القائمة الرئيسية

الصفحات

الإسلام بين الروحية والمادية

 

الإسلام بين الروحية والمادية

بقلم جعفر الهادي

إنّ أيّة أمّة من الأمم وجدت أو توجَد على ظهر هذا الكوكب لا يطمئن لها عَيشٌ ولا يقرّ لها قرار إذا لم تتخذ لها موقفاً معيّناً من الكون والحياة يبتني على مبدأ أو عقيدة معيّنة أيضاً ، لأنّ هذه العقيدة تكون بمثابة نقطة انطلاق تحدد على ضوئه أنظمتها وسلوكها وطرائق معيشتها ، وعليها تكون علاقاتها الخارجية وأنظمتها الداخليّة وإذا لاحظنا أنّ هناك أمّة وقعت فريسة للفوضى وعدم التنظيم فبإمكاننا أن نعرف أنّ السبب هو عدم تعيين تلك العقيدة أو غموضها وعدم وضوحها .

ثمّ إنّ العقيدة التي تتبناها أيّ أمّة من الأمم إن كانت عقيدة ماديّة بحتة أي أنّ الانطلاق والهدف هما ماديان ، ومعنى ذلك أنّها تفسّر هذا الكون وما يتضمنه وما يحتويه من علاقات اجتماعية وأنظمة سياسيّة وأفكار وأوضاع وجميع العلاقات الأخرى حتّى ذلك الفكر المجرّد تعتبره نتيجة من نتائجها وانعكاساً لها وليس له أيّ تأثير في هذا العالم بل إنّ التأثير إنّما هو للمادة وحدها ، إنّ هذه العقيدة لا يمكن أن تعيش مهما حاول أصحابها أن يُضفوا عليها من نعوت وصفات ، وإذا تقبّلها الإنسان قهراً واختياراً فإنّ اليوم تتهاوى فيه هذه العقيدة لآتٍ قريب وذلك لأنّ الإنسان لا يمكن أن يعيش من أجل المادّة في وسطٍ ماديٍ لأنّ الانسان بطبيعة فطرته قد امتدّ في أعماق نفسه شعورٌ وإحساس لا تربطه بالمادّة أيّ علاقة أو صلة ، إنّه شعور يُطالبه قهراً بإشباعه لأنّه فُطِرَ وجُبِلَ عليه إنّه يحتاج الى سدّ الفراغ الشعوري الهائل الذي يبقى بعد قضاء كلّ مطالب العيش من أيسر سبيل وعدم سدّ هذا الفراغ إنّما هو شذوذ وانحراف عن الفطرة السويّة ، إنّ ذلك لجانب الذي يلحّ عليه إلحاحاً قوياً وتتجذر جذوره في اللحظة التي يرى فيها هذا الانسان النور هو الجانب الروحي ، هو الإيمان بأنّ هناك شيئاً لا مادياً وراء هذه وفوق هذه الطبيعة .

إنّه الإيمان بمبدعٍ خلّاقٍ الذي هو ليس بمادّة ولا يوصف بها ، وإنّما هو إله أدرّكهُ العقل والفطرة والوجدان ذلك الذي أعطى الإنسان العقل والتفكير وجعل في نفسه الروح والعاطفة ، الذي لا يُعرَف كُنهه ولا نتوصّل الى حقيقته " فالله هو الحقيقة الفكرية الكبرى الأولى التي يستنتجها العقل من الطبيعة ويرتاح بالوصول إليها من ألَم الفراغ والشكّ والجحود والانكار ويترتب على إنكار هذه الحقيقة مشكلات فكرية وهموم ذهنية عدّة لا تقاس بها المشكلات التي تثيرها بعض العقول المنحرفة حول اثبات تلك الحقيقة ، أجل إنّ إنكار الخالق يثير مشكلات لا عدد لها ولا يستقيم المنطق بها وتشعر النفس بألم الفراغ الهائل في الكون والضياع بين جبروت القوى العمياء الصمّاء البكماء الخرساء في الطبيعة وفقدان الأمل في أي شيء وجهل المصير في ظلمات الكون " هذا الجهل الذي يكون من إحدى نتائجه الحتمية هو القلق الذي يأكل النفس والذي لا يقتلع جذوره وبذوره إلّا الإيمان والاتصال الروحي وقد اتفق أكثر علماء النفس إن لم يكن كلهم على أنّ الاتصال الروحي بالخالق هو من أفضل السُبُل التي تقضي على القلق وفي ذلك يقول وليم جيمس عالم النفس الأمريكي واستاذ علم النفس بجامعة هارفارد : " إنّ أفضل علاجٍ للقلق هو الإيمان ويوافقه في هذا عالم النفس الانكليزي أ . إبريل فنراه يقول : لن تجد شخصاً متديناً حقاً تصيبه الأمراض النفسية " .

