كتب السيد مهند مصطفى جمال الدين : ضمن موسوعة (الموسم) اصدر الدكتور الاستاذ محمد سعيد الطريحي ( دام مجده) كتاب (ذكرى السيد مصطفى جمال الدين) بمجلدين كبيرين أنيقين جدا، اشتملا على سيرة الوالد الراحل وبعض من قصائده وبحوثه العلمية وكتابات الاساتذة وقصائد الشعراء في حياته وبعد رحيله عام ١٩٩٦م ...
وقد طلب مني ان اكتب مختصرا عن سيرتي ليكون احد موضوعات الكتاب وفعلا قد دونت ما تمكنت منه وعلى النحو الآتي :
بسم الله الرحمن الرحيم
سيرة ذاتية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد واله الطاهرين:
أقدم في هذه الاوراق مختصرا لسيرتي الذاتية، راجيا من المولى العلي القدير التوفيق فيما كتبت ودونت.
فأنا مهند مصطفى جعفر عناية الله حسين علي محمد جمال الدين، الذي اوقدت اشتعالاتُ شمس الجنوب أولى مراحل حياته، حين زرَعه الله في تلافيف أرضها الخصبة، في يوم ربيعي من نيسان في العام 1965 ، وارتوت نفسه من غدران بيتٍ تجذَّر فيه الولاءُ المحمدي والعشقُ العلوي، وانسابت فيه مياه العلم والادب والشعر، لتتفتح في داخله ممالكُ التعلق بسحر الابداع وطلب العلم والمعرفة، التي ظلت شاخصة في عقله وقلبه ، ومن اوضحها انجازات الجد السيد عناية الله في تأسيس ملاذٍ معرفيٍّ وعلمي وديني، تسمّت قرية صاحبنا تأسيا به لتكون "قرية المؤمنين" التي أصبحت نواة لناحية " كرمة بني سعيد "في "سوق الشيوخ " ضمن مدينة الابداع الجنوبي "الناصرية "، ولتحتضن هذه الناحية طفولته وصباه وشبابه ولتشهد تنقله في مدارسها الابتدائية والمتوسطة والإعدادية .
ولم تزل (كرمة المياه والعشق) – مدينتي الصغيرة - وفيَّة لمسيرتي وخطواتي، حيث نقلتني بأمانة صوبَ بقعة الضوء الأخرى، العاصمة الحبيبة بغداد، لأكمل دراستي في معهد التكنلوجيا.
لكن الحياة التي منحتني وجودا متجذرا في العراق، الذي تسامقت قامته بعلوّ نخيله، اوجدتني في زمن غطت عتمةُ جلاده على غبش أحلامه، واستوطن الموتُ والقهرُ والاستلابُ والجهلُ والفقرُ والظلمُ سهوبَه، لتنطفأ شموعُ لياليه، وتدوسَ على سنابل الود السومري والعشق الانساني للحياة، مما دفعني الى ايقاد حرائق العمل الجهادي والمثابرة الوطنية والمهمة الدينية، للانتفاض ضد قوى الظلام البعثي المستفحل تحت عجلات الرهبة والخوف والدمار، فكان نضالا سريا امتد لسنوات، حتى توجته انتفاضة الاحرار في شعبان 1991 م حين اصر عشاقُ الحياة والحرية والكرامة على أن يغتسل العراق برذاذها المتناثر من طراوة أرواح المضحين والعاشقين لوهج الحياة والكبرياء، وما نسيتُ ذلك ساعة قلت لثورتنا الكبرى:
والعاشقــونَ بطونُ الارض تحْــملهــمْ
مـروّا على بابـكَ العـلويّ وارتحلوا
أولاء مـن ركـزوا "شعبـان" ملـحمـةً
وجّسدوها ولـم يُعـرفْ لـهمْ مَــثــلُ
هـمْ وحدَهـم يمنحونَ الفجرَ أوسـمةً
هـمْ وحـدَهمْ أنـبياءُ العشـق والرسُل
وها هي الشمسُ ما جـفّت أشـعّتـُها
ولا طـوتها اللـيــالي وهي تـنخـذلُ
كـانـت هنــا وأبـو الثـّوار حـمّلهــا
جــيــلاً فـجــيـلاً الى الآتيـن تـنتــقلُ
وعانَـقَـتْ رافـديـها وهـي من ألـــمٍ
تــصيحُ: يا سهلُ , يا أهوارُ ,يا جبلُ
تلك الشـعوبُ التي ضاقـت بأدمعِنا
لـــمّا سُــحقـنا وتاهـت دونـنا الحـيــلُ
حتّى نسينا جـراحَ الأمس فهي بنا
ضلّتْ طـريقًا وقـد أسرى بها الأجلُ
أعلامُ ثــورتِـنا الكـبرى مرفـرفـةً
لكـلِّ مـن قـطعوا حـبّاً ومن وصـلوا
