القائمة الرئيسية

الصفحات

ما هي الدلائل الروائية والتاريخية على ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) | السيد محمد باقر السيستاني (حفظه الله)

الدلائل التاريخية والروائية على ولادة الامام المهدي السيد باقر السيستاني
الإمام المهدي في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) / 1
آية الله السيد محمّد باقر السيستاني (حفظه الله)
السؤال: ما هي المؤشرات القائمة على ولادة الإمام المهديّ (عليه السلام) في مذهب أهل البيت (عليهم السلام) رغم ما يحيط بهذه الولادة من خفاء، وما تعنيه من طول عمر الإمام (عليه السلام) حتى الآن لمدة اثني عشر قرنا ؟
الجواب: إنّ هناك دلائل واضحة للغاية من المنظور التاريخي والروائي على ولادة الإمام (عليه السلام).
وترتكز قاعدة هذه الدلائل في أوساط الشيعة الإماميّة على وتدٍ بديهيٍ مُثبَتٍ بأحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ومؤكَّدٍ دائماً بأحاديث الأئمة من أهل بيته (عليهم السلام) وهو مبدأ استمرار الاصطفاء والإمامة في أهل البيت منذ زمان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يوم القيامة .
فقد كان هذا الاصطفاء منذ تبليغه من قبل النبيّ (صلى الله عليه وآله) بحديث الثقلين مبدأً ثابتاً ومستمراً إلى القيامة، ولذلك جاء في هذا الحديث الأمر بالاعتصام بالقرآن الكريم وبأهل البيت (عليهم السلام)، وذكر أنهما لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض، ولو كان الاصطفاء لشخصٍ واحدٍ - كالإمام علي (عليه السلام) - أو ثلاثة - كالإمام علي والحسنين (عليهم السلام) - ثمّ تكون الأمّة خالية عمّن يُصطفى منهم لكان في ذلك ما يقتضي التنبيه عليه طبعا .
كما أنّ الإمام علي (عليه السلام) - الذي نشر مبدأ اصطفاء أهل البيت (عليهم السلام) - في الكوفة من خلال خطبه - التي جُمع قسم منها في نهج البلاغة - كان يتحدث عن حالةٍ دائمةٍ ومستمرةٍ ينبغي للأمّة التمسّك بها في كلّ زمانٍ ويقول : إنّه " لا تخلو الأرض من قائم لله بحجةٍ. إمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً " (1)، ويقول: (ألا إنّ مَثَل آل محمدٍ صلى الله عليه وآله كمثل نجوم السماء إذا خوى نجم طلع نجم " (۲).
وعلى هذا الأساس كان تبليغ الأئمة المصطَفين من ولده كالباقر والصادق (عليهما السلام) فهم كانوا بوضوح يوجهون الشيعة دائماً إلى استمرار الإمامة على وجه الاصطفاء في أهل البيت (عليهم السلام)، كلّما غاب أحدهم خلَفه آخر منهم .
وهذا مبدأ بديهيٌ وواضح للغاية لدى الشيعة آنذاك، وتدل عليه آثار تاريخيّة وروايات متواترة .
ولذلك كان الأئمة (عليهم السلام) يوصون قرب وفاتهم إلى من يخلفهم، وكان الشيعة - الذين يفاجَؤون بوفاة الإمام - يهتمون بالبحث عن خليفته حتّى يطّلعوا عليه في ظروفٍ كان الإعلان العام المسبَق أمراً مستحيلاً لأنَّه مقابلة للسلطة السياسية .
وعليه فإنّ الالتزام بانقطاع الإمامة بعد عددٍ من الأئمّة (عليهم السلام) يعني بطلان أصل مبدأ اصطفاء أهل البيت (عليهم السلام) من هذه الأمّة؛ لأنّه مبدأ بُني لذاته على دوام الاصطفاء والإمامة في أهل البيت (عليهم السلام)، ولو جاز الانقطاع لبلَّغ ذلك الأئمة (عليهم السلام) للشيعة بشكلٍ واضحٍ، بينما لا يوجد أيّ تبليغٍ أو إشارةٍ إلى انقطاع الاصطفاء والإمامة والوظيفة عنده، بل ما يوجد هو الإشارة إلى غيبة الإمام (عليه السلام) فقط .
