القائمة الرئيسية

الصفحات

نحو ثقافة جديدة للتعليم الإلكتروني

 

ثقافة جديدة للتعليم الإلكتروني

إنّ مديات تأثير التقدم في المجال الإلكتروني والرقمنة على العملية التعليمية ولا سيما في مجال استراتيجيات استخدام الأدوات عبر الانترنت في التدريس وطرق الاتصال الفعال في بيئة إلكترونية هي موضوعات ليست بجديدة بل تمت دراستها والعناية بها على مدى العقدين الأخيرين من الزمن على أقلّ تقدير فقد نشأ الاهتمام بهذه المجالات قبل جائحة كورونا COVID-19 بوقت طويل .

نعم تمّ الانتقال الكلي القسري الى أساليب التعلم عن بُعد (التعليم الإلكتروني) خلال فترة تفشي هذا الوباء وما لزمه من حجر صحي في مختلف بقاع العالم ، ولكن خلال الفترة السابقة على الجائحة جمعت المستودعات البحثية للباحثين والمعلمين الكثير من الدراسات والتحليلات حول كيفية تعليم الطلاب بشكلٍ فعال في البيئات التعليمية الرقمية (الإلكترونية) ، ومع ذلك في ربيع عام 2020م تغيرت الأمور كثيراً حيث أصبح التعليم الإلكتروني حقيقة واقعة لجميع المعلمين بسبب الحجر الصحي الذي ساد جميع دول العالم بسبب جائحة كورونا .

خلال فترة الجائحة هذه حدثت تغييرات جذرية في فهم دَوْر التقنيات الرقمية في التعلّم وأساليب العمل معها ، وقد جعل هذا الاختبار العملي الواسع مكاناً وزمانا تقنيات ونظريات التعليم الإلكتروني (التعليم عن بُعد) أمام اختبار مهم وعسير ، ونتيجة لذلك قد أثبتت بعضها جدواها وفعاليتها ، بينما أخفق بعضها الآخر بدرجة كبيرة توجب التخلص منها ، وهذه تجربة مهمة ساعدت على تطوير هذه النظريات والتقنيات .

وهناك مشكلة أخرى واجهت تلك التقنيات تمثلت بمديات ممارسة كل من المعلمين والطلاب وخبرتهم في هذا المجال إذ لم يكونوا على دراية وخبرة كافية للتعامل مع اسلوب التعليم الرقمي هذا بحيث يتم الاعتماد عليه بالكامل في العملية التعليمية ، ومن هنا نشأ وتطور سؤال مهمٌ : مَن الذي يمكنه أن يكون مُرشداً موثوقا لمعلمي الجامعات وغيرها في العالم الرقمي (الإلكتروني) ؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه في ما يلي :

تجربة جامعة Teach for HSE الروسية في مجال التعليم الرقمي

تمّ انشاء مشروع التدريس الرقمي Teach for HSE في جامعة HSE الروسية عام 2017 لتحسين جودة التدريس ، ولسنوات عديدة طورت الجامعة نظاماً لدعم المعلمين ، بما في ذلك انشاء مراكز لتطوير التعليم الإلكتروني ، للمساهمة في تنمية المشاريع التعليمية على الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) من خلال مركز التعليم المستمر ، إذ من خلاله يشارك الطلبة ولاسيّما الأجانب في التدريب الداخلي والتعرّف على تجربة اللغة الروسية ولغات أخرى . وبدأت الكليات هناك بنشر بحوث ومقالات باللغة الإنجليزية من خلال مركز الكتابة الأكاديميّة الذي ينظم الاستشارات والبرامج التدريبية لتطوير مهارات الموظفين .

ولكن من أهم المفاهيم التي تمّ تناولها في إبراز أهميّة هذا المشروع هو التدريس من أجل الصحة والسلامة والبيئة ، فضلا عن كونه مشروعا يهتم بدعم الأساتذة وتوفير أساليب تدريس وخيارات عمل متعددة أمامهم بما في ذلك المساعدة على تجنب ظاهرة الإرهاق المهني بسبب الدوام المتواصل ، وهذا يجعل المشروع مختلفا اختلافا مهماً وجوهريا عن سائر المبادرات والمشاريع ، لأنّ الدعم المباشر الذي عمل هذا المشروع على إيجاده يعني التوفر على أشكال مختلفة من الاتصال بدءاً من المحادثات غير الرسمية حول تحديات العملية التربوية والتعليمية وآلية الحلول الناجحة لها وصولا إلى الممارسات والآليات المبتكرة المستخدمة في تدريس الطلاب عن بعد ومن ثمّ دورات التعليم المستمر المعتمدة رسميا والتي يتم إقامتها من أجل تطوير كفاءة المعلمين وأساتذة الجامعات .

ومما يعزز جاذبية المنهجية هذه أنّ أكثر موضوعات الدورات التدريبية قد تمّ اقتراحها من قبل المعلمين والأساتذة أنفسهم .

المعلم عندما يأخذ دور الطالب والمعلم !