إلّا أنّ بطشَ الظالم وقسوته رمانا في لهيب صحراء اللوعة والغربة، التي اتسعت باتساع شوقي واحلامي الى الوطن، الذي أُبعِدتُ عنه قسرا، ولكن منطقة رفحاء التي استضافتنا لمدة سنة كاملة، برمالها وهجيرها أبت إلّا أن تكون مسوّرةً بقضبان الحسرة لرؤية المدينة والحياة، فوجدتني مع عائلتنا الكبيرة "ال جمال الدين " بضيافة رائد الحب والخصب والرؤى والجمال، المصطفى الذي لم ار حتى هذه الساعة نظيرا له، فقد حباه الله خلقا رفيعا ونفسا كبيرة وقلبا رحيما، اتسع لأكثر من ثمانين نسمة، وهو لا يملك الا قوت يومه في بلاد الرقة والمودة سوريا الشام، وشاءت ارادة الله ان التقي والدي بعد غياب دام اكثر من اثنتي عشرة سنة، غير أن المشيئة الالهية وضعتني في عجلة الفراق مرة اخرى، وإن كان مختلفا في هذه المرة، إذ اصبحتُ ملتصقا بظله متوحّدا مع حميميته، التي شعت بقلبه وهو يفتخر أن له ولدا قريبا اليه يحمل علمَهَ وأدبَهَ وعمامتَه ، فقد توجّني بها في بلاد رآني فيها المتنبي غريبَ الوجه واليد واللسان، ساعة فجّر دموعَه وهو يقول لي :
دعني أعشْ في حُلمٍ من يقظتي
أن سوف أحيا بينكم في ولدي
ويحملُ الرايةَ ارخْ في غـــدي
أبــو حســام مــن أبـــي مــهند
وهكذا ظلت روحُ الابداع التي اصطفاها الله في عائلتي وابي " المصطفى " تتوقد لترسم طريقي باتجاه الدراسة الدينية، التي بقيتُ اتنقل فيها من مرحلة الى اخرى، ثم طفقتُ أمزجُ بعد ذلك بين الحوزة وبين الدراسة الاكاديمية، في جدلية العلائق المترابطة للهمّ العلمي والمعرفي الواحد بين الدراسة الدينية (( الحوزوية )) والمؤسسة الاكاديمية .
واقلتني رحلة العلم لتضعني في واحة الماجستير، التي حصلت عليها بدرجة امتياز، بعد ان اعشوشب العراق بندى التحرر من الظالم الاوحد، وعاد ليتعطر بنكهة التاريخ المزدحم بثمار الابداع والفرادة والحرية التي يستحقها بلدي، فكان العام 2006 حصيلةَ الجهد المتواصل من خلال رسالتي الموسومة ب" فقه النظر بحث فقهي استدلالي " ، وفي عام 2012م توّج الجهد بحصولي على الدكتوراه من خلال اطروحتي الموسومة ب( دلالة المعنى الظاهر على المراد الجدي ) في كلية الفقه / جامعة الكوفة ، والتي نالت درجة الامتياز.
ولما تزل مسيرة البحث الاكاديمي تتواصل مع الدرس الديني في سبيل الجمع بين الحسنيين وممارسة التدريس في الكلية نفسها والاشراف على طلبة الدراسات العليا فيها ومناقشات الاطاريح والرسائل الجامعية، فضلا عن المشاركة في المؤتمرات العلمية في داخل العراق وخارجه، اذ تنقل بي الهم المعرفي من كوفة علي الى بغداد الحضارة وموصل ابي تمام وبصرة الخليل، والى الكويت، وبيروت ، وتونس، ودمشق، وقم، وطهران ومن ثم لندن وروما وبرلين وفينا ولينداو، مشاركا ومحاضرا في حوار الاديان، الذي توج بلقاء البابا في الفاتيكان.
أما الدرس الديني وتلقي العلم في مرحلة البحث الخارج والتدريس في الحوزة العلمية المباركة في النجف الاشرف فقد ظل مرافقا لي حتى كتابة هذه السطور، وقد اثمرت هذه المسيرة صدور كتابي الموسوم ب(دلالة المعنى الظاهر على المراد الجدي)، وبحوثا ودراسات ورسائل ، اسرد اسماء بعض منها فيما يأتي :
1. فقه الاقرار / دراسة مقارنة .
2. التجانس بين الاديان السماوية / اشكالية المنهج والمقاربة .
3. قراءة في فقه المواطنة .
4. تأصيل الاجتهاد مفهوما ومصطلحا .
5. قراءات في آليات استدلال الفقهاء المسلمين .
6. فقه الدولة في ضوء مقاربة النظرية الفقهية .
7. الدلالة في البحث الاصولي .
8. المجاز في علم الاصول
9. قراءة في نظرية الخبر الواحد
10- الحكم الشرعي وتقسيماته
11- قراءة في التكليف الشرعي
12- التعريف بعلم الاصول
اما بحوثي الاخرى فاذكر منها:
1- شعر السيد مصطفى جمال الدين السياسي .
