القائمة الرئيسية

الصفحات

مسلم بن عقيل الشهيد الذي نعاه النبي (صلى الله عليه وآله)

رثاء النبي ص لمسلم بن عقيل
ليث الكربلائي
كانت عاشوراء بأحداثها وشخوصها ماثلة في التراث الإسلامي حتّى قبل وقوعها ، فكم من مرَّة استحضرها النبيّ وكذا الوصيّ صلوات الله عليهما وآلهما وبثّا شجونهما وأرخيا دموعهما وصدعا بالتحذير والتقريع لقومهما لعظيم ما يجدانه من انتهاكٍ لحرمة الإسلام فيها ، وهذه الروايات التي نقلت ذلك تملأ مصادر الفريقين (1) .

بكاء النبي (ص) على مسلم بن عقيل

فمن تلك الروايات نعيّ النبي (ص) وبكاءه عند استحضار ما يجري على آل عقيل في عاشوراء ولا سيّما السفير مسلم بن عقيل (عليه السلام) إذ روى الشيخ الصدوق بإسناده عن ابن عباس ، قال : قال علي ( عليه السلام ) لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " يا رسول الله ، إنك لتحب عقيلا ؟ قال :إي والله إني لأحبه حبين : حبا له ، وحبا لحب أبي طالب له ، وإن ولده لمقتول في محبة ولدك ، فتدمع عليه عيون المؤمنين ، وتصلي عليه الملائكة المقربون . ثم بكى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى جرت دموعه على صدره ، ثم قال : إلى الله أشكو ما تلقى عترتي من بعدي " (2) .
ويتضح سرّ تركيز النبي (صلى الله عليه وآله) على آل عقيل إذا عرفنا أنّ ديار هذا الفرع الطيّب من هاشم قد أصبحت بعد الطفّ خراباً يباباً قفرةً لا يقطنها غير من لا همّة له في تعميرها إذ رحل جميع رجال هذه الديار وبلَغوا الفتح مع سيدهم في عاشوراء " فإنّهم كلّهم هاجروا مع الحسين (عليه السلام) إلى العراق ولم يبق إلّا نساء عند الأزواج فبقيت ولا ساكن بها وهدمها والي يزيد " كما في بعض الأخبار التاريخية (3) .
وكانَ رائدُ آل عقيل ومبَرَّزهم في هذه الملحمة سفير الإمام الحسين (ع) إلى الكوفة مسلم بن عقيل (ع) الذي ضاهى في غربته ووحدته وغدر قومه به ما جرى للإمام الحسين (ع)! ولم تنثنِ له عزيمة ولا فتَرت له همّة حتّى قُتِلَ في حبهِ للسبط الشهيد (ع) فحَقَّ أن ينعاه ويبكيه النبي والمؤمنون من قبلُ ومن بعدُ وتصلّي عليه ملائكة السماء أبد الدهر كما أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) في الحديث المذكور .
وإذا أردنا الاقتراب من هذه الشخصية العظيمة الفذة للتعرف أكثر على السبب الكامن وراء اعتناء النبي (صلى الله عليه وآله) بها كفانا الوقوف على هذين النصين المرويين في حق مسلم بن عقيل عن المعصومين عليهم السلام ..

النص الأوّل : رسالة الإمام الحسين (ع) مع مسلم بن عقيل

إذ جاء في الرسالة الجوابية التي أرسلها الإمام الحسين (عليه السلام) إلى أهل الكوفة مع مسلم بن عقيل : " ... وإني باعثٌ إليكم أخي وابن عمي وثقثي من أهل بيتي ، فإن كتب إلي أنّه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجا والفضل منكم على مثل ما قَدِمت به رسلكم وقرأت في كتبكم ، أُقدِم عليكم وشيكا إن شاء الله " (4) .
فلو لم يكن في شأن هذه الشخصيّة الفذّة سوى هذا النص الصادر عن المعصوم (عليه السلام) لكفى به دليلاً على سموّها وبلوغها المقام الذي تعزب عنه همم الرجال ، فهَلّا نظرت في وصفه (ع) لمسلمٍ بقوله : " أخي ، ثقتي ، من أهل بيتي " فإذا كان القلم يعجز عن الإفصاح عن حقيقة ما تكنّه هذه الألفاظ من معانٍ فإن الأفهام السويّة تدرك ولاشكّ بعض مغزاها .
ثمّ انظر إلى لغة الإمام الجازمة في اعتماده على تشخيص وتقويم مسلم بن عقيل للوضع على الرغم من حساسية الظرف وحراجته حيث يقول (ع) : " فإن كتبَ إليّ ... أُقدِمُ عليكم وشيكاً " فلو لم يكن الإمام (ع) على بيّنة من أهليّة مسلم بن عقيل (ع) وحنكته في تقييم مثل ذلك الظرف الحرج وقدرته على التعاطي بحكمة مع أسوء الاحتمالات المتصورة لما ألزَم نفسه بتقييمه للأوضاع بل لما أرسله من أصل .
وممّا يشير إلى ذلك أيضا أنه كان للإمام عليه السلام عدة سفراء آخرين الى العراق منهم : قيس بن المسهر الصيداوي وعبد الله بن يقطر وسليمان بن رزين ، ولم يرِد منه عليه السلام أنه كان له معهم ما كان منه إزاء مسلم بن عقيل (ع) ممّا يدّل على أنّه كان يوليه اهتماماً يُفرده به وكان له عند الإمام من المقام ما ليس لغيره .

