القائمة الرئيسية

الصفحات

التجديد في علم الأصول عند السيد محمد باقر الصدر

 

التجديد الأصولي عند السيد محمد باقر الصدر

أسئلة زوار المدونة | السؤال 26

الاسم : زيني

الدولة: مصر

السؤال: هل فعلاً كان للسيد الشهيد محمد باقر الصدر رحمه الله ابداعات حقيقية في علم أصول الفقه ؟ وهل تم تبنيها او تطبيقها على ارض الواقع ؟

الجواب :

السلام عليكم ورحمة الله .. أوجد الشهيد محمد باقر الصدر (رحمه الله) تغييرات جذرية في تبويب مباحث الأصول وفي بعض مفاصل مادته العلمية أيضا، ولكن هل ترقى تلك التغييرات الى وضعنا أمام مدرسة أصولية جديدة ؟ هذا موضع خلاف بين المتخصصين وإن اتفقوا جميعاً على براعة السيد الشهيد وتشييده لجملة من المباني التي لم يسبقه إليها أحد .

التجديد الأصولي عند السيد محمد باقر الصدر

وبصورة عامة تتوزّع ابتكارات السيد الشهيد في هذا علم الأصول على صعيدين :

الأول : اعادة هيكلة البحث الأصولي 

إذ نظرا لتطور البحث الأصولي المتسارع عند الامامية بفضل فتح باب الاجتهاد تحتاج بُنية هذا العلم الى اعادة تنظيمٍ بين الفينة والأخرى وقد تصدى لذلك جماعة من العلماء عبر القرون المتمادية وصولا الى عصرنا الحاضر حيث أقترح السيد السيستاني بناءً جديدا لعلم الأصول .. وأما الشهيد الصدر (قدّس سره) فقد تمكن من إيجاد نظامين جديدين لهيكلة هذا العلم يقوم أولهما على أساس أقسام الدليل الشرعي بلحاظ نوعه بتقسيمه الى أدلة محرِزة وغير محرِزة (أصول عملية) يليها خاتمة في بحث التعارض والترجيح وقد طبقه بنفسه في كتاب دروس في علم الأصول (الحلقات) وكذلك في كتاب المعالم الجديدة ، بينما اعتمد في البناء الآخر أساس نوع الدليلية بمعنى ملاحظة ذات الدليل وما يقتضيه مع قطع النظر عن آليه الاستنباط فيشتمل علم الأصول بهذا اللحاظ على قسمين أحدهما يبحث عن ذات الدليل والحجة والآخر يبحث عن الحجية وطبقه السيد الشهيد في بعض بحوثه (الخارج) . وهناك تقريرات أخرى مختلفة لهيكلية البحث الأصولي عند السيد الشهيد لسنا بحاجة لاستقصائها .

ومن ثم فإن التغيير في هيكلية البحث يستلزم تغييرا مناسبا في عناوين المطالب وأدبيات العلم بصورة عامة ومن يتابع السيد الشهيد في هذا المضمار يجده قد تفرد بمجموعة من الاصطلاحات لم تكن رائجة قبله كـ العناصر المشتركة ، الأدلة المحرِزة وغير المحرزة ، التحفُّظ ، وسائل الاثبات الوجداني، التعارض المستقر وغير المستقر ... الخ .

وعلى أي حال فإنّ هذا اللون من التجديد هو في الواقع فني منهجي أكثر منه علمي لذا سأكتفي بهذه الاشارة .

الثاني : تجديداته في المادة العلمية للبحث الأصولي

يمكن رصد مساهمات كثيرة للشهيد الصدر في هذا المضمار سأكتفي بذكر بعضها فقط :

أولا: نظرية القرن الأكيد في وضع الألفاظ

بعد اثبات ان العُلقة بين اللفظ والمعنى وضعية (والوضع أمر اعتباري) تصل النوبة الى تفسير هذا الاعتبار وبيان كيفيته، وتعالَج هذه القضية عادة علم فقه اللغة لكن لما لم يكن بحثها هناك وافيا وكانت لها مدخلية في فهم النص عالجها الأصوليون ايضا وفي الجواب عن سؤال حقيقة الوضع برزت عدة أراء ونظريات كنظرية التعهد للسيد الخوئي (قدس سره) وغيرها .

أما الشهيد الصدر فقد طبق نظرية القرن الأكيد على الوضع بعد ان استعارها من بافلوف ، فأصل نظرية القرن الأكيد ليست من ابداع الشهيد الصدر وإنما ابداعه في تطبيقها في فقه اللغة وفي مبحث الوضع على وجه التحديد، إذ ذهب الى ان علقة اللفظ بالمعنى نتاج اقتران أكيد بينهما قد يكون كميّا ككثرة الاستعمال كما قد يكون كيفيا كوقوعه في ظرف حساس .

ثانيا: نظرية التزاحم الحفظي

تنقسم الأحكام الى واقعية لم يؤخذ الشك في موضوعها وظاهرية أُخِذ الشك في موضوعها ولمّا كانت الظاهرية منها ظنية غير قطعية نشأ سؤال مهم حول فلسفة تشريعها ما دامت المصالح والمفاسد الواقعية والتي هي منشأ المحركية تدور مدار الواقع وليس مدار الاحكام الظاهرية . ومرجع هذا السؤال في الحقيقة هو السؤال عن ملاك حجية الأحكام الظاهرية بعد ان كانت قد تخالف الواقع ولا تدور مداره .

