث النحوي عند الأصوليين ، المقدمة ص ٧.

(41) البحث النحوي ص ١٠.

(42) البحث النحوي ص ٩.

(43) دراسات في الفعل ص ٢١. قال العلامة الفضلي : الأمر ليس قسمًا من أقسام الفعل ومثله النهي لأنهما من الانشاءات وهي لا دلالة فيها على الزمن المعين .

(44) البحث النحوي ص ١٤.

(45) البحث النحوي ص ٧٢.

(46) البحث النحوي ص ٧٣.

(47) طور فرعًا جديدًا في المنطق أسماه السيمانطيقا المنطقية ، وأسهم في تطوير نظرية النماذج ( الأنماط) . من مؤلفاته المنطق الدلاليات ، الرياضيات سنة ١٩٤٤. انظر معجم الفلاسفة ، جورج طرابيشي ص ٢٣٠.

(48) اللغة والمنطق ، د . حسان الباهي ص ١٠٠.

(49) موسوعة الفلسفة ، عبد الرحمن بدوي ج ١ ص ٥١٨.

(50) التنقيح في المنطق ، ملا صدرا ، ط بنياد حكمت ص ٢٩.

(51) فلسفة اللغة ص ٢٢٧.

(52) البحث النحوي عند الأصوليين ص ٦٤.

(53) بدائع الأفكار ١/ ٤٢. البحث النحوي ص ٦٥.

(54) دروس في أصول فقه الإمامية ، الشيخ الفضلي ، ج ٢ ص ٢٢.

(55) فوائد الأصول ٢٢/١. البحث النحوي ص ٦٦.

(56) فلسفة اللغة ص ٤٦٣.

(57) الرافد ص ٢٠.

(58) المنظومة ، ج ٢، الفريدة الثانية في الوجوب والإمكان ص ٢٣٧، ط نشر ناب

(59) بداية الفلسفة ، غادامير ، ط دار الكتاب الجديدة المتحدة ص ٢٢.

(60) شرح المنظومة للمطهري ج٢ ص ٢٣٩.

(61) معنى هذه الكلمة الحرفي ( الوجود . هناك) وهو مصطلح من مصطلحات هيدغر وهو مؤلف من مقطعين ( sein ) الوجود و Da (هنا أو هناك) وهيدغر يقصد به ( الموجود العيني الفرد الذي يكون دائما على علاقة بالوجود وكينونة الوجود الإنساني الذي ينظر إليها من خلال ذلك الموجود العيني ) . انظر هامش : بداية الفلسفة لغادامير ص ٢٣. 

(62) بداية الفلسفة ص ٢٣.

(63) الكينونة والزمان ، ط دار الكتاب الجديد ، ص ٥٢.

____

ملاحظة : العناوين المحصورة بين معقوفين [  ] ليست في الأصل وإنما أضفناها (صدى النجف) من أجل تسهيل مراجعة البحث