2- اثر الصورة الشعرية في المدينة المحافظة
3- بحث في القافية
4- مقدمة لديوان "جميل حيدر"
5- مقدمة لديوان "الشمعة الثائرة"
6- مقدمة لديوان "ديواني" لصالح الظالمي
7- مقدمة لكتاب "ظواهر لغوية في شعر مصطفى جمال الدين"
8- مقدمة لديوان "مهدي بحر العلوم"
9- مقدمة لديوان "شواظ القوافي"
10- مقدمة لديوان محمد حسين الصغير
11- مقدمة لديوان أحمد الدجيلي
12- مقدمة لديوان النخيل للشيخ حسين الصغير
13- مقدمة لكتاب دعبل الخزاعي
14- مقدمة لكتاب افاق نجفية
15- مقدمة لديوان (والصبح اذا تنفس)
16- مقدمة لديوان (ادم اخر)
17- مقدمة لديوان عبد المنعم الفرطوسي
18- مقدمة للمجموعة الكاملة لياس السعيدي
19- مقدمة لديوان الحشد الشعري
20- مقدمة لديوان (النقوش التي ليس لها غير قلبي)
21- حركة الامام الحسين من المنظور العقلائي
22- الطقس الحسيني بين الاعتقاد والتشكيك
23- اضافة الى كتاب سيد النخيل المقفى
ولأن الادب والشعر معجون بدماء عائلتنا مثلما انعجن العلم بدماها، تعمدتُ بماء وجده واستوطنتُ احضان بهاء بقاعه وشمسه، التي اشرقت على روحي مذ دُحيت، ليساير صباي وشبابي ويمثل منجزا حياتيا تمظهر في مجموعة شعرية اولى صدرت لي في بلاد المهجر عام 2000 حملت مظهرا لغويا متساوقا مع ثيمة انتظار الفجر في عراقنا، فكان عنوانها (( انتظار عيون مسافرة ))، دلفت من خلالها ممالك اللغة والكلمات المشتعلة بشوق لحياةٍ تمورُ في عمق ارواحنا التي تنشد انسانية متكاملة .
وحين ترطبت روحي ثانية بندى العراق واعشوشبت بفيض ارضه وألق سمائه بعودتي الى احضانه في العام "2003 م " بعد ان تهتكت حجب الظلمات وتلقتني ارضُ النجف لتتواصل مسيرةُ العلم والدرس والشعر، الذي حملته بشغف وبنيت في عرش وجوده قلبا نابضا بوهج العشق للحياة والوطن ولتتماهى الحدود بينهما فكانت المجموعة الثانية (( همسكِ الماء )) ، التي احسب انها مثلت ذاتي الشعرية حين تسيد الشعر طرقاتها ورواها بوجوده الباذخ والممتد الى عوالم الشعر العربي التي تميزت بنكهةٍ معاصرة تناسلت من معين الارث المعرفي العربي، وبانتظار مجموعتي الثالثة (قصائدي) التي آمل أن ترى النور قريبا ان شاء الله تعالى.
وظلت روح الشعر تسطع في داخلي لتعلن عن ذاتها وهي تشارك في مهرجانات امتدت على طول مساحات الجمال في داخل العراق وخارجه حيث تواشجت القصائد مع مربده ومنتديات نجفه وضفاف دجلة بغداده وبقاعه الاخرى .
ولأنني أؤمن ان الثقافة والمعرفة تمثلان اساس الوجود المجتمعي والحضاري عموما من خلال التلازم الكامن في البنية الحضارية المشكلة للمناخات الثقافية والمعرفية ، فقد تبنيت رؤية متكاملة وناضجة للواقع الثقافي والمعرفي العراقي حين تسنمت ادارة (( المكتبة الادبية المختصة في النجف الاشرف )) منذ انتقالها الى احضان امام البلاغة والبيان والندى في النجف في العام 2005 والى وقتنا هذا ، اذ عملت على تجسير الصلة بين العمل المكتبي والفعل الثقافي على وفق شرائط الاندماج والتكامل الخاضعة لجدلية العلائق بين الثقافي والديني والمجتمعي والاكاديمي ، وصولا الى الانخراط في الفعل الثقافي البناء لتجاوز معوقات الانصياع الاعمى الذي غطى على الحركة الثقافية طوال سنين الظلم العجاف.
وانا لما ازل مستوطنا في مدينة علي (ع) مع عائلتي واولادي : حسام وسجاد وحيدر ويوسف وامنة وزهراء ومودة.
والحمد لله، فقد اصبحوا امتدادا مباركا لاجدادهم الكرام، إذ اعتمر كبيرهم (السيد حسام) العمة المباركة، وحصل ايضا على شهادة الدكتوراه في الشريعة الاسلامية، بينما اختار شقيقه (سجاد) حقلا علميا اخر، ليكون دكتورا في الهندسة الكهربائية، وارجو من الله ان يبارك بهم لصون الامانة، التي تلقوها من آبائهم واجدادهم، وذلك باكمال مسيرتهم العلمية المعرفية، واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
مهند مصطفى جمال الدين
25- 11- 2020
النجف الاشرف