وفي صدد الاجابة ظهرت لدى علماء الامامية عدة نظريات منها مثلا نظرية الطريقية المحضة التي تبناها الميرزا النائيني ... ونظرية المصلحة السلوكية للشيخ الأنصاري وغيرها آراء أخرى ...

وأمّا الشهيد الصدر فقد أوجَد مسلكا آخر لتصحيح جعل الأمارات (الأحكام الظاهرية) اصطلح عليه بـ التزاحم الحفظي وهو يختلف عن التزاحم الملاكي والامتثالي لبيان لا مجال له هنا .. ومؤدى هذا اللون من التزاحم هو اقتضاء الوجوب الحفاظ على الواجب حتى في موارد الاشتباه والالتباس والظن هذا من جهة ولكن في الجهة الأخرى تقتضي الاباحة مراعاتها حتى في موارد الاشتباه والالتباس ايضا ومن هنا نشأ التزاحم إذ ليس في وسع المكلف أن يحفظ الوجوب والاباحة معا أو الحرمة والاباحة معا في تلك الدوائر الرمادية فلابد حينها من الرجوع الى المرجحات والتي هي بيد الشارع المقدس فإمّا أن يكون الترجيح على اساس قوة الاحتمال الكاشفة او على أساس أهمية المحتمل ومنه يتضح سبب تسميته بالتزاحم الحفظي إذ أن الشارع يوسع دائرة التكليف لتشمل الأحكام الظاهرية الظنية من أجل ضمان حفظ الواقع الأهم وعدم تضييعه ولو بشكل غالبي .

هذا مختصر ربما يكون مفيدا وإلا فإن لهذه النظرية وغيرها من النظريات التي سأذكرها امتدادات وتشعبات كثيرة جدا .. فعلى سبيل المثال رأيت قبل مدة اطروحة دكتوراه في جامعة الكوفة تبحث مسألة التزاحم الحفظي هذه فقط .

ثالثا: توظيف حساب الاحتمالات في حجية التواتر والسيرة

بعد ان ابتكر السيد الشهيد نظرية المنطق الذاتي في المعرفة ليعالج بها جدلية انتاجية المعرفة الاستقرائية الشهيرة في كتابه الاسس المنطقية للاستقراء معتمدا في ذلك على نظرية الاحتمال الرياضية (تراكم الاحتمالات) قام بتوظيف هذه النظرية في علم الاصول لتفسير حجية التواتر والاجماع المحصّل والشهرة  . فمنشأ انتاج التواتر لليقين بناه الشهيد الصدر على نظرية الاحتمال الرياضية أي ان تراكم الاحتمالات الحاصلة عن الإخبارات المتعددة يترتب عنه تصاعد الوثوق بالصدق الى ان يصل الى مرتبة اليقين . وفق شروط ومحددات ليس ههنا محلها .

رابعا: نظرية حق الطاعة

يذهب جمهور العلماء عند الشك في التكليف الى الأخذ بقاعدة أصالة البراءة بعد الفحص واليأس من الحصول على دليل محرِز للحكم الشرعي وهذه قاعدة يُستدلّ لها بمجموعة من النصوص والأدلة العقلية ولعل أشهر أدلتها (قبح العقاب بلا بيان) المستقاة من النص والعقل ، وأمّا السيد الشهيد فقد خالف مشهور العلماء هنا فذهب الى حق الطاعة والذي يمكن تقريره بأنّا إذا لاحظنا مولوية الله تعالى وحقه على العباد وهي مولوية حقيقية ولا متناهية فإنّه  العقل  يحكم بضرورة امتثال جميع أوامره حتى المُحتَمَلَة – الشبهات البدوية – اي حتى إذا كانت شبهة التكليف ناشئة عن احتمال ضعيف لم تُجعل له حجية شرعية يكون الأصل فيه الاحتياط ايضا وليس البراءة وذلك مراعاة لمولوية المولى عزوجل ولا يخفى عليكم ما لهذه النظرية من تأثير كبير جدا على الفتوى .

وخلاصة نظرية حق الطاعة أن مراعاة مولوية المولى عز وجل تقتضي العمل بالاحتياط في موارد الشبهات البدوية وليس بأصالة البراءة .

وله رحمه الله آراء أخرى كثيرة كانت من ابداعه منها مثلا البحث في الفرق بين سيرة المتشرعة وسيرة العقلاء وطرق كشفها ، وتحديده لموضوع علم الأصول بأنه العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ، وبعض آراءه في بحث العقل العملي وأراء اخرى كثيرة تُطلب من تقريرات بحوثه كما يهمني هنا الاشارة الى ان أهمية العطاء الأصولي للشهيد الصدر لا تتوقف على عطاءه الأفقي فقط بل تطويره العمودي لعلم الأصول لا يقل أهمية عنه فهو كثيرا ما يقوم بتعميق البحث في المسائل القديمة او بيانها بطريقة حديثة وبإسلوب سهل ممتنع ربما لن تجده عند غيره .

ولتفاصيل أكثر حول الموضوع يمكنكم مراجعة كتاب (السيد محمد باقر الصدر والتجديد الفكري والأصولي) بقلم الباحث زكي الميلاد .