كما يذكر الطبيب الشهير الحائز على جائزة نوبل الدكتور إلكسيس كارليل مؤلف كتاب ( الإنسان ذلك العالم المجهول ) أنّ الصلاة هي أعظم طاقة نشاط في وسع المرء أن يولدها وهي قوّة كقوّة الجاذبية الأرضية وقد رأيت بوصفي طبيبا مجرباً مرضى أخفقت صنوف العقاقير في علاجهم ثمّ شفتهم الصلاة فالصلاة أشبه ما تكون بالراديوم أي أنّها منبع نشاطٍ ذاتي ذي قوّة شافية فحين نصلي نربط بين أنفسنا وبين قوّة دافقة لا تستنفد هي القوة التي تنظّم الكون " .

هذا وليس عجيباً أن نرى إنساناً كان يعتنق عقيدة ماديةً مدةً طويلة ليس عجيباً أن نراه وكلّه شوق ورغبة الى التقرب من الله يطلب العفو والمغفرة بعد أن تدركه الهداية وبعد أن تفتّحت بصيرته وأضاء النور قلبه وعقله ، ليس من العجيب أن نرى هذا الاندفاع القوي ، لأنّ هؤلاء قد انقضى عليهم ردحا من الزمن طويلاً وهم يكبتون هذا الشعور ويخنقونه ويحاولون أن يمزقونه ويبددونه في أعماق نفوسهم فإذا ظهر هذا الشعور بعد هذا الزمن الطويل فإنّه يظهر بصورة قويّة دفّاقة تتجسّد بالتمسّك بالدين تمسكاً قويّاً لأنّ هذا الجانب كما قلتُ سابقا جانبٌ لابدّ من اشباعه ، وإذا عاش الإنسان بدونه فإنّ÷ سيعيش شاذاً ومنحرفاً عن الفطرة الانسانيّة السوية ..

هذا وبالإضافة إلى الأضرار النفسيّة التي تصيب الإنسان المادّي فإنّ هناك أضراراً أخرى لا تقلّ خطراً عن الأضرار النفسيّة والفكرية ، وذلك لأنّ الماديّة تكون أهمّ عامل من العوامل التي ستشعل الحرب في العصر الحديث ، والحرب التي تخوضها الماديّة ليست حرباً من أجل الشرف أو من أجل قِيَمٍ أو مُثُلٍ عليا بل إنّما هي من أجل المادّة وحسب فتدمر الإنسان وتمزّقه شرّ ممزق ، لأنّ الشعب إذا تبنّى هذه العقيدة وجنّد لها القوى والطاقات فإنّه لابدّ وأن يطلب المادّة أينما وُجِدَت ويحاول الوصول إليها بكلّ طريقة ووسيلة ، ويبرر عمله هذا ويبرء نفسه بأنّ هذا العمل هو من أجل مصلحة الإنسان ورفاهيته ، ويتبنى هذه الفكرة حتى لو كانت على حساب الملايين من البشر ، ومن ههنا نشأ الصراع من أجل استغلال المادة والفوز بها ، فتنشر الحرب غمامها وسُحُبها ، وتسيطر على شمس السلام فتظللها بسحبها السوداء القاتمة ، وتنطلق الطاقات الشريرة لتذيب في بوتقتها الجذور والبراعم والأوراق الخضر ، وتكشِّر الوحوش عن أنيابها مكفهرة معربدة بعد أن اختفت ردحاً من الزمن تحت قناع الإنسان ، فأزاحت هذا القناع وكشفت عن حقيقتها .