كقاعدة عامة في الدورات التدريبية لا يتم غالباً دعوة المتخصصين والمدربين  وإنّما يقوم المدرسون أنفسهم بمهمة إدارة المناقشات والفصول الرئيسة والدورات التدريبية في أنشطة " التدريس من أجل الصحة والسلامة والبيئة " آنفة الذكر ويمثل هذا النهج تحدياً للمدرسين لأنّ تدريس زملائك ممن هم في مستواك وفي نفس مهنتك يتطلب إعداداً خاصاً .

ثم إنّ هذا الخروج عن الروتين المهني المتكرر يحفز على تطوير المدرس لمهاراته المعرفية والمهنيّة ، فهي طريقة رائعة لصقل المهارات وتنميتها لأنّها تضع المدرس أمام مستوى جديد من المسؤولية عندما يصبح مدرسا لزملائه (المدرسين) إذ يُعطي ذلك شعوراً بالدعم المتبادل .

وبالنتيجة يمكن القول أنّ هذه الطريقة فعالة في تجنب الإرهاق المهني ، كما أنّها تساعد على تشكيل وتكوين إرشادات ومعايير التدريس الأكاديمي المشترك ، كما أنّها تقود الى زيادة الوعي بكفاءات ومهارات الزملاء (سائر المدرسين) ، كما أنّ هذه الطريقة تعد اختباراً حقيقياً ومهماً لتحديد المجالات التي تحتاج إلى المزيد من النمو داخل المجتمع المهني ، إذ عندما يجد المدرسون أنفسهم في نفس الفصل كزملاء يصبح الشعور بالدعم المتبادل قوياً ، كما أنّ هذه الفصول تقود الى تبادل أفضل أساليب التدريس والمهارات والأفكار وسبل الحياة وهذا في نفسه يُعد عملية تربوية طبيعية ومثمرة .

إنّ فرصة النظر الى زميل مهنة على أنه طالب والذي توفره هذه الفصول والدورات هو مشهد وموقف غير متوفر في التسلسل الهرمي الأكاديمي التقليدي ، وبالتالي فإنّ انتشار أفضل الأساليب في عملية التدريس لا يحدث فقط من أعلى الهرم ، وإنّما يحدث أيضا بشكل أفقي وطبيعي وفق مبدأ " إذا كان زميلي يستطيع فأنا أيضا أستطيع " .

وكيف كان فإنه عندما تمّ تقديم هذا البرنامج في الجامعة وتطبيقه بنقل العملية التعليمية بأكملها الى بيئة رقميّة أدى ذلك الى تكاتف الأقران في العمل ودعم بعضهم لبعض فبعد أن سارعت الادارة بتزويد الموظفين بمجموعة من الأساليب للتفاعل مع الطلاب عن بُعد لوحظ الدعم الكبير الذي قدمه الزملاء من ذوي الخبرة في هذه المجالات لزملائهم ولاسيما في آليات التعامل مع البرامج المختلفة التي عليها المعوّل في هذا الميدان .

أضف الى ذلك أنّ التنسيق عبر الانترنت أتاح للمدرسين فرصة ممتازة لتوسيع جمهورهم إذ زاد مثلا عدد المشاركين في منصات المناقشة التقليدية عشرة أضعاف تقريبا ، وأغلب هذه المداخلات لم يكن الغرض منها مراقبة الزملاء بقدر ما هو دعمهم وتبادل الخبرات معهم ، إذ من المفيد جداً لأي مدرس أن ينظر الى تدريسه بموضوعية وأن يرى نفسه من الخارج من خلال عيون زملائه ، فهذا أمر لا مناص عنه وليس ثمة بديل يمكن أن يغنينا عنه .

وأثناء هذه الدورات طُلب من المعلمين المشاركين الحرص على تقديم الملاحظات التالية للتعبير عن وجهة نظرهم لأداء الأستاذ المحاضر :

أولا: يملأ المشاركون نموذجاً موحداً لوصف معايير محددة من قبيل : نتائج التعلم للدرس ، كيفية تنظيم الوقت ، حصة مشاركة الطلاب ومناقشاتهم وأشياء أخرى كثيرة ومهمة .

ثانياً : يقوم المشاركون بصياغة انطباعات وتوصيات للتحسينات التي يتوقعون أنها كان من الأفضل أن لا يفقدها الدرس أو يتوقعون أنّها تساهم في تحسين الدرس .

وتعمل هذه العملية على تحفيز المعلمين على تلبية معايير المهنيّة العالية ، ومن وجهة نظر نفسيّة تنمي التعاطف فيما بينهم وتغرس ثقافة تقديم الملاحظات وتلقيها ، وفي المستقبل يجب أن تُصبح هذه الممارسة منهجيّة ودائمة إذ عندها فقط سيكون من الممكن تحقيق أقصى استفادة من التفاعل بين المعلمين وتبادل ممارسات التدريس بشكل مثمر .