وقد ثبَّت الأئمة (عليهم السلام) بعد الحسين (عليه السلام) - كالباقر والصادق (عليهما السلام) - جمهور شیعتهم على وتدٍ آخر مُوضِّحٍ لمسار الإمامة وهو أنّ نظام الإمامة بعد الإمام الحسين (عليه السلام) يكون في ذريته على نظام الابن بعد الأب، ولا يكون في أبناء الأخ وأبناء الأعمام أبداً، فكانت الإمامة منذ الحسين في السجاد ثم الباقر ثم الصادق ثم الكاظم ثم الرضا (عليهم السلام) ولذلك لما تأخر إنجاب الإمام الرضا (عليه السلام) سأل الشيعة عمَّن يخلفه فأشار إلى أنَّه سيُولَد له، وقد وُلِد له بالفعل الإمام الجواد (عليه السلام)، ثمّ كانت الإمامة في ابنه علي الهادي (عليه السلام)، ثمّ في ابنه الحسن العسكري (عليه السلام) . فكان هؤلاء الأئمة (عليهم السلام) بوضوح هم قادة جمهور الشيعة الإمامية الذين يرجع إليهم جمهورهم وتراقبهم السلطة السياسيّة المعاصرة لهم مراقبة حثيثة للغاية .
ولذلك نجد أنّ الخلفاء العباسيين - الذين كانوا يرصدون فرق الشيعة الساعين للحكم بمختلف أقسامهم - دائما يختارون هذه السلسلة للتركيز عليهم وإحضارهم إلى مراكز الخلافة، فنجد أن هارون استدعى الإمام الكاظم (عليه السلام) وسجنه، وعندما برز ابنه الرضا (عليه السلام) أحضره المأمون إلى مركز الخلافة وكانت في مرو - ببلاد خراسان آنذاك ، وعندما توفي بالسم أحضر ابنه الجواد من المدينة إلى بغداد رغم قلة عمره، وعندما توفي أحضر المتوكل الإمام علي الهادي، وبعد وفاته أحضر الإمام العسكري في سامراء. وفي أماكن قبور الأئمة - بين طوس وبغداد (الكاظمية) وسامراء - دلالة واضحة على استدعاء الخلفاء لهم إلى مراكز خلافتهم ووضعهم تحت الإقامة الجبرية والرقابة المشددة، فالسلطة العباسيّة كانت منتبهة إلى أن سيرة الشيعة الإماميّة وفق توجهات أهل البيت (عليهم السلام) عبر كون الإمامة في الولد بعد الوالد .
وبذلك كان هناك إنباء إجماليٌ معروفٌ بين جمهور الشيعة الإماميّة كقاعدة بديهيّة وراسخة تعتبر أصلاً واضحاً للغاية في أوساط الشيعة الإماميّة منذ قرنين ونصف بأنّه سوف يكون بعد الإمام العسكري (عليه السلام) إمام مصطفى من أهل البيت (عليهم السلام) لا محالة . ولا انقطاع محتمَل للاصطفاء والإمامة، ولا سيّما قبل وجود المهديّ في هذه السلسلة ، ويكون هذا الإمام في ابنٍ له يخلفه (عليه السلام) لا محالة .
هذا، ولكن لم يكن من الحكمة للإمام (عليه السلام) إشهاره (عليه السلام) بولده المهدي (عليه السلام) لوجهين:
الأول: إنّ ظهور الإمام (عليه السلام) لعامّة الناس كان أمراً خطراً للغاية من عدة جهات :
منها: أنّ من المتوقع حدس السلطة بكونه (عليه السلام) هو المهديّ في هذه السلسلة من خلال وقوفها على أخبار کون الأئمة اثني عشر في هذه الأمّة كما رواه أهل السنّة، وكان قد أكدها الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) - كالصادق (عليه السلام) - في بعض أخبارهم للشيعة، وإذا لم يكونوا قد أفصحوا أنّ المهديّ (عليه السلام) سوف يكون الأخير منهم، فإنّ ذلك ممّا كان يمكن أن تحدس به السلطة التي كانت تراقبهم وتراقب أخبارهم بعد أن مضى أحد عشر إماماً منهم .
ومنها: أنّ السلطة لم تكن تصبر على الأئمة من آل البيت (عليهم السلام) طويلاً لتعاظم خشيتها بمضيّ مدّة على إمامتهم ومعروفيتهم لدى الشيعة وكأنّه من جهة خشية إفلاتهم وخروجهم بغتة، ولذلك رُوي أنّ هذه السلطة سمَّت الأئمة (عليهم السلام) الذين جعلتهم تحت الرقابة الجبرية ومنهم الإمام العسكري (عليه السلام). وعليه فكان ظهور المهدي (عليه السلام) أمراً خطيراً؛ لأنّه سوف يكون عرضةً للاغتيال .
الآخر: إنّ المهديّ (عليه السلام) كان حالةً استثنائيّة ومميّزة بحسب السنن الإلهية للإمامة؛ إذ أوتي الرشد والحكم صبياً وكان عمره عند وفاة أبيه العسكري خمس سنوات، كما كان من المقدَّر بحسب السنن الإلهية أن يبقى طويلاً ولا يسعى إلى الحكم عاجلاً، فكان اختفاؤه منذ البداية أولى وفق الحكمة المقدَّرة حتى لا يتغيَّر أمره من حال حضور إلى غيبة لا بد له منها .