إنّ الحروب الأخيرة قد هزّت العالم وروَّعته وأيقظت الضمير العالمي المرة بعد الأخرى ... ولكن ها هو العالم لم يكتف بهذه التجارب العنيفة التي مرّت عليه ، ولا شكّ أنّه إذا بقي على هذا النمط من السلوك فإنّه سيلاقي التجربة الأخيرة التي ستكون أدهى وأمرَّ ، وإنّ هذه التجارب كلّها قد أكَّدت على أنّ العالم بحاجة الى نظرة جديّة وجديدة إلى الحياة غير النظرة المادية التي لا تجرّ إلا الى الدمار والخراب ... .

هذا إذا كانت العقيدة ماديّة وقد صوَّر الماديّ فكرته بكلمة موجزة هي : " مملكتي في هذا العالم وحده " فهو لا ينتظر عالَماً آخر لا تكون مملكته هذه بالنسبة إليه إلّا زاوية حقيرة لا تساوي شيئاً .

وإذا كانت العقيدة روحية سماوية تتعلق بالسماء أكثر ممّا تتعلق بالأرض بل تعتبر ما في الأرض أشياء لا تستحق الاهتمام كما عبّرت عنها النصرانيّة بقولها " إنّ مملكتي ليست من هذا العالم " ..

فإنّ هذه العقيدة لا يمكن لها أن تعيش على هذه الأرض ، ذلك لأنّها تأخذ جانباً واحداً من جوانب الإنسان وتقتل الجانب الآخر ، ثمّ إنّها تجعل الإنسان انعزالياً أكثر من اجتماعياً ، كما ينعزل الرهبان في الصوامع والأديرة بعيدين عن النشاط الإنساني في هذه الحياة فتوقّف النشاط الإنساني معناه توقف الحياة نفسها وحاشا لله كثيرا أن يخلق حياة جامدة كجمود الجلمود ، ونتيجة لهذا النقص في العقيدة المسيحيّة فقد أخذ الإنسان الغربي يتنصّل منها وإن تظاهر بمسيحيّته ، وأخذ يعتنق كلّ فلسفة جديدة يعتقد أنّ بها إنقاذه من الفراغ والقلق الذي يعيش فيه ...

وممّا يدعو للأسف ظهور طائفة من الناس في فترات من التاريخ الإسلامي اتخذوا طريقة خاصة بهم يعيشون في قوقعة ضيّقة مكتفين بمسبحة وأوراد وتراتيل يتسكّعون على موائد الآخرين ويعتبرون هذه الطريقة هي الطريقة المُثلى وقد حفّزت هذه الطريقة الحاقدين على الإسلام أن يتهموا المسلمين بالتقوقع والتواكل ، ولكن ليس على أولئك الذين يتهمونه بذلك ما عليهم إلّا أن يدسّوا رؤوسهم في التراب ويعلموا أنّ هذه الطريقة ما أنزل الله بها من سلطان وأنّ الإسلام لو كان كذلك ما كان له أن يبني هذا البناء الضخم من الحضارة ولا أن يخضر له عود ، وان النتاج الذي انتجه المسلمون عبر التاريخ الاسلامي لدليل على حيوية الإسلام وتفاعله مع الحياة ، لقد جعل الاسلام من ساكن الصحراء عملاقاً تخرُّ له الجبابرة تقديراً واحتراماً ، اعترافاً بفضله الذي لا يعادله فضل ..

وإنّا إذا رأينا ظهور طريقة يتّبعها أفراد وينتمون إليها وسمّون أنفسهم بتسمية خاصّة فليس ذلك دليلا على أنّ الإسلام هو هذه الطريقة ، بل إنّ الإسلام يعتبر هذا النوع من السلوك انحراف وشذوذاً عن شريعته المثلى التي لا تجعل م الإنسان إنساناً كسولاً يعيش على ما تسخو به أيدي الناس ، بل إنّ الإسلام يدفع الفرد المسلم الى العمل ويجعله فرداً إيجابياً مع الحياة ، وإيجابيته ليست نابعة من العمل وحده بل إنّما هي نابعة من العمل والأمل فعليه أن يعلم دائماً أنّ هذه الدر هي ممر إلى مستقر دائم .