نظرة الى مستقبل عملية التدريس الإلكتروني

إذا أردنا تلخيص الخبرة المكتسبة من هذه التجربة في هذا المشروع سنجدها فكرة ممتازة لبناء روابط أفقية داخل مجتمع المدرسين ، ولكن لا يزال هناك الشيء الكثير الذي يجب القيام به لتحسين وتوسيع نطاق الممارسات الأكثر فعاليّة ، إذ من المهم أن يشارك المدرسون خبراتهم مع الزملاء من خلال المشاركة في المؤتمرات والطاولة المستديرة لدعم التدريس على المستوى المؤسسي وعدم الاقتصار على تجارب محدودة في أماكن معيّنة .

ففي مؤتمر في عموم روسيا ركز المتحدثون من الجامعات الروسيّة الرائدة على موضوع سبل وآليات دعم عملية التدريس وتطويرها أثناء الانتقال القسري إلى التعلم عبر الانترنت الذي حصل في جميع بقاع العالم بسبب جائحة كورونا ، وقد قدم هؤلاء الباحثين نماذج مختلفة لتحويل العمليات المركزية ، ومن المهم أن يتم التساؤل في هذه المؤتمرات عمّا تمّ فقدانه من حيثيات وايجابيات العملية التدريسية بسبب الانتقال الى الدراسة عن بُعد على الانترنت .

الشيء الذي لا يمكن إنكاره عموماً أنّ الجامعات فضلا عن المدارس الأدنى قد واجهت تحديات كبيرة في ربيع عام 2020 وما تلاه بسبب الانتقال القسري الى التعليم الإلكتروني ، وحدثت معوقات ووجهات نظر كثيرة غيرت نظرتنا الى آليات دعم المعلمين وسبل الرقي بالعملية التعليمية بصورة عامّة .

ثمة مجالات يكاد يكون تعويضها في التدريس الإلكتروني مستحيلاً ، لأنها في الأصل قائمة على أساس التدريس المباشر في قاعة الدرس او المختبر ، فضلا عمّا يسببه مواجهة الشاشة الإلكترونية المستمر من تعب جسدي وإرهاق كبير ، وأيضا لا تكاد الشخصية والمهنية تكون واضحة عند العمل من المنزل عبر الانترنت خلافا للدروس المباشرة وجهاً لوجه مع الطلاب ، كما أنّ نفس التواصل مع الطلاب وجهاً لوجه مسألة مهمة ومطلوبة لا يمكن تعويضها في التعليم الإلكتروني .

وأيضا هناك حاجة ماسة لتعليم المدرسين المهارات الرقمية اللازمة ، ولا سيما في مجال آليات التفاعل مع الطلاب عبر الانترنت إذ أدركنا اليوم وبشكل واضح أن تجربة الأشكال التقليدية للتفاعل مع الطلاب في الفصل الدراسي لا يمكن نقلها ببساطة الى بيئة عبر الانترنت ، إذ بات من الوضوح بمكان أنّ التعليم الإلكتروني في الفضاء الرقمي يتطلب طرقا مختلفة لآلية وكيفية عرض المواد ، يجب تفعيل دور المحتوى المرئي ، وتنويع الأنشطة ، وإقامة دورات التعلم الجزئي والدورات المعيارية والتعلم التفاعلي والأشكال الجديدة لتنظيم العمل الجماعي في بيئة افتراضية أصبحت ذات أهمية متزايدة .

وهذه التغييرات يجب أن يصحبها تغييرات أخرى لا تقل عنها أهمية في مجال أدوات وفرص تفاعل المعلمين مع بعضهم ، إذ من الوضوح بمكان أنّ كل شيء قد تغير وبرزت أخلاقيات جديدة للعمل في البيئة الرقمية وهذه عملية معقدة تحتاج الى مزيد من الدراسة والتحليل حتى نصل بها الى الضبط لتصبح عملية خطيِّة .

كما يجب التركيز على أدوات التحكم المركزية والإدارية في هذه العملية لتصبح أكثر فاعلية لأنّ التعليم الإلكتروني يفتقد الى المراقبة المركزيّة المباشرة في الغالب بسبب العمل من المنزل ، إذ من الضرورة بمكان اجراء تغييرات منهجيّة وقائمة على أساس الكفاءة للحفاظ على مستويات التدريس والتعليم والرقي بها ، وهذا ما تركز عليه حاليا جميع برامج التدريس من أجل الصحة والسلامة والبيئة .

وأخيرا لا يزال يتعيّن على الباحثين العمل على تحليل جميع التغييرات التي تحدث في التعليم للاعتماد على البيانات الضخمة المتحصَّل عليها من هذه التحليلات في تقييمات الخبراء التي سيتم اجراؤها ، وفي الوقت الحاضر يمكننا الاعتماد فقط على خبرتنا الشخصيّة والتفكير الذاتي ، والذي سيقود في المستقبل الى تطوير نظام التعليم المؤسسي الإلكتروني بصورة ملحوظة .


تمّ ترجمة المقال من موقع university world news