كما أنّ هذه السلطة كانت تثق بأنّ في هذه السلسلة مهديّها، وتراقب الأئمّة فيها واحداً بعد واحدٍ خوفاً من أن يكون المهديّ منها؛ إذ عُرِف في أوساط الشيعة من خلال ما أُثر لديهم عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) باتجاهاتهم المختلفة منذ القرن الأوَّل هو الإمام الذي يقيم دولة أهل البيت (عليهم السلام)، ولذا كان كل من يخرج من بني هاشم ضدَّ السلطة يتنبأ بأن يكون هو المهديّ - في ظروف لم تكن تسمح للأئمة (عليهم السلام) بإشهار صاحب هذا اللقب النبوي حقّاً ، فَوُصِف زید بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بالمهدوية، وكذلك محمّد بن عبد الله بن الحسن المثنّى المعروف بالنفس الزكيّة، وأسمى الخليفة العباسي المنصور ولده (محمد) ولقبه بـ (المهدي) امتصاصاً لزخم هذا النبأ، ولُقِّبَ أوَّل خليفة فاطمي - من الفرع الإسماعيلي - بـ (المهدي) .
ولذلك كان خلفاء بني العباس يخشون (المهدي) في سلسلة الأئمة من ذريّة الباقر والصادق (عليهما السلام)، وهي سلسلة قياديّة في الشيعة بوضوح، وتمارس القيادة الروحية والمعنوية والعلميّة، وتدّعي الشرعيّة السياسيّة بطبيعة الحال في منظور هؤلاء الأئمة وشیعتم جميعا، فهم كانوا نافذين في أتباعهم على أساس الاصطفاء الإلهي الشامل والحكم والعلم والتسديد جميعاً على خلاف الفرع الزيدي الذي يبني على الأولويّة السياسيّة للحكم في ذرية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فحسب .
إذن من الطبيعي في مثل هذه السياقات أن يختفي الإمام المهدي (عليه السلام) عند ولادته، ويكون إبلاغ والده العسكري للشيعة بوجوده بدلالات خاصّة وذكيّة موثوقة سوف تفرض نفسها وتقنع جمهور هذا المذهب، بعد أن كانت هذه الدلالات تجري وفق المبادئ التاريخية والاعتقادية الثابتة لهذا المذهب في استمرار الاصطفاء في أهل البيت (عليهم السلام) و نظام الابن بعد الأب من بعد الحسين (عليه السلام) وإكمال عدد الاثني عشر في الأئمة في هذه الأمّة .
وهكذا كان الحال بحسب الواقع، حيث اهتدى جمهور الشيعة إلى الإمام (عليه السلام) تدريجاً على اختلاف مواطنهم ومدارسهم الفكرية وظهرت الدلالات التي بثوها في أوساطهم مؤكَّدة بالقواعد العامّة الراسخة من قبل .
وقد جاءت تفاصيل تبليغ الإمام الحسن العسكري واطلاعه بعض كبار رجال الشيعة ووجهائهم على ابنه المهدي (عليه السلام) في كتب الإماميّة - ومن جملتهم الوجه الهاشمي المعروف من مبرزي شخصيات بني هاشم في عصره وهو أبو هاشم الجعفري - بحيث أن العديد من الشيعة من أهل العلم وسائر الناس منهم - وإن تحيروا منذ البداية لصعوبة الغيبة - اقتنعوا ووثقوا بعد استكمال التحرّي، فكانت أصلاً واضحاً وبديهياً من حينه إلى هذا العصر .
وأما طول عمر الإمام (عليه السلام) فهو ليس بالعائق عن التصديق به بعد الانتباه إلى أن الأئمة (عليهم السلام) من أهل البيت (عليهم السلام) هم عباد مصطفون کالأنبياء في الأمم السابقة يتفق لهم ما اتفق للمصطفين في تلك الأمم من قبل . فقد لوحظ تميُّز الإمام الجواد (عليه السلام) في العلم وتبوئه الإمامة رغم صغر سنه، وكذلك ابنه الإمام الهادي (عليه السلام)، ولم يستطع خلفاء بني العباس - الذين استدعوهم إلى مراكز الخلافة - من الطعن أمام عموم الشيعة في علمهم - الذي كان شرطاً أساسياً في إمام الشيعة -. ولقد جاء في الدين ظواهر خارقة في المصطفَين في الأمم السابقة، مثل إيتاء يحيى الحكم صبياً، وبكلام عيسى في المهد، ورُوِيَت أعمارٌ طوالٌ لبعض الأنبياء فليس هناك غرابة في طول العمر يعيق عن التصديق بمهدويّة الإمام (عليه السلام) بحالٍ . وهذا واضح للغاية وفق الأصول التي أرساها أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في المجتمع الإمامي مبكراً .

الهوامش
(1) نهج البلاغة (خطب الإمام علي ع) : 4/ 37 .
(۲) نهج البلاغة (خطب الإمام علي ع) : 1/ 194 .