إذن فالعقيدة الإسلامية ليست عقيدة مادية موغلة في المادة ولا مثاليّة مغرقة في المثال " وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً " ، وإنّ الماديّة التي تقول بعدم الإيمان بوجود شيء وراء البناء المادّي للكون ، وهي التي تؤمن بتهالك طبع الإنسان على حبّ الأشياء المادية واقتنائها والاستئثار بمنافعها ، إنّ هذه الماديّة هي التي تناقض الإسلام تناقضاً صريحاً وهي الماديّة الملحدة . " وإنّ الماديّة التي نؤمن بها هي التي تهتم وتحتفل بصنع الخالق في البناء المادي للكون وتكشف وتجدّ وتجهد في كشف أسرار ذلك البناء المادّي وأنظمته وترى الخالق من خلاله وتعلم وتعتبر أنّ الأشياء الماديّة هي أوّليّات الحقائق العقليّة الممهّدة والموصلة لإدراك الحقائق الروحيّة والقِيَم العليا التي وراء المادة " .

وتعتبر المال شيئا مملوكاً لا مالكاً لها تهدر في سبيله الكرامة وشرف النفس وسماحة الخلق وحقوق الغير بل تعتبره وسيلة تحقق به نفع الغير ومساعدتهم وتحقيق الخير عامّة .

وهكذا فقد جمع الإسلام بين هذين الطريقين ولم يكن متطرفاً إلى أيّ طرف منهما وقد أدرك بعض الغربيين المنصفين هذه الحقيقة وبإدراكهم لها أدركتهم الهداية مثل ليوبولد فايس الذي يقول : " ومن بين سائر الأديان نجد الإسلام وحده يتيح للإنسان أن يتمتع بحياته الدنيا إلى أقصى حد ، من غير أن يضيع اتجاهه الروحي دقيقة واحدة وهذا يختلف كثيراً من وجهة النظر النصرانيّة "  وأخذ الرجل يوازن بين نظرة الإسلام إلى الحياة وبين نظرة الغربيين إليها فيقول : " إنّ الغرب الحديث – بصرف النظر عن نصرانيته – يعبد الحياة بالطريقة نفسها التي يعبد بها النَهِمُ طعامه ، إنَّه يلتهمه ولكنه لا يحترمه ، أمّا الإسلام فإنَّه ينظر إلى الحياة الدنيا بهدوء واحترام إنَّه لا يعبد الحياة ، ولكنَّه ينظر إليها على أنّها دار ممر في طريقنا إلى وجودٍ أسمى ولكن بما أنّها دار ممر ، ودار ممر ضروريّة فليس من حق الإنسان أن يحقّر حياته الدنيا ؛ ولا أن يبخسها شيئاً من حقّها إنّ سفرنا في هذا العالم أمرٌ ضروري وجزءٌ إيجابي من سنّة الله من أجل ذلك كان لحياة الإنسان قيمة عظمى ولكنّه يجب أن لا ننسى أنّها قيمة الواسطة إلى غاية فقط " .

ولمّا كانت طبيعة العقيدة الإسلاميّة هو هذا التوائم والجمع بين هذين الطرفين الذين لا يستغني عنهما الإنسان فهي إذن العقيدة الصالحة للبشر وهي التي يجب أن تبقى دون غيرها كما بقيت هذه القرون الكثيرة ، لأنّها عقيدة تحمل بقاء وجودها في داخلها لأنّها غير قابلة لأن تقضي عليها مفاعيل الزمن فتذوب في بوتقته أو تنهار أمام الإعصار الزمني الذي طوَّح بكثير من العقائد الهزيلة التي لم تقو على الصمود أمامه وسيجتاح بقية العقائد التي ستتهرأ أركانها وتنهار أسسها بخفقة من نسيم لا بإعصار عظيم وستبقى العقيدة الإسلامية عملاقة شامخة تتحدى الجبابرة والطغاة .

جعفر هادي 

النجف الأشرف 

نُشر هذا المقال في : مجلة الأضواء الإسلامية / السنة الخامسة / العدد الثالث / جمادى الآخرة 1384هـ / تشرين الأوّل 1964م / ص 139 – 142 / وهي مجلة كانت تصدر في النجف الأشرف .