النص الثاني : زيارة مسلم بن عقيل 

حيث روى نصّها العلّامة في البحار (5) وهي تفصح عن شيء ممّا اكتنزته هذه الشخصية العظيمة من خصال بلغت بها هذا المقام الرفيع والمنزلة السامية ، فلتُراجَع .
وممّا جاء فيها : " ... أشهد أنك قد أقمت الصلاة ، وآتيت الزكاة ، وأمرت بالمعروف ، ونهيت عن المنكر ، وجاهدت في الله حق جهاده ، وقُتِلتَ على منهاج المجاهدين في سبيله ، حتى لقيت الله عز وجل وهو عنك راضٍ ، واشهد أنك وفيت بعهد الله ، وبذلت نفسك في نصره حجته وابن حجته ، حتى أتاك اليقين ، أشهد لك بالتسليم والوفاء والنصيحة ، لخلف النبي المرسل ، والسبط المنتجب ، و الدليل العالم ، والوصي المبلغ ، والمظلوم المهتضم ... "
فهذا النص عند التأمّل فيه نجده لا يتحدّث عن أدائه لمقتضيات الشريعة فحسب بل هو صريح في بلوغ مسلم بن عقيل عليه السلام مرتبة اليقين " حتى أتاك اليقين " ومرتبة التسليم " أشهد لك بالتسليم " وهما من المراتب التي لا يبلغها إلا الأوحديّ من المؤمنين ، فلا غرابة بعد ذلك أن يسجل لنا التاريخ بسالة وصمود وثبات مسلم بن عقيل على مبادئه الحقّة مادام يغذي خطواته بيقينه ويكبح نوازع نفسه بتسليمه .
وفي تتمة الزيارة نصوص كثيرة تجلّي لنا بعض ما أغفله التاريخ عن هذه الشخصية العظيمة غير أنّ الملفت للنظر هو قوله : " أشهد أنك لم تهن ولم تنكل ، وأنك قد مضيت على بصيرة من أمرك " وهذا نظير ما ورد في شهادة المعصوم (ع) للإمام العباس (ع) أنّه كان على بصيرة من أمره أيضا ، ومسلم والعباس متقاربان في العمر ، وأنت إذا نظرت في النصين الواردين في زيارتهما وجدتهما متقاربين جدا وكفى بهذا اشارة على فضيلة مسلم وعلو مقامه في نظر أهل البيت عليهم السلام .

شهادات تاريخية في حقّ مسلم بن عقيل

ثمّ أضف إلى كلّ ذلك بعض الشهادات التاريخية التي هي اجمالا ومع غض النظر عن مديات موثوقيتها تصوّر لنا مقام مسلم بن عقيل وفضله بين قومه ومنها ما رواه البخاري – من أبناء العامّة – بإسناده عن عمرو بن شعيب قال اخبرني من سمع أبا هريرة يقول : " ما رأيت من ولد عبد المطلب أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم من مسلم بن عقيل " (6) .
ومنها ما رواه بعض المؤرخين من أنّ الإمام علي (ع) عند تعبئة جيشه في صفين جعل مسلم بين عقيل مع الحسن والحسين (ع) وعبد الله بن جعفر على ميسرته (7) فهذا إن صح فله دلالته الكبيرة على منزلة وحنكة وشجاعة مسلم بن عقيل على الرغم من حداثة سنّه ، فسلام الله عليه يوم وُلِد ويوم استشهد ويوم يُبعثُ حياً .
______
الهوامش
(1) جمعَ المحقق الشيخ قيس بهجت العطار شيئا كثيرا ممّا ورد في مصادر أبناء العامة من روايات عن النبي (صلى الله عليه وآله) في مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) والبكاء عليه في كتابه القيّم الموسوم بـ ( مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) رواية عن جدّه ، من كتب العامّة ) فليُراجع في المقام .
(2) الأمالي ، الشيخ الصدوق : 191 .
(3) يُنظَر : سفير الحسين ، عبد الواحد المظفر : 32 .
(4) الارشاد ، الشيخ المفيد : 2/ 39 .
(5) بحار الأنوار : 97/ 222 .
(6) التاريخ الكبير ، البخاري : 7 / 266 .
(7) مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 2/ 352 .